مُنذُ عشرَة سَنوات كُنت ألتِقط ما يتحدّث به القَذافي ببُعد إستراتيجي وليسَ ببُعد الفُكاهة أو التندّر أو الإستخفَاف بَل كَانت مُعظم كَلمات القذّافي في خِطاباته المُختلفة عن الإستعمَار والفَراغ إلى الفَضاءات والفَضاء العَربي إلى إسراطِين إلى الحُروب من أجل المِياه، كَانت كُلها بنظرةٍ إستراتيجية عَميقة وإن كَانت تأتي بأُسلوب السّهل المُمتنع، كَما كَانت كَلماته عَن العُمق والتعمّق في الإشكالية الديمُوغرافية للقضيّة الفِلسطينية وطُرق حَل هذه الأزمة ومُعضِلاتها ضِمن مُعادلة مُحددة وهي العَجز العَربي وعَدم قُدرة العَرب على تَحرير فِلسطين وكَما ادّعوا سَابقًا عن تحرِيرها مِن النّهر إلى البَحر، أو في عمليّة التّراجُع الكُبرى التي أبرَمت فيها عدة اتفاقِيات مع الإحتِلال تُذهب الحَق الفِلسطيني والتّاريخ الفِلسطيني والتي كَانت إستنتاجَاته دائمًا تصُب في خِدمة التّصور الإستراتِيجي لمُستقبل القَضية الفِلسطينية والوِحدة العَربية.
لم نَبتعد كثيرًا عن عُنوان هذا المَقال ولا أبجَدياته، بل هُو في قَلب المَوضوع وبِحيثياته، فَفي عَام 1999 وبَعد إتّفاقية أُوسلو وردّة فِعل القَذافي تُجاهها والتي خطّأه البَعض فِيها والبَعض الآخر أعطَاه الصّواب، قَال القَذافي في خِطاب عَام لِماذا لا يَذهب الفِلسطينيون للحُدود وينصبُوا خِيامهم في تحرّك شَعبي واسِع يُعلن حقّ العَودة إلى أرَاضيه لِكي يتحرّك المُجتمع الدّولي وليصبُح باكرًا على مُعادلة جَديدة تفرِض حلًا يُعطي الحُقوق للفِلسطينيين وفي تصوّر الدّولة الوَاحدة، تهكّم القَذافي كثيرًا على حلّ الدّولتين، بالمَقاييس المَوضُوعية والعلميّة والتّاريخية والجُغرافية لا يُمكن أن يكُون لهذا الحَل نجاحًا، بالإضَافة إلى أنّ الإسرائيليين إستخدمُوا هذا النّهج وإستخدمُوا المُبادرة العَربية لكي يفرضُوا وقَائعهم على الأرض من إستيطَان وتهويد وما أتَاحت أوسلو وأسّست بُذور الإنقِسام الوَطني في السّاحة الفِلسطينية بَعد أن كَانت مُنظمة التّحرير هي المُمثل الشّرعي والوَحيد للشّعب الفِلسطيني على قَاعدة المِيثاق الوَطني والبَرنامج السّياسي المُقر.
رَجَعت الذّاكرة بِي إلى هَذا الخِطاب ومَا تمّ مِن مَقالات سَابقة حول هذا التّصور الذي يَحشد فِيه الفِلسطينيون كُل قُواهم الشّعبية نَحو الحُدود لخَلق ظَاهرة جَديدة ووقَائع جَديدة على مُعطيات الأزمَة، في السّابق تحرّكت المُخيمات الفِلسطينية فِي لِبنان نَحو الحُدود وفي الجُولان أيضًا وكَانت مَسيرات رَمزية انتهَت بَعد يَوم أو يَومين مِن ذِكرى يَوم الأرض، كُنت أخشَى ومازِلت أخشَى أن تكُون مَسيرة العَودة الكُبرى التي كان قَلبُها شعبيًا وتبنّتها فَصائل المُقاومة، فمِنهم مَن قَال أنّ المُقاومة رَكبت على المَوجة لِكي لا تخرُج بلا غَنيمة ولكي تُحافظ بَعض من ماء وجهِها وفَشلها لتركَب المَوجة ولتستخدِم كُل قُواها لتُثبت أنّها هِي فِي الصّدارة، فِي إعتقَادي أنّ هَذا خَطأ، كُنت أتخيّل وأطمَح لمَسيرة العَودة فِي يَوم الأرض الذي أسّس للإنتفاضَة الأُولى والتي هي عَلى مَسارات انتفاضَة 1936 وعمليّات الاضرَابات المُتكررة وزَخم الحَالة الوَطنية في قِطاع غَزة سَواء مَا قبل الإحتلال ومَا بَعده، كُنت أتخيّل وأتصوّر وأطمَح أن تكُون مَسيرة العَودة هي مَسيرة شعبيّة بَحتة ذات لَون شَعبي وقِيادة وتوجِيه شَعبي لنُخب أفرزَها هَذا الحِراك لكي تكُون لَها القُوة ومَصدر القُوة على المُستوى الاقليمي وعَلى المُستوى الدّولي، فما أقوَى مِن أيّ ظَاهرة إلا ظَاهرة شَعب يتحرّك بِوحدة مُتكاملة غير مُجزء فَصائليًا، كُنت أتحدّث عَن سِلمية هذا التّحرك الذي كَانت تَخشاه هِيلاري كلينتون عِندما عبّرت عن تخوّفها لناتنياهو وقالت له مَاذا ستفعلُون لو تحرّك الشّعب الفِلسطيني نَحو الحُدود رَافعاً الأعلَام البَيضاء وأعلَام فِلسطين سِلميًا، كُنت أُريد مِن هَذا التّحرك أن يكُون سِلميًا شعبيًا تترَاجع فِيه الفَصائل إلى الخَلف بقُواتها وقُدراتها إلى أن تَفرض مَعركة فِي طَريق التّحرك والنّضال، فالمَرحلة لا تُريد هَذا الآن، فالتدعُوا الشّعب هُو الذي يتحرّك وهُو الذي يتكلّم، ولتكُن هُناك قِيادة شَعبية مُنتخبة، هذا ليسَ انقاصأ من دَور الفَصائل وإن كَانت فَشلت وفَشلُها واضِح، وليسَ انكارًا لحُقبة من مَسيرتها فِي مَرحلة مَا، ولكِن هَذه حَقيقة وتغيّر ومُتغير أيضًا، يجب أن تفرِض وقَاعها عَلى الأرض، فلا دَاعي لأن تكُون الّلجنة العُليا للمَسيرة الشّعبية مُشكلة من "س" و"ج" من الفَصائل، وهي الوُجوه التي نَراها دَائما في كُل حَادثة ومَوقع، وفي كلّ عُرس وجَنازة، لا دَاعي لذلك، فأنتُم تَسقُطون هَذا التّحرك والمِعنى السّامي لِهذا التّحرك، فأنتُم لستُم أقوَى من الشّعب ولستُم قَادرين على التّعبير عَن مأساة هَذا الشّعب أكثَر من الشّعب ذَاته.
بلا شكّ أنّ تِلك المَسيرة بأبجديّاتها الأُولى وبيومِها الأوّل وبِخسارتِنا ل15 شَهيدًا و1500 جَريحًا قد ازدَاد عَدد الأرَامل والثّكالى وأُسر الجَرحى مُضافًا إلى حَالات البَطالة العَالية، وحَالات الفَقر، نعم الشّعب خَرج بأمعَاء خَاوية فِي غزّة من حِصار شَديد لِكي يُعلن أنّه شَعب الجبّارين الذي يصنَع من أمعَاءه الخَاوية قُدرات الطّاقة مِن أجل أن يَعيش ومَا أحلَى المَوت مِن أجل الحَياة، كُنت أتوقّع أن نكُون غَير تكتيكييّن فَما ألعَن التّكتيك الذي أودَى بقضيّتنا وحَياتنا إلى الجَحيم، وهَذا ما تمرّست عَليه القِيادة مُنذ عُقود، فَكانت أُوسلو والتّنسيق وكَانت العُقوبات على غزّة وكَانت الدّمقرَطة الأمريكية التي أدّت إلى الإنقِسام، فان كَانت المَسيرة سلميّة فالتأخُذ حَقها بدُون تخوّفات واتفاقيّات بَعض الفَصائل مع دِول الإقليم لتحجِيم فاعليّتها ودَورها، ومِن هُنا يحدُث الاختِراق الدّولي لكُل مواقِفنا وحيَاتنا الوطنيّة، وأخيرًا، كنتُ أتوقّع من كَلمة عَباس وبَعد سُقوط 15 شهيدًا وإعلانِه عن حَالة حِداد على الشّهداء والحَالة الوطنيّة العَالية التي جسّدتها تِلك المَسيرة أن يُعلن عن رَفع العُقوبات عَن غزّة، لا أن يكُون كالنّعامة التي تَدفن رَأسها في الرّمل وتُبقي جسدُها في العَراء لينطِق أنّه كَلف مندُوبه في الأُمم المُتحدة لحَاجة الشّعب الفلسطيني للحِماية الدّولية، ما أسخَف هذا المَنطق الذي تَداوله مُنذ زَمن، وهُو من مَصائبنا وشَدائدنا وهَزيمتنا أيضًا، فالشّعب الفلسطيني قادرٌ على حِماية نَفسه، ولكن بالمَنطق الشّعبي وليسَ بالعَجز الفَصائلي والسّلطوي، وهذا ما أستطِيع أن أقُول وهَذا ما سطّره قَلمي وأبجديّاتي.
بقلم/ سميح خلف