تاريخ الأمرِيكان مَعنا تاريخٌ طويلٌ وعَتيق، ويعُود إلى مُنتصف السّبعينات من القَرن المَاضي، وتركِيز مُنظمة التّحرير دُبلومسيًا وسياسيًا على إعترَاف أمريكي بِها مِن خِلال التّقارب مَع بعض أحزاب اليَسار الإسرَائيلي كيوري أفنيري وغيره، وجولَات المُفاوضات السّرية في النّرويج والدينمَارك، أمّا عن بَعض الشّخصيات التّاريخية ومن ضِمنها محمود عباس والتي لا يتجاوز عددُها ثلاثة في اللّجنة المركزيّة لحَركة فتح كَانوا ينظُرون لتلك العَلاقة وللحلّ السّلمي بينَ الفلسطِينيين والإسرائيليّين، نظّروا لحلّ الدّولتين مُنذ أكثر من ثلاث عُقود، وتنازَلوا عن العَقد والمِيثاق الذي وقّعُوه مع باقي الّلجنة المَركزية بتحرِير فِلسطين عن طَريق المُقاومة والكفاح المُسلّح والثّورة الشّعبية، هَذا السّلوك أضفَى كثيرًا من التّغيير على المُؤسّسات الفِلسطينية سَواء فِي مُنظمة التّحرير أو فَتح، وأصبَحت قِصة إطلاق الرّصاص أو بَعض العمليّات هي بهدف التّحريك وليس التّحرير، باسْتثناء عمليّات كان يقوُم بها القِطاع الغَربي بقيادة أبُو جِهاد الوزير في دَاخل العُمق الإسرائِيلي، فكَان أبُو جِهاد يُخطّط لشيء وأعضَاء الّلجنة المركزية يُخطّطون لشيء آخر وبعضُهم وضَع تبرير لذلك أنّ هُناك توزيع أدوار وأنا أشُك في هذا التّبرير، فلا يُوجد توزيع أدوار أمَام الثّوابت والقيم والمَبادئ، فإمّا تخلع ثوبك أو تبقَى مرتديًا إياه.
محمُود عبّاس مُنذ أواخِر السّبعينات وهُو مُنهمك في سياسَاته التي يرتكِز فِيها إلى الدّور الأمرِيكي وإلى حلّ الدّولتين ومعه اثنين مِن الّلجنة المَركزية رحِمهم الله، وافاهم الأجل مُبكرًا، ومِنهم من رأى أوسلو وانعكَاسات تنظيرهما عَلى الواقع وهُو مؤلم بِلا شك وكَما هي وَقائع ما يحدُث اليوم من نتائج أوسلو.
محمُود عباس لم يكُن يومًا بعيدًا عن الأمريكان وقام بدَور إن لم أقُل مُتقن في تجريد حركة النّضال الوَطني والحَركة الوطنيّة من ثوبِها تحت ترّهات وادعاءات السّلام حلّ إستراتيجي ولا خِيار غير المُفاوضات، وقد حدثت انتِكاسة كُبرى لِما تبقّى مِن أنفاس حَركة التّحرر برحيل ياسر عَرفات عِندما تسلّم محمُود عبّاس قِيادة السّلطة ومُحاولات حَثيثة عِندما فُرضت مُؤسّسة رِئاسة الوُزراء بضَغط أمريكي لتجرِيد ياسر عرفات من صلاحيّاته، فهل هُناك أكثر مِن هذا العُمق في علاقته مع أميركا؟، عندما يأتي بضَغط أمرِيكي وإسرائيلي، أمّا عندَما تسلّم الرّئاسة فكَان أمَامه برنامِج التّحول والتّخلص من ظَاهرة المُناضلين وتيار ياسِر عَرفات وأبو إياد وأبو جِهاد معًا، إلّا البعض ممّن خلعُوا أثوابَهم، لا نُريد أن نتحدّث عن ما قِيل عن محمُود عبّاس وقراراته المُتتالية وسُلوكياته المُتتالية وحالات الثّراء لأبناءه، فهذا قد قِيل فِي أكثر مِن مَكان ووقت وموقِع، لا نُريد أن نتحدّث عن القَرارات والعُقُوبات على قِطاع غزة أيضًا، التي استهدَف فِيها 2 مليون فِلسطيني واستهدَف فِيها أبناء السّلطة وهُم فتحاويين بالسّليقة أو بالانتِماء تحتَ إدّعاء مُعاقبة حَماس وحُكم حَماس فِي حِين أنّ حَماس لم تتضرّر ولأنّ مُوزانة حَركتها وتنظِيمها مُستقل عن الشّعب تمامًا، هذا واقِع، أمّا لِماذا صَمت عَشر سَنوات على حُكم حَماس بين الهِجاء والاشَادة بِهم في مَحطّات أُخرى واعتبَارهم جُزء من الشّعب الفِلسطيني، وهذه حَقيقة أيضًا، فهُم جزء مِن