أين أخطأنا؟

بقلم: هاني المصري

شهد الأسبوع الماضي إحياء مركز الأبحاث الفلسطيني بعد غياب عشرات السنين.  وهذه خطوة مهمة، فالمركز كان مفخرة يعتز بها فلسطينيًا وعربيًا، لذلك جرى استهدافه أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982. وحتى يعيد سيرة الماضي كما هي أو بصورة أعظم، من المفترض أن تكون هناك رؤية تجيب عن سؤال لماذا مركز الأبحاث الآن؟ وهذا لم يكن واضحًا إن لم نقل أكثر من ذلك في حفل الافتتاح.

جاء إحياء المركز بعقد مؤتمر سنوي تحت عنوان "أين أخطأنا؟"، وهذا أمر بالغ الأهمية، لأن حصيلة النضال الفلسطيني على أهميتها، ورغم الإنجازات الكبيرة التي تتآكل باستمرار ما يتطلب مراجعة عميقة وجريئة لاستخلاص الدروس والعبر، لا تتناسب على الإطلاق مع حجم المعاناة الطويلة والمستمرة منذ أكثر من مائة عام، ومع التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني، ولا مع أن القضية الفلسطينية تواجه الآن مخططات محدقة تهدد بتصفيتها ربما أكثر من أي فترة سابقة. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أننا لم نتعلم من أخطائنا، وإنما نعيد إنتاجها مرارًا وتكرارًا، وأحيانًا بصورة أسوأ.

شهد المؤتمر جلسات عدة تناولت مختلف مراحل النضال الفلسطيني منذ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وصولًا إلى المرحلة الراهنة.

هناك ملاحظة يمكن تسجيلها على المؤتمر وقد أثرتها في تعقيبي في الجلسة الأولى، وهي أن أبطال التجربة الماضية والحالية في الغالب، ما عدا فترة ما قبل النكبة، هم الذين اعتلوا منصة الحديث، في حين كان الأجدى بكثير أن يكون المسؤولون عن الأخطاء والمتورطون ذاتيًا في التجربة من الرأس إلى أخمص القدمين في مقاعد المتفرجين ويستمعون للمفكرين والأكاديميين الموضوعيين، ولمن عارض قراراتهم، أو ذاق ويلاتها ودفع أثمانها، خصوصًا من الشباب الذين يتحرقون شوقًا للعب دور يتناسب مع حجمهم وطاقاتهم وقدرتهم على العطاء والإبداع.

الملفت للأنظار أن نقدًا شديدًا للغاية تعرضت له قيادة المفتي أمين الحسيني والحركة الوطنية ما قبل النكبة والأخطاء التي ارتكبتها – وهي كثيرة فعلًا - وهذا استُخدم لتضخيم الإنجازات التي حدثت في مرحلة النهوض الفلسطيني لتبرير أخطائها والتقليل من أهميتها، بدليل الإشارة إلى تجاوز هذه الأخطاء من خلال نقد رفض قرار التقسيم، وصولًا إلى الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كما حصل في اتفاق أوسلو!!

وهناك من قال "إن الحركة الوطنية بدأت مع انطلاقة حركة فتح في العام 1965"، شاطبًا بكلمة واحدة تاريخًا طويلًا لعشرات السنين من نضالات الشعب الفلسطيني، الذي من الصحيح أنها لم تكن متبلورة ومستقلة، وكانت تقودها قيادات إقطاعية وعائلية تقليدية، راهنت على العرب وسلمت أمرها إليهم، وعلى "العزيزة" بريطانيا، مثلما راهنت القيادة الفلسطينية بعد ذلك على الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي، ولم تدرك مغزى وخطورة الاستعمار الاستيطاني، واستنزفتها الخلافات وضعف مستوى التنظيم، والفجوة ما بين السياسة والإعلام.

