نشر أبراهام بورغ قبل أيام في صحيفة "هآرتس" مقالًا بعنوان "أحمد الطيبي رئيسًا لبلدية أورشليم" وفيه يفترض الكاتب إمكانية ترشيح النائب الطيبي لرئاسة البلدية في انتخاباتها المقبلة.
من المعروف أن انقلابًا شاملًا عصف منذ سنوات بفكر بورغ السياسي، ومع أنّ الاختلاف معه ما زال طبيعيًا وحيويًا ومُجازًا، لا يمكننا، تحميل ما كتبه في هذه المقالة على محمل التشكيك أو سوء النية؛ فمواقفه الجديدة في الشأن السياسي العام وتصوّراته لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي معروفة، وقد اعتبرت الأكثرية اليهودية اليمينية معظمها محض انحرافات خطيرة عن الاجماع الصهيوني السائد، وخيانة "بورغية" لماضيه الشخصي وماضي عائلته ومكانتها في بناء مفاهيم الصهيونية المتديّنة .
من هنا يمكننا اعتبار المقالة المذكورة محاولة "أكاديمية" يطرح من خلالها فكرة استفزازية غير مألوفة، ويستهدف من ذلك "هزهزة" مسألة قديمة/جديدة، يغطّيها، من حين لآخر، غبار الالتباس فتصير هنالك حاجة لإزاحته عنها ولإلقائها عارية على أرصفة المدينة، كيما تستجلب الرعاية والنظر.
إنها قضية القدس الشرقية وسكانها.
يقترح بورغ، الذي شغل في حياته مناصب سياسية مرموقة من بينها رئيس الكنيست، إقامة قائمة يهودية عربية يرأسها النائب الطيبي، ويؤكد لقرّائه أنّ حظوظ انتصار هذه القائمة على قوى اليمين والمتديّنين اليهود غير مضمونة، وإن كانت محتملة برأيه. وبعيدًا عن نتائج الصناديق، يؤمن بأن للتجربة محاسنَ كثيرة، تبدأ بزعزعة ثقة اليمين بقوّته، علاوة على وضع قضية القدس في صدارة الاهتمام الشعبي والرسمي، وعرضها "كنواة لعملية الغش الكبير الذي يمارسه الإسرائيليون على أنفسهم"، ونهايةً بكونها حدثًا سيختزل عناصر التباين السياسي الكبير المراوح بين حل الدولتين، أو الدولة الواحدة ويعرّي مواقف الفرقاء إزاءها.
يقول بورغ في مقالته: "لنفترض، فقط لنفترض، قيام القائد الأكثر شهرة في زمننا، النائب أحمد الطيبي، بالتنافس على رئاسة بلدية أورشليم، من خلال قائمة تشترك فيها معه شخصيات يهودية بارزة مثله على الأقل، فإنّه في ظروف معينة سيتمكن من الانتصار، وفي ظروف أخرى سيحظى بحصة كبيرة جدًا في المجلس البلدي وسيستطيع، من موقعه، إفادة المواطنين المهضومة حقوقهم في شرق المدينة".
أورشليم أم القدس؟
تمعن إسرائيل منذ احتلالها القدس الشرقية في ابتلاع أرضها والخلاص من سكانها. وقد جرّبت في مساعيها خلال العقود الفائتة عدة طرق وأساليب، لكنها لم تنجح في طرد السكان أو في تخفيض أعدادهم كما كانت تتمنى، فتحوّلت الى تنفيذ سيناريو ثان أحكمت بموجبه حصارها على المدينة وحيّدتها عن محيطها الفلسطيني ومنعت تواصل الفلسطينيين معها. وبالتوازي لاغتصابها الأرض والعقارات حاولت وما زالت تحاول تقويض لحمة المجتمع المقدسي الفلسطيني، وتفتيت عناصر هويته الجمعية. ومن ضمن ما جربته في العقود الخوالي كانت محاولاتها لإقناع المقدسيين بضرورة اشتراكهم في الانتخابات البلدية، من باب كون ذلك حقا لهم كمواطنين في الدولة، وإن كانوا لا يحملون الجنسية الإسرائيلية.
أذكر أنّ أساليب "إقناع" المقدسيين قد تعدّدت أصنافها، وإغراءات المؤسسة الإسرائيلية قد تنوعت وسائلها، لكنها في النهاية فشلت، إذ قاطعت أغلبية المقدسيين الساحقة انتخابات البلدية، دورة تلو دورة، بعد استبطانهم للموقف الوطني الفلسطيني الرافض للمشاركة، ومثله كان موقف المملكة الأردنية الهاشمية، التي اعتبرت وما زالت تعتبر القدس المحتلة قضية وطنية أردنية بامتياز.
