مسيرات العودة حالة شعبية ثورية محصنة ضد إفرازات الإنقسام

بقلم: جبريل عودة

مسيرات العودة الكبرى تتواصل بفعاليتها المتنوعة وإبداعات الشباب الثائر الذي يحافظ على سلمية الحراك الشعبي الواسع المطالب بحق العودة في مواجهة آلة القمع الدموية التي يستخدمها الإحتلال ضد المشاركين في تلك المسيرات والفعاليات , حيث يوجه رصاصاته الغادرة لصدور ورؤوس المدنيين العزل , ويستهدف إصابة مناطق خطرة في الأرجل قد تؤدي إلى البتر أو التسبب بإعاقات حركية , أضف إلى ذلك إستخدام الإحتلال للغازات بأنواع جديدة ومؤذية تؤثر بشكل أساسي على الأعصاب , هذه المنهجية القمعية الدموية في مواجهة مسيرات سلمية غير مسلحة , تدلل على عمق الأزمة التي يعاني منها الإحتلال وإهتزاز صورته المزيفة وسقوط روايته الكاذبة ,أمام صراحة الحق الفلسطيني ووضوحه , والمتابع للإعلام العالمي يرى مدى التعاطف والتأثير في وسائل الإعلام الدولية الذي فرضته تلك التحركات السلمية المطالبة بحق العودة تطبيقاً للقرارات الأممية وخاصة قرار "194" في فقرته الحادية عشر, ونحن كشعب يرزح تحت الإحتلال يجب أن نستخدم كافة وسائل وأنواع المقاومة في سبيل إسترجاع حقوقنا وتحرير أرضنا وكنس الإحتلال عن وطننا , فلكل وسيلة مقاومة ظرفها الزماني والمكاني والتي تدفع بها إلى صدارة الوسائل والأدوات المستخدمة في الصراع , دون إغفال أي وسيلة أخرى أو إسقاطها من الحسابات , حيث أن العمل العسكري والكفاحي أساسي ومركزي في التعامل مع الإحتلال كقاعدة رئيسية لا يمكن التنازل عنها , إلى جانب المظاهرات والإحتجاجات السلمية في مواجهة الإستيطان وجدار الفصل العنصري وهذا ما مارسه شعبنا في الضفة المحتلة , وكذا أساليب المقاطعة الإقتصادية للبضائع والمنتجات الصهيونية وهذا النوع من المقاومة شهدته إنتفاضة الحجارة 1987م , ومقاطعة محاكم الإحتلال وعدم الرضوخ للأحكام التي تصدرها , إلى جانب أساليب مقاومة كثيرة إعلامية ودبلوماسية وثقافية وشعبنا قادر على التنوع والإبتكار في ميدان المقاومة , ومعلوم أن الحفاظ على المقاومة كنهج حياة لشعبنا الفلسطيني أمر ضروري , للحفاظ على حالة الوعي الوطني , من محاولة التخريب التي تصرف من أجلها موازنات وتشرع قوانين وسياسيات , بهدف طمس القضية الفلسطينية وتصفيتها وحرفها عن المسار الوطني التحرري , إلى مسار إنساني إغاثي لفئة من البشر تحتاج الرعاية الإنسانية فقط , ولعل الدعاوي والمطالبات من بعض الأطراف الإقليمية والدولية بخصوص الأوضاع في قطاع غزة , تصب في هذا المسار المرفوض والذي يُغيب عمداً المشروع الوطني الفلسطيني ويحاول تشويه .

ما حققته مسيرات العودة الكبرى في ساحة الذاكرة الوطنية وميدان الوعي الفلسطيني , شكل رعباً للإحتلال وكل أدعياء التطبيع والقبول بالمحتل , فالفلسطيني الذي يطلب العودة إلى حيفا , ولم ينسى بئر السبع ولم تغيب عنه يافا وأسدود وكافة مدن وقرى فلسطين , يُسقط شرعية كيان الإحتلال ويضرب الرواية الصهيونية في الصميم , فعلى مدار سبعون عاماً يحاول الإحتلال تهويد أسماء المدن وتغيير معالمها , مستخدماً كل الأساليب الإجرامية والقمعية لطمس الحقيقة إلى جانب أساليب الدهاء السياسي والمكر الذي تولت كبره راعية الشر أمريكا , من أجل ترسيخ هذا الوجود الصهيوني النكد على أرض الطهر فلسطين , وما مسار التسوية التي إنطلقت في مدريد عام 1991م , الا من أجل ترسيخ الوجود الصهيوني في فلسطين وشرعنته , وسعياً لثبيت دولته المزعومة على أرضنا المحتلة , وتوهماً البعض بأن الفلسطيني سيقبل بالإعتراف للص بتملك الدار , وأن قوة الإرهاب الصهيوني المدعوم من قوى الإستكبار قادرة على هزيمة الفلسطيني في ذاكرته وتاريخه لينسلخ عنهما من أجل حياة الدعة والراحة والرخاء , لقد روج في حينه بأن غزة ستصبح سنغافورة كبيع للوهم من أجل الرضا على مسار بيع فلسطين , وهذا في سياق سلخ الفلسطيني عن مشروعه التحرري والنظر للصراع مع الإحتلال من جوانبه ليس لها علاقة بجوهر الصراع الوجودي على أرض فلسطين.

