ليسَ عبثًا أو عَدم فِهم أن تتغيّر إتجاهات الرّياح النّضالية للشّعب الفِلسطيني، بل إنطَلقت تِلك المُتغيّرات والآليات مِن خِلال عِدّة رِياح ضَاغِطة، بل قد تكُون عَواصف على الشّعب الفِلسطيني، فالشّعُوب المُناضلة والثّائرة والتي تُعاني مِن الإحتلال وحَالات الاستِبداد لا تقِف عِند خِيار أو خِيارين أو أكثَر في مَسيرتها لتحقِيق أهدَافها وهَذا رَدًا على الذين يُقللون أو يمسخُون ما وضَعه الشّعب الفِلسطيني من مُتغير مُفاجئ فِي طَريقتهم لتثبيت حقّهم في العَودة إلى دِيارهم المسلُوبة وكذلك ضِد كُل الأقَاويل التي يتم تناوُلها على المُستوى السّياسي سَواء من أشخَاص يُمثلون دِول أو من سِياسات دوليّة أو إقليميّة أو حتّى ذاتية.
الشّعب الفلسطيني قد كان خِياره بعد حَفلة من صِراعات الأحزَاب هو طَريق الكِفاح المُسلح كخيار لتَحرير فِلسطين، وعندما كان المُؤثر الإقليمي والدّولي أكثر ضَغطًا عليها تحوّلت إلى التّعاطي مع الأطرُوحات السياسية والقَرارات الأمميّة في تناولها للصّراع، وعندما ارتئَى الشّعب الفلسطيني أيضًا أن تلك القرارات تبخس في حقّه بل تُهدره قد قامت الإنتفاضَة الأولى، إنتفاضَة الحَجر في 1987 لتُنقذ مُنظمة التّحرير مِن مأزِقها السّياسي والوُجودي وإن كاَنت الإنتفاضَة قد أفرَزت قُوى أُخرى خَارج مُنظمة التّحرير أثبتَت وُجودها في الحيّز الفِلسطيني النّضالي وإن كَانت هُناك خلافات عَميقة في مفهُوم النضال بينَ مَن هُم ينتمون لمُنظمة التّحرير ومن هُم خاَرجها، من هُنا كان الصّراع ليسَ فقط مع الإحتلال بل أيضًا صِراع فلسطيني دَاخلي حول البرنَامج وكيفيّة التّعاطي مع الصّراع، قد تكُون الأقَاويل التي قِيلت عن برنَامج مُنظمة التّحرير والأقاويل التي قِيلت عَن من هُم خَارج مُنظمة التّحرير كالإسلام السّياسي وتمثّله حَماس بَعيدة عن الطّرح الموضُوعي للتحوّلات الثّقافية والنّضالية في الشّعب الفِلسطيني بل مَا هُو ثابتٌ أن كلّ المُتغيرات التي حَدثت سَواء في داخِل مُنظمة التّحرير أو خَارجها كَانت تسعَى بالدّرجة الأولى إلى تثبيت الحقّ الوَطني الفِلسطيني ويترَاوح هَذا التثبيت بين مَن قبِل بدولة في حُدود 1967م وبين مَن لم يقبلها، قاعدة فِلسطين كُل فِلسطين من الماء إلى المَاء، وهذا هُو جَوهر الخِلاف الذي لم يستطِع الفلسطينيّون بسبَبه الجُلوس على طَاولة واحدة ليخرجُوا بخيارٍ واحد أمَام تحوّلات إقليميّة ودوليّة تُهدد وجُودهم وخِياراتهم أيضًا، هذه حَقائق، أمّا الحَقيقة الأخرى فَهي حقيقة المُؤثر الكَبير على مُنظمة التّحرير وإعتمَادها على المَال السّياسي المُمول قد أجبرتها على تكييف