كما أهملت القيادة حينذاك أهمية المؤسسات التمثيلية والإنجازات المتراكمة، وأهمية الجمع ما بين مختلف أشكال النضال من دون التركيز على شكل واحد، على أهميته، وهو الكفاح المسلح. وهذا الخطأ تكرر من خلال تقديس الكفاح المسلح بعد انطلاقة الثورة المعاصرة إلى أن تم تجريمه بعد عقد اتفاق أوسلو، إذ تم الانتقال إلى تقديس المفاوضات باعتبارها حياة، وأنها الطريق الوحيد إلى إنجاز الحقوق، في حين أن المفاوضات شكل من أشكال الصراع، ولا بد أن يكون العمل دائمًا من أجل تغيير موازين القوى بالاعتماد على الذات أولًا وثانيًا وعاشرًا وبعد ذلك الاعتماد على الآخرين.

إنّ أي تقييم للتجربة الماضية والحالية عليه أن يستند ويحتكم إلى معايير موضوعية، أهمها الحكم عليها في ظروفها وسياقاتها التي كانت وقت حدوثها، وليس بناء على الوعي الراهن والخبرة المتراكمة.

أهم معيار يجب الاحتكام إليه عند تقييم التجربة الفلسطينية قبل النكبة ليس جلد الذات وطرح التساؤلات غير المنطقية، مثل هل كان من الممكن أن ننتصر، ولماذا لم ننتصر، وسوق قائمة لا نهاية لها من الأخطاء المرتكبة والمفترضة، أو الخلط بين الأخطاء الذاتية والظروف الموضوعية، وإنما ترجع إلى أسباب وعوامل يجب فهمها، بحيث يصح كثيرًا أن يكون السؤال الأهم لماذا حصل ما حصل، وهل كان يمكن تفاديه، وهل كان ممكنًا أبدع مما كان؟

في تقديري إن من الظلم تصور أن الشعب الفلسطيني بمقدوره في تلك الفترة أن ينتصر على الحركة الصهيونية الحديثة المدعومة من بريطانيا العظمى (دولة الانتداب على فلسطين)، ومن الدول الاستعمارية الأخرى المتحكمة في العالم، والمستفيدة من تبعية البلدان والحكام العرب لها.

سأكتفي في هذا المقال بالتركيز على على التجربة ما قبل النكبة، على أمل أن أعود إلى الفترات اللاحقة فيما بعد. من المفيد ذكر أن خمسة جيوش عربية شاركت في حرب فلسطين في العام 1948 كان عدد جنودها مع الفلسطينيين 11 ألفًا، ووصل في أقصى حد إلى 20 ألفًا مزودين بأسلحة بدائية بقيادة (البريطاني غلوب باشا)، بينما كان عدد أفراد العصابات الصهيونية المسلحة 60 ألفًا ووصلوا إلى 120 ألفًا مدججين بأحدث الأسلحة، بما فيها الدبابات والطائرات.

إذا نظرنا إلى موازين القوى والظروف المحيطة والعوامل المؤثرة، يجب أن يتركز البحث على هل كان من الممكن تقليل خسائرنا وزيادة خسائر العدو، أم أنها كانت حتمية؟ وهل ممكن تقليل المشردين وإبقاء القضية حية رغم النكبة، وليس حصول انقطاع وتبديد الهوية الوطنية عبر إلحاق الضفة بالأردن بعد مؤتمر أريحا في العام 1951، وفرض الوصاية المصرية على قطاع غزة؟

هل كان ممكنًا إقامة دولة فلسطينية لو وافقت القيادة الفلسطينية حينذاك على قرار التقسيم الذي أعطانا ضعف المساحة التي وافقنا على إقامة دولة عليها بعد عشرات السنين من وقوع النكبة؟

هناك من استنتج أن القيادة الحالية استوعبت أخطاء القيادة السابقة، بدليل أنها وافقت على قراري 242 و338 (رغم أنهما لا يشملان القضية الفلسطينية)، وقرار التقسيم 181، مع أهمية التسلح بالشرعي الدولية رغم أنها لا تكفي لإنجاز الحقوق الفلسطينية، واعترفت بحق إسرائيل في الوجود وغيره من التزامات أوسلو المجحفة من دون اعتراف إسرائيلي بأي حق من الحقوق الفلسطينية (حق العودة، تقرير المصير، الدولة الفلسطينية)، بل اعترفت إسرائيل بالمنظمة كممثل للفلسطينيين، متناسية أنّ هذا (الاستيعاب) لم يؤد إلى تجسيد الدولة. فالفرق حاسم بين الإعلان عنها بوصفه تأكيدًا لحق طبيعي وتاريخي وقانوني للفلسطينيين، وبين الحصول على الاعتراف الأممي بها كدولة مراقبة، وبين تجسيدها فعلًا، الذي يعني السيادة والاستقلال الوطني.

