في 21 مَارس سَنة 1968 استَبشرت الأُمّة من مُحيطها إلى خَليجها بانتِهاء عَصر الهَزائم مَع العدو الصّهيوني فِي صَبيحة ذاكَ اليوم انطَلقت الزّغاريد وانتفَضت الجَماهير والأُمّهات مِن لَحظات اليَأس القَاتلة إلى مَدٍّ تعلُو فيه أصوات الثّأر لهَزيمة عَربيّة ، هَزيمة جيُوش في حَرب الأياّم السّتة كَما سمّاها العَدو الصّهيوني .
كَانت حَركة فَتح هي طَليعة المُواجهة فِي بلدة الكَرامة وغَورِها واندَمل كِبرياء مُوشي ديّان الذي قَال عن المُقاومة الفِلسطينية أنّها كالبَيضة في يَده يَستطِيع فَقشها وقتَما يَشاء .
تَعوّدت الجَماهير الفِلسطينية والعَربية أن تحتَفل في مِثل هَذا اليوم من كُل عَام ، لأنّ هَذا اليَوم هُو رَمز المُقاومة ورَمز الإنتِصار لشُعوب الأُمة العَربية ، تِلك المُقاومة الّتي كَان لَها أن تُغيّر مَجرى التّاريخ كَما قَال قائِدُها أبُو عمّار ، ومِن النّصر الذي حقّقته المُقاومة الفِلسطينية والجَيش الأُردني الذي لعِب دَورًا رئِيسياً فِي تَحقيق هَذا النّصر ، قَال زَعيم الأُمّة جَمال عبد النّاصر أنّ المُقاومة الفِلسطينية وُجدت لتَبقى ، وأضَاف أبُو عمّار قائِلا : ولتنتصِر.
فهل بَقيت المُقاومة الفِلسطينية أمْ انتهَت بنِهاية عبد النّاصر ؟
وهَل انتصرت المُقاومة الفِلسطينية وحقّقت الهَدف من وُجُودها ، أم التَحقَت في رَكب المُتغيّرات والإنقلَابات على الثّورة العربيّة والثّورة التّحرريّة، لقَد شهِدت الثّورات العَربية انتِكاسات ، بَل تحوّلات مُعاكسة ، ومُغايرة لأهدَافها وبانتِهاء زَعامَاتِها.
ولكنّ الثّورة الفِلسطينية كَانت زَعاماتُها تُصارع تيّار خَبيث عمِل عَلى إحدَاث مُتغيّرات مَنهجيّة في مَسيرتها وفِي حَياتِها ، هل هُو عَجز مِن تلك القِيادات ، أم تحوُّل في الفِكر والمُمارسَة ، هَذه أسئِلة جَديرة بالإهتِمام وخاصّةً للنّهاية التي وَصلت إليهَا حَركة التَحرّر الوَطني الفِلسطيني فَتح وفَصائل اليسَار الفِلسطيني المُنتمي إلى مُنظمّة التّحرير الفِلسطينية.
عِندما التَحقَ اليَسار بمسِيرة اليَمين الإختِراقي فِي دَاخل حَركة فَتح ، هل كَان اليَسار عَاجزًا عَن الإستِقراء وبالتّالي سَار في مَمرّات اليَمين الإنتِهازي والمُرتبط فِي دَاخل حَركة فَتح ؟ ، وهل الإغتِيالات التي تمّت فِي الصّف الأوّل القِيادي فِي حَركة فتح كَان هَدفُها إتاحَة الفُرصة لقيادَات إختراقيّة لتتبوّء الصّف الأوّل مَكَانها؟
نحنُ على يَقين بأنّ التّصفيَات التي تمّت فِي دَاخل حَركة فَتح أو في اليَسار الفِلسطيني والقَوميّين كانت مُمنهَجة ، ولا تقَع تحتَ مُبرّر وحيد أنّ تِلك القِيادات التي تمّ إغتيالُها كَانت تُشكّل خَطرًا آنيًا واستراتيجيًا على العدوّ الصّهيوني ، بل كانَت تُشكّل خطرًا استراتيجيًا وبالتّالي عمليّة الإغتيَال كانَت هي تمهيدٌ لفَتح المَجال واسعًا أمَام قِيادات مُخترِقة حَركة التّحرر الوَطني الفِلسطيني واليَسار الفِلسطيني لكي تتبوّأ الصّف الأوّل ، فلا يستطيع أحَد إقناعِي أنّ مِن ضِمن قِيادات الصّف الأوّل مَن هُو غير مُقتنع الآن بالكِفاح المُسلح ، وغير مُقتنع بالمُقاومة ، وغير مُقتنع بحركة الجَماهير والصّدام مَع العدو الصّهيوني ، وغير مُقتنع بالانتِفاضة ، فهل كان التحاق مِثل هؤلاء هُو عمليّة اختراقيّة بحتَة ؟ ، عندما يتبَاهى بعضُهم بأنّه لا يستطيع إستخدام مُسدّس أو بُندقيّة ، وإلا لِماذا التحقُوا بهذه الثّورة التي تعتنِق الكِفاح المُسلح ، وقادَتها وكَوادرها وعَناصرها يحمُلون أرواحَهم على أكُفهم ، سُؤالٌ واضِح الإجابة.