وُجودها بما يتناسَب مع النّظام الرّسمي العَربي، والضّغوط الدّولية أيضًا على هَذا النظام، فانجرَفت نَحو أوسلُو التي قال عَنها رابين وأعَاد نفس الكَلمات شمعُون بيريز أن الفلسطينيين وقّعوا على شيء لا يعرفُوه، فكانت أوسلو هي الجُرف العَميق التي فرَضت مُنطلقاتها الثّقافية والأمنيّة والإقتصَادية على المكوّن الفِلسطيني وعمِلت جَاهدة على تثبيت تِلك المَفاهيم لتكرِيس مقُولة ومشرُوع سُمي بالمشرُوع الوَطني وهو الدّولة الفلسطينية على الضفّة وغزّة بعاصِمتها "القُدس الشّرقية"، اعتبرَ هذا تفريطًا من غالبيّة الشّعب الفلسطِيني وأوقَف مسِيرته الفصَائل خارِج مُنظمة التّحرير وإن كان لها أطرُوحات حِزبية يُدينها الكَثيرُون. فَشل خِيار حَل الدولتين وأسقطَته إسرائيل قَبل أن يُسقطه المُعارضين لأوسلو ولكن لا رَجعة لهذا الفَريق الأوسلوي فهُو ينتقل من مُربع إلى مُربع آخر أكثَر هبوطًا، فقد رَمى وخلّف خِيار الكُفاح المُسلح ورَاء ظهره للأبد، والإنتفاضَة أيضًا، واعتمَد على مَخرج سِياسي ومعنَوي وعَاطفي كملهَاة للشّعب الفِلسطيني "المُقاومة الذّكية"، في نَفس الوَقت تِلك المُقاومة الذّكية التِي اتّبعها ما يُسمى المُؤتمر العَام الحَركي السّابع لم تُحقق شيئًا أمَام مَنهجية الأجهِزة الأمنيّة لتمنَع أي فعَاليات أو نَشاط تخرُج نحو نِقاط ارتكَاز الإحتلال في الضّفة الغربيّة وتُحاصر النّشطاء وتُطاردهم وتعتقِل بَعضهم، رُبما كَان الخِيار المُقاومة السّلمية أمَام المُتغير السّياسي سَواء لدى إسرَائيل أو الحَالة الفِلسطينية قد يفرِض نوع من مَنهجية المُقاومة السّلمية كحلّ مَرحلي في إتجاه تثبيت حلّ الدّولة الوَاحدة في ظلّ إنعدَام الخِيار الآخَر، ولكن يبدُو أنّ تيّار أوسلُو لم يكُن بالجَراءة والإلتزَامات والإنضِباطات لمَفاهيم أوسلو ليمضِي إلى الأمَام في إتّجاه تثبيت المُقاومة السّلمية كبرنامِج أسَاسي للشّعب الفلسطيني، المُقاومة الفِلسطينية التي تقُودها حَماس دَخلت ثَلاثة حُروب مُدمرة مَع الإحتِلال وبنتائج سِياسية قليلة وتكَاد تكُون معدُومة، ولكن في الحَقيقة الثّابتة أن الشّعب الفِلسطيني في غزّة قد أرسَى حَقائق التّغيير في منهجيّة أوسلُو ووجُودها أيضًا، وقد نقُول بالبُعد الآخَر أنّ حماس دَخلت الإنتخابات وفَازت بالكُتلة التّشريعية فأصبَحَت جزءً من أوسلو التي تُعارضُها، وأعلَنت في مَا بعد وثِيقتها بقبُول دَولة على أرَاضي 1967 وعَدم الإعتراف باسرائيل، أوقف بَرنامج أوسلو وفَشِل أيضًا بمُعطيات سِياسة الإحتِلال وسِياسة الفصَائل خَارج مُنظمة التّحرير فاندثَرت مَفاهيم أوسلو السّياسية وكَانت عَملية