ما يميز مسيرات العودة الكبرى التي تدخل يومها الثاني عشر على التوالي , هو المشاركة الواسعة من مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني وفئاته العمرية , في تواصل للأجيال وتوارث للحق الفلسطيني , وهتاف الجمع المشارك عائدون , في ثورة شعبية عارمة تجدد الإنتماء لفلسطين وتسقط كل مشاريع التسوية الهزيلة ومؤامرات التصفية للقضية , لتتجلى الوحدة بصورتها الحقيقية في ميادين المواجهة مع الإحتلال , والتي دائماً توحد هذا الشعب وتزيل معها كل التعقيدات السياسية والمصالح الحزبية الضيقة , حيث الوطن يوحد الجميع ورايته ترفرف بلا منازع في ساحات مسيرات العودة الكبرى , لترسم لنا المشهد الحقيقي لروعة هذا الشعب المناضل وقدرته على صياغة اللوحة الوحدوية التي لا يمكن إختراق صلابتها أو تشويه جمالها الذي يرمز لأصالة الحق الفلسطيني وتجذره في نفوس أصحابه والمطالبين به رغم تتابع الأزمات الحياتية وإشتداد الحصار الظالم ومطاردة الموظفين في رواتبهم ومنع العلاج عن المرضى والمصابين , ورغم كل ذلك فإن الإيمان الراسخ لذا المشاركين في مسيرات العودة بأنها حالة شعبية ثورية محصنة ضد إفرازات الإنقسام السياسي , وتؤكد مسيرة العودة تجذرها في حالة الوعي الثوري الفلسطيني وتمكنها في زمن قياسي من تفجير مكنونات العمل الوطني الخالص لقطاعات واسعة من شعبنا البطل , تضع نفسها كسفينة نجاة للجميع من أجل أن يركب فيها , لتبحر بالكل الفلسطيني إلى بر الأمان لقضيتنا وشعبنا من الإستهداف والتصفية.

تؤكد التجارب النضالية أن معارك الوطن تخاض بإجماع لا نتعب في تحصيله , فالكل يتسابق للدفاع عن الوطن بلا تردد ، ومن يشذ فهو كالغنم القاصية تأكلها الضباع ، لقد توحد الشعب الفلسطيني في مسيرات العودة على ثوابته وحقوقه ، ولم يبقى أمام أصحاب القرار إلا الإنصياع والتسليم لإرادة الجماهير الحرة ، ليزدادوا قوة بإصطفافهم إلى جانب الشعب المنتفض ، رافعين شعار تحرير فلسطين والعمل على حشد كل الطاقات والإمكانيات في معركة التحرير والإنعتاق من الإحتلال المجرم.

في معارك الوطن ، تتوحد القلوب والألسنة على هيئة رجل مقاتل مدرع بقوة الشعب بأكمله ، ومن يخرج عن هذه الحالة فعلا أو قولا هم بمثابة الطابور الخامس ، الذي يسبق طوابير الأعداء الأربع في هدم الأسوار وزلزلة الحصون والفتك بالروح المعنوية للجبهة الداخلية , ومن يحاول حرف بوصلة مسيرة العودة ويعمل على إفشالها بأي طريقة ، يقدم هدية للإحتلال الصهيوني ويمد له يد العون للخروج من هذا المأزق المتعدد الوجوه أمنياً وسياسياً وإعلامياً وأخلاقياً ، ومن يفعل ذلك بكل تأكيد يصطف إلى جانب ليبرمان نتانياهو وترامب وكل أعداء الشعب والقضية .

بقلم/ جبريل عوده