أبناء الشّعب الفِلسطيني وان اختَلفنا مَعهم، ولا نُريد أن نتحدّث عن مُقدّمات الإنقِسام وكَيف كَان، وكيف ذهبَت كُل وثَائق السّلطة قَبل حُدوث الانقلاب بأكثَر من شَهر ونِصف ولِماذا عبّاس لم يكُن في غزّة لمُعالجة هذا الأمر، وعِندما عَرضت حمَاس عليه بعد أُسبوع من سَيطرتها على قِطاع غزّة عبرَ وسِيط معرُوف أن يحضر إلى غزّة ويقُوم بتوبيخِها وبتشكِيل حُكومة كما يرتئي، لِماذا رَفض محمُود عبّاس، وهذه أيضًا حقيقة، قد يتسَائل البَعض لِماذا كان مؤمنًا بجانِب الدّيمقراطية عِندما طَرح عليه الفتحاويين بأن لا يُقرر الانتخَابات البرلمانيّة في حِين أنّ أميركا أصرّت على قيِامها واستجاب لأمِيركا، وكيفَ نفهم أن عبّاس كان مُقتنع بالدّيمقراطية في ذاك الوَقت واليوم غير مُقتنع بالدّيمقراطية في إدارة النّظام السّياسي وانتهَاء فترتِه الرّئاسية مُنذ تِسع سَنوات، ولازال يُمارس مسؤُولياته كَرئيس في قَرارات استرَاتيجية لا تخوّله القِيام بِها حالتُه في ادارة رِئاسة السّلطة أو مُنظّمة التّحرير إلا كمُسيّر لأمُورها وليسَ القِيام بخُطوات إسراتيجيّة للقَضية الفلسطينيّة، الكثير والكثِير يُمكن أن يُقال.
ليسَ من المُهم أن نتطرق لعملية بانُوراما التفجير الذي استهدَف رامي الحمد لله كَما يُقال، ولا تسرّع قيادة فتح أبُو مازن والإعلام في الضّفة في رُدود الفِعل بعد عشر دقائق مِن حُدوث الحَادث وكَيل الاتّهامات قَبل أن تصِل السّلطة إلى تَكليف لجنة تَحقيق أو الاعتماد على لجنة التّحقيق التي قرّرتها حَماس وهَذا مَنطق يُمكن أن يتم تَناوله فِي أي حادث لو كان هُناك إرادة في اتمَام المُصالحة، فرقعة المُتفجرّات التي قد تُفرقع أي نفس وحدَوي ليس لشَيء يبتغِي تصفيَة رامي الحمد لله أو فَرج ولكن أعتقِد هو يَسير في نفس المِنوال لتنفِيذ الخطّة الأمرِيكية الخاصّة بالقضيّة الفِلسطينية من ضِمن مُخطط مُتكامل للمنطِقة، يقُولون نُريد أن نقِف مع محمُود عبّاس لأنّه ضِد أميركا! كيف؟ أعتقد أنّ الألفَاظ النّابية التي تلفّظ بِها محمُود عبّاس لا تُمثل شيئًا ولا وزنًا في القَاموس السّياسي للدّول ولا للرّؤسَاء، ولا يُبنى عليها أيّ موقِف سَواءً من أميركا أو إسرَائيل بل هُم ينظُرون لخريطة الوَاقع وحيثيّاتها وتضَاريسها إذا كَان من حَول عبّاس عاطفيّين أو إن كانُوا يتصوّروا أن الشّعب الفِلسطيني عاطِفي لهذه الدّرجة، منذُ شُهور قَليلة كَان هُناك كلمة لحسن نصرَ الله تحدّث فِيها عن عَرض أميركي له لكي تعتَرف أمِيركا به ويبدُو أن الأمريكَان أخذُوا تجرُبة من عَلاقتهم مَع قِيادة مُنظمة التّحرير وكَيف يتم احتِوائُها، فعرضُوا عليه أن يتخلّى عن السّلاح الثّقيل ويسحَب قُواته على بُعد 25 كيلو متر من الحُدود مع فلسطين ويُوافق الأمريكَان على بَقاء سِلاح حِزب الله ضِمن وُجوده في المُعادلة السّياسية اللبنانية ولكي يبقَى حِزب الله وحَسن نَصر الله ذَوُو ثقة أمَام الشّعب ومُحبيه أن يقُول ما يشَاء لفظيًا وإعلاميًا على أمِيركا وإسرائيل، وأن تقُوم أميركا بتزويدِه ببعض المِليارات وإعتِراف عرَبي به، هذا مَا حدَث مَع حَسن نَصر الله كَما قال، إذًا، القِصة ليسَت قِصة أن يقُول عبّاس "ابن كلب" أو "حمار" فأعتَقد أنّ هَذا يُنقص مِنه ولا يزيدُه ولا يغيّر شيئًا في مُوالاته للخطّ الأميركي الذي بُنيت عليه سياسة مُنظمة التّحرير مُنذ مُنتصف السّبعينات.