معركَة الكَرامة بانتصَاراتها التي أدهَشت العدوّ قَبل الصّديق والتي أتَت على أَيدي فِلسطينية وجيش عَربي رَفَض الهزيمة ، فأذَاق العدوّ طَعم الهَزيمة المُرّ ، الآن هَل تستطيع السّلطة أن تحتفِل بمعركة الكَرامة التي تعوّدت الجَماهير على إحيائِها ؟ ، وهل تستطيع السّلطة المُبرمَجة والمُعبّرة بالصّورة الواضِحة عَن قَرار فَتح وقيادة فَتح ورِئاسة فَتح أن تُقيم احتِفال بِيوم الأرض ؟! ، بالقَطع لا .. فقط اختفَت تلكَ الأعيَاد الوطنيّة ، أعيادُ الإنتصَارات والشّهداء مِثلما اختَفى انتصَار يوم الأرض واختِفاء انتصَار يوم الكَرامة.
مُنذ أكثَر مِن عَامين إستخدُم إسم دَلال المُغربي كَوسيلة ضَغط بغرض الإبتِزاز لموقِف صُهيوني مُتساهل مع سُلطة رام الله ، بتسميَة ميدَان باسمها فِي رَام الله ، فما كَان من ناتنياهو وحُكومة العدوّ الصّهيوني إلا أن شدّدت الخِناق على السّلطة وهدّدت بسَحب بِطاقات الفي آي بي ، وتراجَعت السّلطة عن هذه التّسمية.
رِئاسة حَركة فَتح ورِئاسة السّلطة هِي معنيّة الآَن بقَتل أي انتصَار حقّقته الثّورة الفِلسطينية ، ولأن النّصر يوقِظ القُلوب والسّواعد ، وهَذا ما لا تُريده السّلطة ورئِيسها.
لقد عَمل اليَمين الإختِراقي في دَاخل حركة فَتح منذُ السبعينات مع بَعض يَمين اليسار للوُصول إلى النّقاط العشر والحلّ المَرحلي .. فلم تعُد الثّورة الفِلسطينية ثورة ، فلقد دَخلت فِي ظلّ هذا المسلَك والسّلوك مَظَاهر البُرجوازية التي تضخّمت إلى مَظاهر البيرُوقراطيّة والأُرستقراطيّة التي وَصَلت إلى حدّ الإقطَاع ، ولم تستخدِم الأموال في تنميَة قُدرات الثّورة بقدرِ ما كَانت تستخدِم في تحوِيل الثّوار إلى مُستزلمين وتيّارات ، ومِن خِلال تلك التّيارات والمُستزلمين تحوّلت الثّورة إلى جَيش من العَاطلين الذين تنامَت بينَهم الصّراعات على المَوقع والرّاتب والرُّتبة ، ولم تعُد الكَرامة كَرامة ، ولم تعُد منهجيّة نسيان الذّات التي كان يتّصف بِها رجال الثّورة هِي نفس السّمات والصّفات .
لقد كَانت عملية الحِزام الأخضر آخِر عمليّات الثّورة الفلسطينية ومنهجية حَرب العِصابات ، وخرَجت الثذورة مِن عمّان ومِن أَطول شَريط حُدودي مُواجه مع إسرائيل إلى السّاحة اللبنانية ، ولم تستغلّ الظّروف الموضعيّة والوضعيّة فِي السّاحة اللبنانية استغلالاً ثورياً على الجبهة الشّمالية ، بل نمَت مدرسة الأمن وتحوّلت الثّورة إلى مدرسَة أمنيّة تُصارع الآخرَين ، ونمَت المُقاطعات القياديّة ومُحاولة استيعَاب اللاجئين وحركَتهم الثّورية في المُخيّمات الفِلسطينية ، وفَتح لاند لم تعُد فتح لاند في الجنُوب .
