لم يتبق من الحلم العربي في الوحدة والتقدم والقدرة على صنع الغد الافضل الا هذه الانتفاضة اليتيمة في فلسطين.
انصرفت الانظمة العربية، بملوكها النفطيين ورؤساء بلادها الفقيرة والامراء المن غاز، عن فلسطين وقضيتها المقدسة.
كذلك انفض عقد العرب بأحزابهم ذات التاريخ، ودولهم التي طالما بذلت جيوشها دماء فتيتها الأبرار على ارضها الطاهرة،
اندثرت الاحزاب ذات شعار “الوحدة والحرية والاشتراكية” أو “امة عربية ذات رسالة خالدة” او “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.. لبيك عبد الناصر”..
سقطت الاحزاب والجبهات القومية التقدمية على أعتاب السلطة، بعدما توسلت العسكر سلماً للسيطرة على الحكم، فالتهمها العسكر وحكم بإسمها بعدما هيمن على الدولة فجعلها مزرعة لضباطه ومن معهم من السماسرة والمنافقين والرجال البلا تاريخ والذين اجتهدوا لتزوير التاريخ وشطب الشعب ليبقوا وحدهم كأنهم البداية والنهاية.
تاجرت الانظمة بالشعارات ذات الرنين المقدس.. وحكم الضباط غير المؤهلين عقوداً طويلة استنزفوا خلالها البلاد والعباد، فأفقروا اهلها، ابطالاً وشهداء التحرير وذويهم، وشردوهم في أربع رياح الارض، وأعادوا البلاد إلى احضان القوى الاجنبية المهيمنة، بالاقتصاد والمخابرات واسباب التقدم، والعسكر، اذا لزم الامر.
أين فلسطين من ذلك كله؟
بعد سبعين عاماً على النكبة لم يتبق لفلسطين الا فتيتها الابرار، بعنوان عهد التميمي.
وها هي الانظمة العربية، التي قام معظمها باسم فلسطين وعلى حسابها، تتبارى في التنصل من اثقال القضية المقدسة، الا في باب المزايدة والمناقصة بين الانظمة المعنية.
بل أن بعض هذه الانظمة “يتبرع” بتقديم “حلول وسط” هي، عملياً، تنازلات فعلية عن جوهر القضية المقدسة..
*****
يا لوحدكم…
ها هي فتية فلسطين، صبايا الورود وشباب الامل، ينزلون وحدهم إلى الحد الفاصل بين جانبي القلب، غزة والضفة، يندفعون بقوة حقهم في ارضهم، لا يملكون من السلاح الا حجارتها في مقابل دبابات العدو وصواريخه وطائراته.. يقذفون بها جنود الاحتلال عن بعد، فيردون عليهم بالرصاص القاتل.. ويتساقط الشهداء والجرحى فيحملهم رفاقهم على أذرعتهم إلى أقرب منزل، بينما يكمل الآخرون مقاومة الاحتلال المدجج بالسلاح بصرخات الغضب وتأكيد حقهم في ارضهم.
لا أحد يهتم بأعداد الشهداء، لا العدو الاسرائيلي طبعاً، ولا الرأي العام العالمي، ولا عواصم القرار العربي التي يتزاحم ملوكها والرؤساء والامراء والوزراء على ابواب ” مركز القرار” في واشنطن، ودائما بالشراكة مع اسرائيل.
بل أن الاذاعات، مرئية ومسموعة، والصحف، رسمية وخاصة، لم تعد تجد “سبقا” في هذه الاخبار المتكررة والمعتادة، ولم تعد تجتهد في ارسال المندوبين او المراسلين، بل تكتفي بإيراد ما تبثه وكالات الانباء الاجنبية بصورة مجتزأة، وأحيانا بلا صور، ومن باب القيام “بالواجب المهني” وليس بدافع “الواجب الوطني” او القومي.
اما واشنطن فلم تجد ما تقوله الا توجيه “النصح” للمتظاهرين بالابتعاد عن الحدود.
لم تخرج تظاهرة دعم لحق الفلسطينيين في ارضهم، بل حقهم في الحياة، في أي بلد عربي.
لم تقطع اية دولة عربية لها علاقات مع دولة العدو علاقاتها بها، بل لم تقدم اية دولة على سحب سفيرها استنكاراً واعلاناً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن شرعية هذه العلاقات مع العدو في ظل احتلاله وبطشه وجرائمه اليومية المتمادية عنفاً وفتكاً.