ما تحقق في ظل أوسلو يمكن اعتباره نكبة ثانية لا تقل سوءًا إن لم تكن أسوأ من النكبة الأولى، لأن الوهم بالحل التفاوضي حل محل الكفاح المسلح لإنجاز الحقوق، بدليل أننا في وضع لا نحسد عليه، ووصلنا إلى صفقة ترامب، وما أدى إليه الاتفاق من تعميق للاحتلال، وتوسيع رهيب للاستيطان، وتقطيع الأوصال، والحصار والجدار، وتهميش القضية، والانقسام الأسود. وهذا  يزكي موقف قيادة المفتي التي رفضت بحق قرار التقسيم، لأنه لم يكن يعقل أن توافق على قرار يشرعن انتزاع معظم أرض فلسطين وتشريد شعبها دون ضمان بالحصول على شيء.

إذا استطاع أحد أن يقنعني بوجود فرصة كبيرة لقيام الدولة الفلسطينية لو اعترفنا بقرار التقسيم، لكان رفضه ليس مجرد خطأ وإنما جريمة لا تغتفر.

لو اعترفت قيادة الحركة الوطنية حينذاك بإسرائيل من خلال الموافقة على قرار التقسيم لفقدت تمثيلها لشعبها وقضيتها، وتنازلت عن روايتها التاريخية التي أسست لانطلاقة الثورة وتأسيس منظمة التحرير بعد عقد ونصف على النكبة.

ربما من أخطاء المفتي وصحبه أنهم لم يعطوا – نظرًا لمفاهيم الأيديولوجية وضعف إيمانهم بالدور الفلسطيني - الاهتمام مبكرًا للسيطرة على الأرض، وبناء المؤسسات التمثيلية والتنظيم، ولمركزية إقامة نوى الدولة الفلسطينية، خصوصًا على المناطق المحددة للدولة الفلسطينية بقرار التقسيم. وهذا الأمر كان يمكن أن يحدث من دون الموافقة بالضرورة على اغتصاب فلسطين وتشريد معظم سكانها.

كان يمكن الإيحاء بالموافقة على قرار التقسيم من دون موافقة من خلال القبول بإقامة الدولة على الجزء المخصص لها. ومع أن فرص النجاح في ذلك ليست كبيرة، لكن كانت هناك ضرورة للقيام بمحاولة جادة، مثلما يجب الآن التركيز على تغيير موازين القوى عبر خلق حقائق سياسية وقانونية وغيرهما على الأرض، حتى يتم دحر الاحتلال وتتحقق الحقوق الوطنية الفلسطينية.

إن التنازل عن الحقوق الكاملة لا يؤدي إلى تحقيق أي جزء من هذه الحقوق. وهذه العبرة الأساسية من التجرية الفلسطينية منذ بدايتها وحتى الآن. فالأمر الحاسم هو ما هي القوة التي تملكها دفاعًا عن حقوقك، وماذا تستطيع تحقيقه فعلًا، وليس الرهان على عدوك وعلى الأغيار لكي يعطوك ما لم تستطع الحصول عليه.

لنتعلم مما فعلته الحركة الصهيونية التي أوحت أنها قبلت قرار التقسيم، وهي ترفضه، وراهنت على الرفض العربي له، بينما أعدت خطة (دالت) لتهجير الفلسطينيين ولضم أكبر مساحة بما يتجاوز كثيرًا تلك الممنوحة للدولة اليهودية في القرار المذكور.

بقلم/ هاني المصري