واطلاقُ الصّواريخ والرّاجمات مِن الجنُوب اللّبناني حَسب المَعايِير الدّبلوماسية والسّياسية ، فَكَان يُقَال أطلَق صَاروخ واحِد أو صَاروخَين بغرض التّحريك ، وبالمُناسبة ، ، كَان بإمكان المُقاومة الفِلسطينية وإمكانيّاتها وبِصواريخها ورَاجمَاتها أن تُزلزل الشّمال الفِلسطيني تَحت أقدَام المُغتصبين ، ولكِن في ذَاك الوَقت كَان الحِوار واللّقاءات مِن تحت الطّاولة مَع الصّهيوني يُوري أفنيري وقُوى ما يُسمّى باليسَار الصّهيوني ، بلا شكّ أنّ تلك القِيادة كَانت تحكُمها أفكَار طُوباوية تُصوّر لها حُلمها لإقَامة مَملكَتها ودُويلتَها على قِطعة قزَميّة مِن الأرض الفِلسطينية كَما يَحدُث اليوم مِن مُبادرات ومَشاريع ، المَشاريع هي نفس المَشاريع ، نِسيان حقّ اللّاجئين وتقاسُم القُدس ونهب الأرض ، هَذا هو السّقف السّياسي الذي تبنّته مُنظمة التّحرير وقِيادة مُنظمة التّحرير .
وتراجع المدّ الثّوري وانحسَر فِي داخِل حَركة فتح في مُجمل مَسلكياّت وسُلوكيات نَأت بالعَناصر الثّورية الشّريفة ، إمّا عن طريق الإغتيَالات بتعاوُن بشكلٍ أو بِآخر بين تيّار إختراقِي في دَاخل حركة فَتح وأمن العدوّ الصّهيوني على الأرجَح .
من المُؤلم أن تنسَى انتصَارات الكَرامة ، ومِن المُؤلم أن تُمسح من ذَاكرة الشّعب الفِلسطيني والشّعب العَربي خُوذات الجُنود الصّهاينة التي تَدحرجت في شَوارع المَلك حسين فِي قَلب العَاصمة عمّان ، مِن الصّعب أن تنسَى الجَماهير صُورة ومشهَد الجُنود الصّهاينة وهُم مقتُولون ، ومقيّدُون بالسّلاسِل فِي دبّاباتِهم ، مشَاهد تُؤدي إلى دُروب النّصر ورفع الإرَادة لَدى المُواطن الفِلسطيني والعَربي .. مَشاهد مَطلوب قَتلُها .
الذي حَدث لِحركة فَتح لم يحدُث لأيّ ثَورة فِي العَالم بدءً مِن الثّورة البلشفيّة إلى الماويّة إلى الفيتناميّة .. إلى الجزائريّة ، إلى اليمنيّة ، إلى الكوريّة ، والكوبيّة .
لماذا لم تُحقق الثّورة الفلسطينية أهدافَها ؟ .. الإجابة على هذا السّؤال بِحجم أهميّة وُجود الكِيان الصّهيوني لدى المُعسكر الغَربي على الأرض الفِلسطينية .
لماذا لم تُحقق الثّورة الفِلسطينية أهدَافها في مَنطقة عربيّة تحوّلت فِيها الأنظمة الثّورية وثوراتِها إلى ارتِدَادات مُعاكسة أو اجتيَاح عواصِم عربيّة واغتيَال قَادة وزُعماء قَومييّن مِثل صدّام حُسين ، ويُقال أنّ عبد النّاصر مَات مسمُومًا وأصبحَت قضيّة السّم هِي سِمة مِن سِمات سُلوك العدوّ الصّهيوني في اغتيَال زَعامات عربيّة وعُلماء عَرب وقِيادات فلسطينيّة ، وآخرُهم أبو عمّار ، يُقال أنّ العدوّ الصّهيوني قَام بتسميم أبُو عمّار ، فهل حقَا أن العدُو الصّهيوني هُو الوَحيد صَاحِب المَصلحة في تَسميم أبُو عمّار ؟ .. أم هُناك مَصالِح مُشتركة مَع قُوى فِلسطينية تقُود هِي الآن فِي حركَتها الارتدَادية وفِي انقلابِها علَى حَركة فَتح ، وبالرّغم مِن الكَثير مِن التحفّظات والمسؤُولياّت التي تُلقى عَلى أبُو عمّار في تجنّح تِلك الثّورة ، والتّاريخ لا يُمكن أن ينحَني للعاطِفة وحُبنا للرّجل ، وتألّمنا للنّهاية التي وَصل إليهَا ، ويبقَى هو بكُل الأخطَاء قائدًا ورمزًا لحرَكة النّضال الوَطني الفِلسطيني .
