لم تفرض مسيرة العودة الفلسطينية، التي انطلقت الجمعة الماضية، حالة من الإرباك، غرقت فيها دولة الاحتلال الصهيوني، في التعامل مع الحراك الجماهيري فحسب، بل ربما تجاوز ذلك ليخلق معطيات جديدة على الأرض، وليخلط أوراقاً سياسية كثيرة في منطقة تعيش في هذه المرحلة تهافتاً سياسياً إقليمياً ودولياً كبيراً، يوازيه فرض إرادات بهدف إنجاز مشروع التفكيك وإعادة التركيب.
وأمام تباين الآراء حول أهمية وجدوى الفعالية (الحراك)، التي رأى البعض فيها مسألة هامشية لن يكون لها الأثر السياسي المباشر أو غير المباشر في إحداث تغييرات قد يكون لها التأثير الإيجابي بالنسبة للقضية الفلسطينية، وأخرى وقفت على النقيض وتوسمت فيها تحريكاً للمياه الراكدة بما يخدم التأكيد على نضال الشعب الفلسطيني وثوابته، وعلى رأسها حق العودة.
وتجاوزت القراءات الأولية للحراك الذي صادف يوم الأرض، إلى التعويل على الفعل الجماهيري الشعبي المقاوم الذي أثبت إمكانياته الكبيرة خلال تاريخ النضال الوطني الفلسطيني في تغيير المعادلات على الأرض، وإعادة توجيه البوصلة من جديد لجوهر الصراع، حين تحيد هذه البوصلة بفعل محاولات قوى سياسية في الإقليم وخارجه فرض حساباتها الخاصة على الأرض.
من بين المعطيات التي أكد عليها الحراك الجماهيري هو تلك الهشاشة التي عبرت عنها حالة الإرباك من جانب سلطات الاحتلال التي تعاملت مع الحدث السلمي بجرائم ضد الإنسانية أضافتها لرصيدها الإجرامي الدموي الذي دأبت على ممارسته منذ احتلالها للأرض الفلسطينية، سيما وأن مسيرة العودة جاءت هذه المرة في ظروف دقيقة تتعاطى فيها دولة الاحتلال مع التطورات في المنطقة بحرص شديد، وتسعى لأن لا يخل أي حدث فلسطيني بالموازين السياسية التي قد تكلفها الكثير.
لذلك لم تتورع الدولة العبرية عن استهداف صدور المشاركين العزل في المسيرة بالرصاص، وقتلها وجرحها المئات ممن احتشدوا على حدود قطاع غزة بدم بارد، كي تخمد الحراك قبل أن يتطور ويلحق بالفلسطينيين من أبناء غزة والضفة أشقاؤهم في مناطق أخرى من الشتات كلبنان وسوريا والأردن ومصر، وحينها سيكون من العسير عليها منع مئات الآلاف من الحشود الجماهيرية من اختراق الحدود إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
وما زاد من رعب الاحتلال ودفع قواته إلى ارتكاب جرائمه النكراء، قلب المتظاهرين الطاولة على رأس الاحتلال والتأكيد على خيبته وادعاءاته بنسيان الأجيال الجديدة أو عدم اهتمامها بالحقوق الأصيلة والثوابت الوطنية التي ترتكز عليها القضية الفلسطينية، ومن أهمها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، وحق الشعب الفلسطيني في مقدساته، التي تحمل مدينة القدس رمزيتها.
وفي البعد الفلسطيني، استطاعت المسيرة أن تقدم نفسها كاستفتاء شعبي ناجز يعيد مسألة التمسك بالحقوق الوطنية وعدم التفريط بها مهما بلغ الثمن، إلى صدارة المشهد السياسي، كما تمكنت أن تجمع تحت مظلتها الكل الفلسطيني، وتعيد تذكيره بأن الوحدة ثم الوحدة هي حاضنة الصمود الفلسطيني، وهي الأرضية التي تنمو وتترعرع فيها المقاومة بكافة أشكالها، وهي القلب الذي يضخ الدماء في الجسد الفلسطيني ويعطيه المنعة والقوة ليستمر في كفاحه ضد الاحتلال حتى استرداد حقوقه.
فغزة التي وقفت كرأس حربة في معركة مسيرة العودة، لم يبخل أبناؤها بدمائهم الزكية ليصبحوا الصخرة التي تتحطم عليها المؤامرات التي تسعى للنيل من الحقوق الوطنية الفلسطينية، اختزلت من خلال هذه الدماء والتضحيات ملامح الوطن وأوجاعه كاملةً، من أرض يقضمها الاحتلال في الضفة الغربية قطعة وراء قطعة كي يبني المستوطنات، وانتهاك متصاعد للحريات، واستباحة للحرمات، ونهب لخيرات الوطن.
