بعد ربع قرن تقريباً من التجربة الحية على أرض الواقع المُعاش، يمكن القول اليوم ودونما مُبالغة أو ادعاء، أن الكيّان الفلسطيني الذي تأسس عام 1994 بمباركة أمريكية وصهيونية وعربية رسمية، وأُطلق عليه اسم (السلطة الفلسطينية).
هذا الكيان الرخو والتابع لإرادة وإدارة الاحتلال والاستعمار، سقط مشروعه المفترض سياسيًا وشعبيًا وقانونياً، وحصد فشلاً ذريعًا، تكشّفت حقيقته وطبيعة دوره أمام الأكثرية الشعّبية الفلسطينية الساحقة في الوطن والشتات، هذه الأكثرية المُعذّبة والمُغيبّة باتت بدورها أمام تحدٍ كبير يتمثل في ضرورة إعادة الحياة للمشروع الثوري الديمقراطي البديل، وباتت تدرك في أعماقها ان الكيّان الفلسطيني الفاسد هو التجسيد العَمليّ لمشروع التصفية، المشروع ذاته الذي حذّر منه يوماً الأديب الشهيد غسان كنفاني في زمن مضى. بعبارة أدق: إنه التجسيد الأمنيّ والسياسيّ والاقتصادي للاتفاق المعروف باسم “اتفاق أوسلو ” التصفويّ.
لقد نشأ كيان اوسلو داخل الغُرف المُظلمة برعاية دوائر الإستخبارات الغربية، الأمريكية على نحو خاص، فجاء هجينًا وعجيباً لا يُعبّر عن تطلعات وطموحات شعبنا، ليس لأنه جاء من خارج الشرعية الشعّبية الفلسطينية وحسب، بل لأنه مشروع صنعه وأعدّه لنا معسكر العدو ايضا، لم تصنعه الإرادة الشعبية الفلسطينية الحرة، واستطاع العدو من خلال اتفاق أوسلو أن يأخذ القلعة من الداخل كما يقال. باختصار مكثف أكثر:
كيان أوسلو له وظيفة أمنية واقتصادية محددة ومنصوص عليها ، فإذا قام عليها واحترفها، يمكنه تأمين إمتيازات طبقية لشريحة فلسطينية في الداخل ستكون شريكاً للإحتلال، هذا بالضبط معنى (السلام الاقتصادي) في الفكر الصهيوني الذي يجري الحديث عنه والتسويق له بل وترجمته واقعاً على الأرض من قبل بنوك ودوائر وقادة العدو الصهيوني.
كيان أوسلو أصبح جزءٌ لا يتجزأ في بنية النظام الإستعماري والنظام العربي الرّسمي ، يعمل في إطار المنظومة الأمنيّة الاسرائيلية داخل ما يسمى “المناطق” في فلسطين المحتلة، وإنتقل تدريجيًا خلال العقدين الأخيرين إلى موقع الخصم للشعب الفلسطيني لأن كيان أوسلو قفز أكثر من مرة من موقع المُهَدِدْ للقضيّة والحقوق و المشروع الوطني التحرري الفلسطيني إلى موقع الأداة التدميرية السرطانية في الجسم الفلسطيني نفسه، الطعنة المسمومة المغروزة في ظهر الشعب وقوى المقاومة، انه جزء من عملية ومشروع التصفية، بوصفه كيان وظيفي يعمل في خدمة أمن وإقتصاد العدّو الصهيوني ومصالح القوى الإمبريالية والرّجعية في المنطقة، انه نموذج يجب تعميمه في المنطقة من منظور الإستعمار “الجديد” وهذا ما يُسميه الصديق د. سيف دعنا بـ”عقيدة أوسلو” .Oslo Doctrine
أمام هذا الواقع السياسي والإقتصادي المركب الذي بات يُدركه شعبنا جيداً بالتجربة الحية، تبرز الأسئلة التالية: ما هو بديل السلطة الفلسطينية وكيانها الفاسد؟ من هي القوى والحوامل السياسيّة والإجتماعيّة التي ستحمل هذا المشروع النقيض؟ من يصنع البديل الثوري الوطني الدّيمقراطي، وكيف نصل إليه؟ وهذه الأسئلة الحارقة طابعها جماعي لا يمكن لفرد أو فريق واحد أن يجيب عليها، تحتاج إلى نضال ميداني وفكري وتقديم أجوبة وطنية جماعية تنطلق على قاعدة الحقوق الأصيلة والشرعية للشعب الفلسطيني وبالتوازي معها تبني خيار المقاومة العنفية والشعبية الشاملة من أجل تحقيق الهدف الوحيد الجوهري الذي يمكن ان يجمع عليه شعبنا الفلسطيني وهو: العودة والتحرير.