نعرف أنّ الأمرِيكان يستخدِمون البَعض مَرحليًا، وهذا ليس دَليل وطنيّة لمن يتم الاستغنَاء عنهُم أمريكيًا، والتّجارب كثيرة والأمثِلة كثيرة، وآخُرها تخلّي الأمريكَان عن الأكراد وبرَزاني أمَام الدّور التّركي. نُظّمت حَملة لدعم محمُود عبّاس لوُقوفه أمَام أميركا! وكما يُقال أنّه يقِف ضِد صفقَة القَرن، حملةٌ مدلُولها الأدبي لم يحدُث حتّى في القُرون الوُسطى وقُرون الظّلام " الخلافة والبيعة"، شيءٌ مَقيت يدُلّ على تَفاهة رِئاسة نِظام سياسي والمواليين له، البعَض فسّر استجَابة البَعض على قائِمة العُقوبات التي اتّخذها عبّاس ضِد المُوظفين وخَاصة أنّها استهدفت قِطاع غزة، وكما يُقال أنّ رَسائل أُرسلت للمُوظّفين للمُبايعة والوَلاء، أُسلوب استخبَاراتي مفهُوم، يعضّ على الجِراح للغَلابة والفُقراء والذين هُم تَحت طَائلة عُقوبات عبّاس، قد يحتاج عبّاس لهَذا النّشاط الإعلامي لكي يقُول للأمرِيكان وللعَرب الذين أدَاروا ظَهرهم لَه أنه موجُود ولازَال يُؤثر في الشّارع الفِلسطيني مِن خِلال زَخم مِن المُوالين لَه ومِن العَجب أن تتحدّث اللجنة المُكلفة بهذا النّشاط على أنّ 120000 مُبايعة في خِلال يوم، ويطمعُوا إلى الوُصول للمليُون خِلال أيامٍ قليلة، مِن خِلال الرّصد لصَفحات التّواصل الإجتمَاعي لم تُمثل الاستِجابة أكثَر مِن 0.2% فهؤُلاء هم كَواقع بعض الأنظِمة يُزورون الحَقائق أمَام محمود عباس، ليظهَر نشَاطهم بأنّه ذات قيمة وذا مفعُول، كما يُزوّرون تَقارير مُتعدّدة وكَأن واقِع السّلطة نمُوذجي والشّعب في أريحيّة كأريحيّة الكَهرباء كما قَال في أحَد خِطاباته بالنّسبة لغزة، هَذا واقع أيضًا وحقيقة.
محمود عبّاس باطني جدًا، وحاقد جدًا، ولا يحفَظ جَميل لمَن وَقفوا مَعه وَقت الشّدة، في حِين كَان مُتهمًا وبشكل مُباشر وتخلّى عنهُم لأطمَاعه الشّخصية وحُبه في الاستبدَاد يقتنِص صلاحيّاته الإعتباريّة للثّراء، ولا يُصرح بما يدُور في أعمَاقه ولكن قَراراته تفضحُه دائمًا، لو كان رئيسًا جادًا لانتهَى الانقِسام في خِلال سَاعات وليسَ أيّام على قاعِدة تعبئة الشّعب الفِلسطيني وتغيير الثّقافات السّائدة من أُوسلو وحلّ جَميع الإشكَاليات الحياتيّة للشعب الفِلسطيني وأيضًا على قَاعدة مُقاومة الاحتِلال بكَافة الأشكَال والطّرق وتفعِيل نَشاط كُل الإستحقَاقات الدّولية من غولدستون إلى الجنائيّة الدّولية وغيرِه من المُنظمات الدّولية التي مازال محمُود عباس لا يتّخذ فيها قَرار التّفعيل وبطَلب أمِيركي أيضًا، إذًا هل يكُون محمُود عبّاس ضِد أمِيركا وصَفقة القَرن التي لا يُمكن أن تُنفذ إلا بتدجين غزّة وقُواها الوطنيّة وإن لم يحدُث فغزّة ستتلقّى الطّعنات تِلو الطّعنات من محمود عباّس وإسرائيل أيضًا لتحدِيد خِياراتها إما في اتّجاهات الحَرب المُدمرة أو فِي اتجّاه فَتح خط لا بديل له في التفاوُض مع إسرائيل وأميركا على طَريق أخذته مُنظمة التّحرير سَابقًا وكَبديل لمُنظمة التّحرير التي قد تنتَهي بصفقَة القَرن ولتبدَأ قُوى جَديدة تقُوم بنفس المِشوار لنهَاية مأساويّة للمشرُوع الوَطني الذي دمّره محمُود عبّاس كليًا ونهايةً لحقُوق اللّاجئين والعودة ودولة مُستقلة ذات حُدود ثابتة والقُدس عاصِمة لها ولو كَانت هَذه الدّولة في نِطاق أدنى المَطالب، وكما قَالوا بسِياسة الواقعيّة.
بقلم/ سميح خلف