وفوق هذا وذاك محاولات انتزاع القدس، قلب الأمة وروحها، وعنوان هويتها، الحاضرة دوماً في كل فعل نضالي، فهي شرارة الثورات، والانتفاضات، والمسيرات والفعاليات كافة على مر التاريخ، وهي الملهمة لكل حالة رفض للطغيان، وللكفاح من أجل الحرية والكرامة، وقد توّجت نفسها في مسيرة العودة كدافع ومحرك، ووقود يذكي جذوة الشعلة، وبالتالي هي جوهر المضامين للحراك الشعبي الذي أراد من ورائه أبناء الشعب الفلسطيني أن يقولوا للعالم بأسره بأنهم جزء من الأرض، وفي عروقهم تسري دماء بنكهة زيت زيتونها، وبأن مقدساتها هي قبلة روحهم ووجدانهم، ولن تمر مخططات السلب والاقتلاع مهما بلغت التضحيات.
وليس من شأن أي حراك جماهيري من نوع مسيرة العودة إلا أن يكون حلقة للوصل بين أبناء الوطن الواحد بكل فصائله وطيفه السياسي المتنوع، وما له إلا أن يخلق نوعاً من التناغم السياسي، وتوحيد المواقف أمام سيل الدماء الفلسطينية الزكية، حيث تقاطعت هذه المواقف بشكل مبدئي حول مرتكز ضرورة توفير المجتمع الدولي الحماية للشعب الفلسطيني الأعزل أمام العدوان الصهيوني الهمجي، وهو ما طالبت به السلطة الوطنية الفلسطينية على لسان الرئيس محمود عباس الذي أشاد في كلمة له الجمعة الماضية بصمود الشعب الفلسطيني وتضحياته ومواقفه الثابتة المتمسكة بالحقوق المشروعة والثوابت الوطنية رغم كل الصعوبات والمؤامرات التي تستهدف القضية الفلسطينية.
أما منظمو الحراك من "الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة"، التي تضم كافة الفصائل الفلسطينية فقد أكدوا بأن الاعتصام والتظاهر سيتواصل حتى يوم الزحف العظيم في 15 مايو "الذكرى السبعون للنكبة"، في رسالة أرادوا من ورائها التأكيد على الثوابت الفلسطينية التي لن يغيرها أية صفقات أو مؤامرات تحاك هنا وهناك للانقضاض على الحقوق الوطنية الفلسطينية.
وفي حنجرة وقلب كل فلسطيني صوت يستنجي الشقيق والأخ في دعوة مفتوحة لأبناء الأمتين العربية والإسلامية ولكل أحرار العالم، للوقوف وقفة الشرف والعزة، تستصرخ إلى جانب تلك الحناجر كل حبة تراب من الأرض السليبة، باركها الرحمن (جل علاه)، وكل مئذنة وقبة في الأرض المقدسة.
وإلى جانب ما تنتجه مسيرة العودة من معطيات، فإنها تقدم كذلك الدروس والعبر التي صاغتها بدماء شابة تتطلع إلى الحرية، أرادت أن توصل فكرة رئيسية مفادها بأن الثوابت الوطنية تشكل حالة إجماع شعبي فلسطيني لا يمكن التجاوز عليها، فضلاً عن أن الجماهير قادرة على إنتاج وسائلها النضالية، ولن تعدم الحيلة في تطوير أشكال النضال، وصولاً للغاية الأسمى وهي استعادة الحقوق الوطنية.
كما أن هنالك ثمة رسالة واضحة تضمنتها دروس المسيرة بأن وعي الأجيال الفلسطينية يكبر ويتطور بشكل مضطرد مع ازدياد حجم التحديات والمؤامرات التي تحاك بحق الوطن، حيث فاجأت هذه الأجيال ولا تزال العالم بنضجها الوطني والسياسي وقدرتها على التعامل الواعي والمنظم، يوازي ذلك القناعة الراسخة بأن الجماهير هي صاحبة الصوت الأعلى والقوة الكامنة القادرة على التغيير من خلال قدرتها على المواجهة بوسائلها النضالية المبدعة.
للعمل الجماهيري الفلسطيني الكلمة الفصل في تحديد اتجاه البوصلة دوماً، فالانتفاضات التي شهدها تاريخ النضال الفلسطيني جسدت الموقف الفلسطيني الذي لا يحتمل التأويل في عدم التفريط بالحقوق الوطنية، إضافة إلى تشكيلها الحالة الجامعة لكافة الطيف الفلسطيني على اختلاف أفكاره وإيديولوجياته وبرامجه، في بوتقة واحدة على طريق تحرير الإنسان والأرض والمقدسات.
بقلم/ د. عصام يوسف