العُقوبات التي مَارسها رئيس السّلطة هي عمليّة وُجود لا غير في ردّة فِعل تَدافع عن ثوب رثّ انتهى أجلُه لكي يقُول للإقليم وللقُوى الدّولية إنني موجُود واستمرّوا بمُساعدتي ماليًا وأمنيًا، هكذا كان يريد، كَانت العقُوبات عَلى غزة إلى حدٍ ما مُدمرة إضافةً إلى الحِصار ولذلك كَان للشّعب الفِلسطيني أن يبحَث عن خِيارات أُخرى ما بَين الكِفاح المُسلح والمُقاومة والمُقاومة السّلمية الذّكية، وإن قُلنا أن غزّة بطبيعة ثَقافتها يأتِي مِنها الجَديد دائمًا كانتفاضة الحَجَر في 1987 ولذلك وإن كَان الدّعم فَصائلي والتَبني فَصائلي فالخِيار كَان شَعبيًا وباندفَاع شَعبي وبإرَادة شعبيّة، وفِي يَوم الأرض الذي يُقدّسه الفِلسطينيون لتَحديد فَعليات مَسيرة العَودة، هذه مَسيرة العَودة التي تأخُذ الحَيز الإختِباري لفتح خِيارات جَديدة أمَام الشّعب الفِلسطيني لتحقِيق قرار 194 واستِكشاف رُدود الفِعل الإقليمية والدّولية وبما فِيها إسرَائيل لتطوِير هَذه المَسيرة بأدَوات أُخرى.
الكاوشُوك هو أسلُوب ذَكي وإبدَاعي أيضًا، وخِيار جَديد يدخُل في الصّراع وإن كَانت نَتائجه قَليلة مَيدانيًا، ولكن سِياسيًا فهُو قد يفرِض عَلى القِمة العَربية واقِع جَديد قد يُطوره الفِلسطينيون إلى أشيَاء أكثَر تعقيدًا ويقُوم بإحرَاج القُوى الإقليمية والمُجتمع الدّولي، والكَاوشوك يفرِض ورَقته على مُؤتمر القِمة كَما فَرض نفسَه على حالة الإستنفار الكُبرى عَلى سيكُولوجية وآليّات الجَيش الإسرائيلي، بالتّأكيد أن محمد بن سلمان وليّ العهد السّعودي وحَمد بِن خَليفة يُتابعون مَا يحدُث على حُدود غزّة، ويقارنُون الفَعاليات على الحُدود بتلك الجُمل التي قامُوا بالإفصَاح عَنها لإعطاء إسرائيل حقّ الوُجود على أرضٍ فلسطينية، هم تناقضُوا مع أنفسِهم ومع شُعوبهم ومَع تَاريخهم الذي دَعَم الثّورة الفِلسطينية سَابقًا، بالتّأكيد أنّ المَنطقة كُلها تخضَع لمُتغيرات مُتعددة، وصفقة القَرن لا تخُص الفِلسطينيين وحدَهم بل تخُص جُغرافيات أُخرى أيضًا عَلى مُستوى الإقليم، لذلك هُم انجرَفوا نحو إسرائيل ليأمَنوا وُجودهم فِي هَذه المُتغيرات وهَذه اللعبة الخطرة، عُمومًا غزّة لا تنعدِم خِياراتها دائمًا، وإن كَانت بَعدَد سُكان قليل لا يتجاوز 2 مليون، بل هُم سيكُونون أدَاة التغيير في المَنطقة وسيفرِضون أوراقًا سياسية وتعديلات على خِطة ترامب ومحمد بن سلمان.
إنها ثورة الكاوشُوك الذي سيُدخل في الجُمع التّالية إختراعاتٍ أُخرى، ورُبما عِندما تنطلِق القِمة العربيّة في 15 إبريل تجد مُتغيرًا آخَر قد يصفَع الجَميع بمُنطلقاتهم السّياسية.
بقلم/ سميح خلف