مرّت خمسة عقود وما ظنّه البعض مجرد غيمة صيف عابرة، تبين أنه احتلال طويل الروح والنفس والأمد. وما كان محسوبًا كرياح موسمية صار، في القدس تحديدًا، مناخًا مقيمًا وعواصف عاتية، ومع هذا تعلّم المقدسيون، اجتناب المخاطر ومواجهتها وعرفوا، على جلودهم، أن للبقاء أثماناً وأحيانًا يستوجب أن تنحني ريثما يسكت الرعد وتخبو البروق، لكن بعضهم بدأ يسأل إلى متى؟
لم تتوقف إسرائيل عن استهداف المقدسيين وتوظيف عوامل داخلية وخارجية حتى استطاعت في السنوات الأخيرة تسجيل بعض الانتصارات المقلقة، فرغم ما شاهدناه من وقفة لافتة لأهلها، وصدّهم للهجمة الشرسة على المسجد الأقصى، علينا أن نقرّ بوجود عوارض تدلّ على اختراقات لـ"بواباتها" وعلامات تشهد على تصدعات في "جدرانها الواقية". ففي المدينة التي تنام على وجع وتخشى ألا تفيق نشأت "طفوحات" خبيثة وصارت أكبر من أن تخفى، وحدثت تراجعات كبيرة لن يداويها شعار ولا تكفيها أمنية ولا وعد، صادقاً كان أم خائباً. إنها حالة الالتباس الفظيعة التي ربما استهدفها بورغ في مقالته وأراد "خضّها"، أو كما قال بتعابيره "منافسة جدّية ونوعية على اورشليم، ستجبر كل المنظومات على الاهتمام بها". فهو مقتنع بأن خوض هذه التجربة سيضع اليمين الإسرائيلي ومثله اليسار أمام صدمة قوية ويحول الفلسطينيين من ضحايا إلى شركاء في التغيير الجذري لأنه "لن يبقى أحد في إسرائيل وفي المنطقة غير مبال" كما كتب.
القدس مختلة أم محتلة؟
أتصوّر أن كل مسؤول فلسطيني كان سيجيب على المقترح بما ردّ به النائب الطيبي، الذي رفض فكرة بورغ، مؤكدًا بإيجاز واضح "لا شكرًا، هذا يعطي الاحتلال شرعية.. تعالوا ننهي احتلال مناطق 67 وبضمنها القدس الشرقية"، لكن معظم القيادات ومثلهم الشارع بكل "أزقته وزنقاته" أهملوا الفكرة، وعاشوا في ظلال الماضي؛ فالموقف الفلسطيني التقليدي منذ عام 1967 تبنّى رفض مشاركة المواطنين المقدسيين في انتخابات البلدية، لكونهم سكانًا يعيشون تحت الاحتلال. ووفقًا لهذا المفهوم، وعلى الرغم من كون البلدية مسؤولة عن شؤون حياتهم اليومية وحقوقهم المدنية، ستبقى مشاركتهم في الانتخابات بمثابة الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الأرض المحتلة ومَن عليها.
في ظل غياب تعاطي القلم العربي مع الفكرة التي طرحها بورغ، برز رد الصحافي والكاتب العريق أوري افنيري في مقالته المنشورة أيضا في جريدة "هآرتس" يوم 13/3 تحت عنوان "الطيبي لرئاسة القدس؟ فكرة مجنونة، لكنها مغرية"، يسرد أفنيري بلباقة من رضع دروس التاريخ، نبذة قصيرة من علاقته الطويلة مع أمير القدس الراحل فيصل الحسيني، ثم ينتقل مستعرضًا فكرة بورغ فيصفها في البداية على أنها "مجنونة"، لكنه يضيف مفاجئًا: "بعدها بدأت الفكرة تتسرّب إليّ، وبدأت أمحّصها، فلربما رغم ذلك، يوجد بها شيء ما".
يفقه أفنيري أن العائق المركزي في وجه قبول هذه الفكره هو شعور الفلسطينيين في شرقي القدس "بأن اشتراكهم في الانتخابات البلدية الإسرائيلية يعادل عندهم خنوعًا للاحتلال". ويعرف كذلك أنّ مشاركتهم لن تتمّ بدون موافقة وطنية واسعة، مع أنه يعلم أن نسبة المصوّتين العرب في القدس تصل إلى 40% من نسبة الناخبين العامة، ويلفت عناية القرّاء إلى أنّ المشاركة الجدية قد تسبب إسقاط الرئيس اليميني المتطرف نير بركات، ولربما ستفضي إلى انتخاب مرشح كأحمد الطيبي، إضافة إلى ذلك يفيدنا بما يؤمن به، فحتى لو لم تنجح التجربة ستزعزع السابقة سيطرة اليمين والمتدينيين في البلدية وستخلق ديناميكية ايجابية مختلفة.
فهل يوصي العرب بقبول الفكرة؟
لا يجيب أفنيري على ذلك ويعلّل عدم إجابته بأنه "ومنذ بداية علاقتي مع ممثلي هذا الشعب.. امتنعت عن إسداء النصائح. شعرت دائمًا بأنني سأكون كإسرائيلي وقح يعطي النصائح للفلسطينيين. إذن ما العمل؟ أُسمعهم رأيي كزاد للتفكير".
سيبقى الهم في النهاية كما كان في البداية فلسطينيًا، ولو لم يأتِ هذا المقترح في سياق عاصفة ترامب الهوجاء على القدس وقراره بنقل سفارته إليها، ولو لم يعجّ الفضاء بحديث عن "صفقة العصر" لكان من الممكن تناول الفكرة وتفكيك مفاصلها وسبرها أو رفضها بروح مسؤولة وجدّية، تأخذ بعين الاعتبار مخلفات غبار خمسين عامًا للاحتلال/ للاختلال ومساحات جديدة للمستقبل. فمن المؤكد أنه ستمرّ على القدس أوقات عصيبة وسيلحّ عليها السؤال قريبًا ويبين الخلل، فأيّ خيار سيُبقيها صدرًا لفلسطين وصخرة للحلم وحارسة للقيامة؟ بعض من تربى في أحضان قبابها يراها تعيش تحت سطوة الالتباس وتعاني من وقوع النقطة على الحاء.
يتبع
جواد بولس
كاتب فلسطيني