*****
مجلس الجامعة .. يستفيق متأخراً
كيف لنا أن نطالب العدو بما لم يُقدم عليه الأشقاء؟.
لنتذكر انه خلال هذه المواجهات الدموية الشرسة بين السيف والجرح وقف على باب الابيض اكثر من رئيس وأمير ووزير عربي، وتحادث اكثر من ملك ورئيس عربي مع سيد الكون دونالد ترامب.. لكن احداً منهم لم يذكر فلسطين بكلمة، ومن تجرأ فذكرها اشفع ذكرها بالمساواة بين القاتل والضحية، مؤكداً أن للإسرائيليين في فلسطين الحقوق ذاتها التي للفلسطينيين، باعتبارهم “شركاء” شراكة السيف والجرح.
لا احد يملك مشروعاً سياسيا، او يجتهد لصياغة مشروع يُنهي المذبحة او يخفف من آثارها المأساوية..
طبعاً، لا أحد يفكر بدعم “المقاومة”، المدنية الآن، والسلمية، ولو ببيان تعاطف، او بتصريح رسمي “يلوم” فيه العدو الاسرائيلي، ولا نقول “يدينه” ويطالب بوقف المذبحة والا …
ومضحكة هي الدعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الذين يمضون وقت الضجر في المقاهي والاندية الليلية، وبالكاد يتذكرون قضية فلسطين، التي كانت ذات يوم “مقدسة” تاركين مهمة الاستنكار والشجب والادانة للأمين العام الذي يعرف المسؤولين الإسرائيليين معرفة وثيقة..
اما ما هو محزن فهي أن تُرفع هذه القضية إلى القمة العربية المقبلة المقرر عقدها، هذه الايام، في الرياض، التي يعود ولي عهدها بعد زيارة الاستعداد لتولي العرش والتي شملت واشنطن ومعظم مدن الابتكارات الجديدة وتحديث علوم الكومبيوتر، وقواعد الترسانة الحربية الاميركية بالطائرات والمدمرات وحاملات الطائرات وقواعد الصواريخ بعيدة المدى.. التي سوف يشتريها لمقاتلة إيران وليس اسرائيل، التي اكتشف أن لنا بيهودها علاقات حميمة عبر التاريخ.
*****
كلهم مشغول عن فلسطين..
مصر مشغولة بانتخاباتها الرئاسية ومشكلاتها الاقتصادية،
وليبيا قد زالت عن الخريطة السياسية للمنطقة،
وتونس تعيش ذروة الصراع بين الديمقراطيين والاسلاميين والمستغربين من شعبها،
والجزائر غائبة عن الوعي مثل رئيسها الذي يرفض التنازل والخروج من السلطة ليأتي اليها من يحمي تاريخها النضالي المجيد،
والمغرب يحرص على علاقات مقبولة بالكيان الاسرائيلي لان له “جالية” كبرى من يهوده فيها، وفي الايام الاخيرة جاء إليها بعض الوزراء المغاربة للاطمئنان إلى احوالهم، واغتنموا الفرصة للتبرك بزيارة المسجد الاقصى.
أما سوريا فما تزال غارقة في دمائها نتيجة الحرب فيها وعليها، وقد شغل الاتراك طرفاً محارباً فاحتلوا مناطق على الحدود السورية ـ التركية (عفرين وجوارها)، وتركوا لقوة الاحتلال الاميركية أن تتقدم نحو منبج (دعماً للأكراد)، بينما شهدت انقره قمة ثلاثية جمعت إلى تركيا اردوغان روسيا بوتين وايران روحاني، للاتفاق على مستقبل سوريا!!.. علماً بأن القوات التركية تطارد، ايضا، اكراد العراق في منطقة سنجار الخ..
من لفلسطين في هذه الفوضى الدموية التي تعصف بالوطن العربي؟!
من لفلسطين غير فتيتها الأبرار المزودين بحجارة ارضهم المباركة وإرادتهم الجبارة وإيمانهم الراسخ بحقهم في وطنهم الذي كان دائماً وطنهم والمهدد الآن بالضياع في قلب المؤامرات والتنازلات، عربيا وفلسطينيا؟
لكِ الله يا فلسطين .. ليس لك ِالا دمك.
طلال سلمان
تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية