مِن المُهم أن نَفهم وَقائع ومَناخات السّياسة الدّولية فلَا َدولة ذَات سِيادة بالمفهُوم المُطلق، ولا شَعب يمتلِك حُرّيته بِشكل كَامل أو يُقرر كَما يُريد بِشكل مُطلق، تَسويات إقليمية ودوليّة تَحدث فِي العَالم رُبما أخذت الشّكل العُنفي في بعض مَحطاتها ولكِن بالتّأكيد هِي تقدّم للأمام مِن أجل رَسم سِياسة إقتصاديّة وأمنيّة جَديدة للعالَم والقُوى المُتحكمة فِيه، وقد تكُون بَل مِن المؤكّد أنّ مَنطقة الشّرق الأوسَط التي دائمًا تخضَع لمُتغيرات في أيّ مُنعطف تَاريخي يمُر على الكُرة الأرضيّة، وأبرَز هذه البُقع من الأرض والتي تخضَع للتّغيير والمُتغيرات فلسطين، فمِن بوابة فلسطين قد تكُون هي البِداية وليسَت النّهاية لإخضاع المَنطقة لهذه المُتغيرات السّياسية الجَديدة.
لم أقتنِع يومًا أن السّياسة الخَارجية الأمريكية أو الإدارة الأمريكيّة بشكلٍ مُحدد لم تستطِع الوُصول إلى حلٍّ لقضية الصّراع الفِلسطيني الإسرائيلي والذي كَان يُسمى قديمًا بالصّراع العَربي الإسرائيلي، وأعتقِد أيضًا أن الإدَارات الأمريكيّة المُختلفة عَبر عُصورها كَانت تخضَع لبرنَامج تَاريخي لإحدَاث هَذا المُتغير فِي المَنطقة وخَاصة لوَضع ترتِيبات جَديدة للقُوى المُنتصرة في الحَرب العَالمية الثّانية ونتيجة الحَرب البَاردة ومَا أظهرته مِن دِول وطنيّة في تَوازنات القُوى بين الشّرق والغَرب الأوروبي، هَذه هي قَناعتي، وقَد يكُون ترامب الأكثَر وُضوحًا وابتعادً عن الغُموض في سِياسته الخَارجية التي تعكِس السّياسة الخَارجية الأمرِيكية ووجهَة نَظِرها، بل أُطروحَاتها لحلّ هَذا الصّراع المُتأزم والمأزُوم بين شعبٍ له حقٌ مسلُوب وبين قُوة تُسمى إسرائيل وَضعت على الكُرة الأرضيّة وفي هذه البُقعة من الأرض، لا شيء غَامض في سِياسة ترامب ولا شيء أتَى به من جَيبه، بل هي عِدة تراكُمات لسِياسات أمريكيّة وأُوروبية وإسرائيلية ومُبادرات مِن هُنا وهُناك تعُد بالعشرات سَواء من أطرُوحات إيجال ألون في نِهاية السّبعينات إلى وَثيقة جِينيف (وثيقة بيلين) إلى روابِط القُرى، إلى الحل الاقتصادي الأمنِي لرَئيس الوُزراء السّابق توني بلير إلى نظريّة دايتون الأمنيّة إلى إتفاق أوسلو المُنحصر في ثلاث مُربعات أمنية أ، ب، ج ، لن تخرُج صفقة القرن عن مُختلط بُنود تلك الأطرُوحات السّابقة، وإن كَان الظّرف المَحلي والإقليمي قد يُساعد على تَنفيذ تلك الأطرُوحات، قد نَرى تقاسُم لعودة شبه الحَرب البَاردة فِي توافُقات سِياسية وخُطوط حَمراء بين أميركا وروسيا، فرُوسيا احتلّت شبه جزيرة القِرم وجُزء مِن أكرانيا، الرّوس يدعمُون حَركة طالبان التي كانت تُقاتلهم سابقًا، الرّوس يدعمُون إيران ونُفوذها في مَنطقة الشّرق الأوسَط، الرّوس يفرضُون وَقائع لجغُرافيا سِياسية في سُوريا، الإدَارة الأمريكية تُصرّح بأنّها ستنسَحب مِن سُوريا وتترُك دَعم قُوات سُوريا الدّيمقراطية (الأكراد)، أميركا تخلّت عن مشرُوع إستقلال الأكرَاد في شَمال العِراق، إذَا هُناك توزِيع للقُوى الإقليمية على الجُغرافيات العَربية، بلا شَك أن فِلسطين وَاحدة مِنها، وأن إسرَائيل لن تخرُج من هَذه التّقسيمات التي أوجَز عَنها ترامب بأنّ الصّفقة ستُفاجئ الجَميع، أعتقد أيضًا أن الصّفقة هَذه التي يتحدّث عَنها ترامب ومُساعديه لن تَرى النّور إلا بمُساعدة قُوى التّنفيذ الإقليمي، ولكن هل الشّعب الفِلسطيني يلعَب في الوَقت الضّائع بمسيرة العَودة وفَرض رُؤية شَعبية قد تعترِض تلك الصّفقة أو تُحسّن من بُنودها، وهل الشّعب الفِلسطيني قَادر على أن يفرِض وَقائع قَابلة للتّنفيذ وصدّ تِلك الصّفقة، أعتقد أنّ الأُمور لا تُقاس هَكذا، فعصر المدّ الشّعبي والنّفوذ للشّعُوب قد ولّى أمَام الضّغط الإقتصَادي والمَصالح سَواء في اللّبنة الأُولى للمُجتمع أو المُجتمع ككُل، هذا لا يُقلل من النّظرية النّضالية للشّعوب والتحرّرية، الفلسطِينيون يتضرّرون من صَفقة القَرن بناءً على رُؤيتهم التّاريخية للحقّ التّاريخي في فلِسطين، الإسرائيليون يتضرّرُون من صَفقة القَرن لأنّهم وبرُؤية الحلّ الاقتصَادي الأمني لدِول جَامعة في الإقليم رُبما سيذُوبون في هَذه التّجمُّعات الضّخمة للديموغرافيا العربيّة، وهنا قد تكُون الرّؤية وإن كانت الدّبلوماسية الأمريكية بشَكلها المُباشر مع التطرّف الإسرائيلي فإنّ النّظرة الأُخرى قَد تُكون ضد إسرائيل أيضًا وهي الغير مُعلنة، ولكن هل الشّعب الفِلسطيني سيقبَل بروابِط مُدن وحُكم ذاتي على هَيئة دَولة منقُوصة السّيادة، أقصد سِيادة الأجهِزة السّيادية في الدّولة ضِمن جُغرافيات إداريّة وأمنيّة وقُدس قد تكُون ليست كُلها لإسرائيل وإن نُقلَت السّفارة الأمريكية إلى القُدس، فنقل السّفارة أيضًا قد يضُر الفلسطينيين معنويًا وتاريخيًا والأردنيين أيضًا، ولكن قد تكُون مخارج الدبلوماسية لصَفقة القَرن قد تُعطي الفلسطينيين ما يُسمى القُدس الشّرقية، وهُنا قد يكُون التّجاوب مع اللّهجة السّياسية الفِلسطينية التي نَسيت أن القُدس كُلها فِلسطينية وركّزت على شرقيّة القُدس، بالتأكيد أيضًا أن التّحضيرات لصَفقة القَرن نَراها فِي الخِطة الخَمسية والعَشرية التي تَصل ل2030 التي طرحَها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مَدينة نيوم والتي تُقدر مَساحتها ب650 كيلو متر وتحتَوي على خَليط من الجنسِيات في المَنطقة.
مَسيرة العَودة التي قرّرها الفِلسطينيون والتي يقُولون أنّها أوقَفت صَفقة القَرن، قد يكُون هذا الشّعور عَاطفي ليس إلا، ولكن مَاذا لو حقّق الفِلسطينيون وحدَتهم ضِمن قِيادة شَعبية لم تُلغي صَفقة القَرن ولن تستطِيع ولكن قد تُحسن من شُروطها بِناء على مَوازين القُوى على الأرض، بالاضافة إلى إحتِواء أو الشّراكة مِع الدّول الإقليمية وأهمّها الأُردن ومِصر في بَلورة الجُغرافيا السّياسية في المَنطقة من جَديد والتي تخضَع لمَصالحها ومَصالح الفِلسطينيين ومَصالح القُوى الغَربية أيضًا، هكَذا قد تكُون التّحضيرات لصَفقة القَرن، أمّا النّظام السّياسي الفِلسطيني والذي تعثّرت مَجهوداته في تَحقيق أي نَجاح لبَرنامجه والذي يُسمى وطنيًا، أعتقد أن واجِهة النّظام السّياسي وديمُوغرافيته السّياسية فَشلت فشلًا ذريعًا بطَرح حَل الدّولتين، قَد يكُون مَرحليًا هِي رَوابط المُدن والكنتُونات الإقتصَادية الأمنية للفِلسطينيين في ظِل إدَارات سِياسية وأمنيّة مُرتبطة ومُلتزمة ولكن قد يكُون هذا هُو بوابة الحَل المَرحلي وصَفقة القَرن التي ستؤُول بعد ذَلك بعد تغيير في العقليّة الإسرائيلية المُتطرفة وتغيير واجِهة النّظام السّياسي الفِلسطيني قد تكُون إلى دَولة واحِدة.
بقلم/ سميح خلف