مِن مَعركة الكَرامة إلى أجندة التّنسيق الأمني ،و إلى قُوى التّنسيق الأمني التي مَازالت تُطبّق برنَامج التّحول بكُلّ دِقة وأهميّة ، لا للثّورة ، لا للإنتفاضَة ، لا لحَركة الجَماهير لإجتيَاح الحَواجز والدّفاع عَن القُدس ، لا لِحركة فَتح كَبرنامج مُقاومة .
بَعض كُتاب اليَسار الذين يُصنفوا بيمين اليَسار يقفُون الآن لتيّار في حَركة فَتح ليقُولوا لا للانتفَاضة ، بَل زَاد الأمرُ سوءً عندما يُشكّكون فِي انتفَاضة عَام 1919 ، ويُشكّكون فِي إضرَاب وانتفاضَة 1936 ، والانتِفاضة الأُولى عَام 1987 ، وكأنّ الشّعب الفِلسطيني وكُتّاب التّاريخ والمُحللين عَجِزوا عن الرّد عَليهم ، لِماذا لم تُحقّق كُل تلك الإنتفاضَات أهدافَها ؟؟ ،، أهُو عَجز مِن الانتفاضَة والشّعب الفِلسطيني ، أم شَجاعة الكَيان الصّهيوني وتفوّقِه ؟؟ .. شيءٌ غَريب ! .. ثَورات 1936 ، 1919 أفشَلتها السّياسة العَربية والوُفود العربيّة ووجُوه فلسطينيّة كَما يحدُث الآن ، وكذلِك الحَال فِي انتفاضَة 1987 التي أرهَقَت العدوّ الصّهيوني ، وبِناء عَلى انجازَاتِها وانتصَاراتها تُحرك اليّمين الإختِراقي فِي دَاخل حَركة فَتح لينسُج مِن تحت الطّاولة اتفاقيّة أُوسلو ، وهِي المِسمَار الغَليظ الذي دقّ فِي قَلب حَركة فَتح وكَوادرها وانتصَاراتِها.
إنتفاضة 2003 هِي انتفاضَة كَان يُمكن لَها أن تُحقّق انجَازَات وطنيّة ، ولكِن قَطع عَليها الطّريق مِن قَرارات سياسيّة لمُؤتمر القمّة العَربية وتحرّك واسِع وشَامل لقُوى مُضادّة فِي دَاخل الضّفة الغربيّة ومُتعاونة مَع العدوّ الصّهيوني أدّت إلى إغتيَال القَادة الميدانيّين لكَتائب الأقصَى وقَادة وكَوادر الـ 17 الشّرفاء ، وكَما هُو الحَال تمّ مُلاحقة واغتيَال القَادة الميدانييّن للفَصائل مِن القسّام إلى سَرايا القُدس إلى أبُو علي مُصطفى الذي اتّهمته الصّهيونية بقَتل زائيفي واعتُقل سَعدَات بتواطُؤ تِلك الأجهِزة الإخترَاقية التي تحمِل المنشيت العَريض " حَركة فتح " ، وكأنّ المطلُوب أن تتم جَميع الجَرائم باسم حَركة تحرّر ، وهذا لم يحدُث في التّاريخ اطلاقًا .
المُتغيّرات التي حدَثت فِي حَركة فَتح وتحوّلت مِن خِلالها مِن حَركة تحرّر وَطني عمُودها الكِفاح المُسلح وحَرب الشّعب إلى حَركة يقُودها تيارًا اختراقيًا مُزمن فِي دَاخل قِيادة حَركة فَتح وقِيادتها جَديرة بالتّوقف عِندها ووضع دِراسات جادّة وبشِفافيّة لتقدّم للأجيَال الفلسطينيّة والعَربية ، كَيف تحوّلت حَركة تحرّر وَطني من ثورة مُقاتلة إلى أجندَة التنسيق الأمني!
بقلم/ سميح خلف