أطلق الفلسطينيون نشاطاً تحت عنوان "مسيرة العودة" يقضي بتنظيم تظاهرات سلمية تتجه إلى الحدود الإسرائيلية الفلسطينية، وذلك ابتداء من ذكرى يوم الأرض في 31 آذار (مارس)، وحتى منتصف أيار (مايو) من هذا العام، ذكرى إعلان دولة اسرائيل. تعاطت إسرائيل مع الحدث، بداية، بإطلاق التهديدات على اعتبار ان التظاهرات تهدد الأمن القومي الإسرائيلي، على رغم أنها ستدور داخل الأراضي الفلسطينية. نفذت تهديداتها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين خصوصاً في غزة، فقتلت سبعة عشر مواطناً وجرحت حوالى 1800، بينهم حالات خطرة. ثمة دلالات فلسطينية وإسرائيلية تعبّر عن هذا الحدث.
في الجانب الفلسطيني، كما في كل محطة نضالية، فالشعب الفلسطيني ما زال يملك قدرة وطاقة على الحراك الشعبي السلمي، مثلما كان يتمتع بقدرة على خوض النضال المسلح. لعل ما أظهرته التظاهرات الأخيرة يمكن ان يؤشر الى مرحلة جديدة من النضال الشعبي، سيساهم في تزخيم الصمود الفلسطيني واستنهاضه. في المقابل، شكل التضامن بين مختلف مكونات الشعب الفلسطيني في النزول الى الأرض، وهذه المرة تحت راية علم واحد هو العلم الفلسطيني، رسالة الى المسؤولين الفلسطينيين في السلطة والمعارضة، وإلى حركة حماس، مفادها أن الوحدة الفلسطينية متحققة على الأرض على رغم كل محاولات إجهاضها في الفترات السابقة.
هذه الوحدة الفلسطينية التي تشكل الضمان الأساس لحماية حقوق الشعب الفلسطيني، جرى انتهاكها في ما سبق من محطات غير قليلة، وكان الأساس في اجهاضها ارتهان حركة حماس الى الخارج، خصوصا إيران، التي ما فتئت تتلاعب بالقضية الفلسطينية وتسعى الى توظيفها في مخططاتها للهيمنة على المنطقة. ان الحراك الأخير رسالة الى حماس وإلى السلطة بالعودة الى الوحدة وإنجاز المصالحة من أجل خوض النضال المديد ومواجهة المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية والهادفة الى تصفيتها وإنهاء موقعها.
كما ان التظاهرات الأخيرة تشكل حاجزاً أساسياً في وجه السياسة الأميركية والإسرائيلية لإنجاز "صفقة القرن"، والتي تقوم في جوهرها على انهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال الاستسلام للمشروع الصهيوني وحرمان الشعب الفلسطيني من الحد الأدنى من حقوقه في إقامة دولته المستقلة ضمن حدود العام 1967 وعاصمتها القدس. ففي مواجهة قرار الرئيس الأميركي ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل ونقل السفارة في ذكرى اقامتها، يأتي الحراك الشعبي الفلسطينى ليشكل صفعة لهذه الصفقة.
في الجانب الإسرائيلي، تعاطت اسرائيل على اعتبار ان التظاهرة السلمية نشاط إرهابي وليست احتجاجاً مدنياً وشرعياً، على رغم ان كل المظاهر والممارسات الفلسطينية ابتعدت هذه المرة عن العنف واستعمال السلاح. هذه المساواة الإسرائيلية بين الحراك السلمي والكفاح المسلح هو أبلغ تعبير عن النظرة العنصرية الصهيونية الى الشعب الفلسطيني، وتصنيفه بالجملة بأنه شعب إرهابي يفترض تسليط آلة القمع والعنف ضده. في المقابل، يعكس المسلك الإسرائيلي خوفاً من تنامي عدد السكان الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية نفسها، سواء في ما يعرف بأراضي العام 1948، او في سائر الأجزاء الأخرى. تدرك اسرائيل ان الأجيال الناشئة كلها ولدت في ظل الاحتلال، وعرفت المهانة والإذلال منه، وهي فئة من الشباب الذين يظهرون يومياً رفضهم للخضوع له، والاستعداد للاستشهاد من أجل إزالة هذا الاحتلال. تسود حالة سيكولوجية داخل اسرائيل عنوانها الخوف من هذا الازدياد السكاني، ومن استحالة التطبيع مع الشعب الفلسطيني، وهو أمر يجري التعبير عنه بمظاهر الخوف من هذا الشعب يوماً بعد يوم. فعلى رغم ان اسرائيل استخدمت اقصى العنف وبمختلف اشكاله ضد الشعب الفلسطيني، فإن هذا الشعب ما زال يدهش العالم بصموده ورفضه الاستسلام. هذه الحالة تدفع اسرائيليين الى التساؤل عن المصير الإسرائيلي نفسه في المستقبل، وسط حالة فلسطينية لن يهدأ نضالها حتى نيل حقوقها، كما يقترن التساؤل عن المدى الذي يستطيع فيه المواطن الإسرائيلي تحمل العيش وسط الخوف، من الطفل االفسطيني الى الكهل من ابناء هذا الشعب.
خارجياً، وعلى رغم هول المجزرة التي ارتكبتها اسرائيل، فإن الولايات المتحدة تصرفت وكأن عدواناً أصاب حليفتها، فمنعت اتخاذ موقف ادانة ضد اسرائيل. اما في الداخل الإسرائيلي، فقد تصرف الحكم برفض انشاء لجنة تحقيق داخلية او خارجية. عربياً، لم تكن ردود الفعل المنددة على مستوى الحدث. لعل القضية الفلسطينية تدفع ثمن الانهيارات العربية وانفجار المجتمعات واندلاع حروب أهلية داخل أكثر من قطر عربي.
تثبت القضية الفلسطينية كل يوم ان مفتاح السلام والتصدي للإرهاب يمر عبر ايجاد حلول تعطي هذا الشعب حقه في الاستقلال. كما تثبت انها القضية القومية التي استعصت على التطييف والتمذهب خلال السنوات الماضية، وتحويلها الى قضية دينية تخص المسلمين في وجه العنصرية الصهيوينة، بل عادت تؤكد انها القضية العربية الأولى في مواجهة المشاريع الاستعمارية في المنطقة، وفي مواجهة خطط تفتيتها وتقسيمها باسم الأديان.
خالد غزال
* كاتب لبناني