ربما يكون من الأهمية بمكان تذكير أنفسنا بحقيقة أن الشعب الفلسطيني ليس أول شعب في البشرية تتعرض حركته التحررية إلى مثل هذه التحدّيات الدّاخلية الحارقة والكبيرة، تخونه قيادته وتطعنه في ظهره وترمي بحقوقه وأحلامه إلى دوائر الخطر والتصفية لتؤمن امتيازاتها الطبقية الضيقة والصغيرة، اسألوا “حركات السود” والسكان الأصليين في نيوزليندا واستراليا وكندا والولايات المتحدة وغيرها.
وحدث هذا أكثر من مرّة، وفي العديد من مناطق ودول العالم، في أمريكا اللاتينية واسبانيا والجزائر وجنوب أفريقيا والهند وايرلندا حيث تعرضت شعوب وحركات تحرر وطنية قاومت الاستعمار إلى فترات صعبة معقدة ومتشابهة سرعان ما كانت الشعوب تستعيد عافيتها وطريقها الوطني وخيارها الشعبي فتولد القوى الثورية الجديدة وتسترد الحركة الثورية دورها وموقعها وتستأنف مشروعها الوطني التحرري من جديد وتنتصر.
سلطة “وطنية” للإستعمار:
يبحث الإستعمار عن واسطة محليّة تتحدث لغة السكان الأصليين وتكون بمثابة الحزام الفاصل بينه وبين الشعوب وتتحمل إدارة مجتمعاتهم وشؤونهم بعيدا عن “المركز” المقرر ، فالقوة الإستعمارية المُهيمنة على الأرض تظل قوة غريبة عن سكانها ولم تأتي الى هنا لتقيم علاقة إنسانية أو تحتك ثقافياً وحضارياً مع الجمهور الخاضع لسيطرتها بقدر ما تبحث عن القوة والسيطرة والهيمنة والثروة والتوسع ولو عبر العزل والفصل والتهميش والحصار، ومن الطبيعي إذن، والحال هو الحال، أن يفتش الإستعمار عن آليات واقعية اقتصادية وثقافية واعلامية تضمن له السيطرة ويحل من خلالها هذه الإشكالية / العقدة، فيستجلب المُستعمر جزء من النخبة المحليّة “الوطنية جداً” لو شئتم، من أصحاب المصالح وكبار العملاء والوسطاء والوكلاء والتجار والجهات القبلية وقادة الأحزاب التقليدية، يستجلبها من داخل المجتمع نفسه، ويسمح لها بتشكيل سُلطتها وكيانها المحلّي مقابل تأمين إمتيازات طبقية ، ومعها بالطبع توفير أدوات القمع المتعددة أيضاً، الخشنة والناعمة، لعصا والجزرة، الهراوة والدولار، السجن والملهى، المنع و” التصاريح” عبر بوابة التنسيق الأمني، ومع كل هذا وذاك، وسائل وأدوات التجهيل والتعميه يقوم بها جيش من المثقفين والمرتزقة.
إن الكيان المحلّيّ التابع يقفز كالجندب السكران بين وظيفة الوكيل ووظيفة العميل في البلد المُستعَمَر، وبغض النظر عن التسمية التي يمنحها له المحتل، سيظل مُرتبط إرتباطاً وثيقاً بِحبل المصير المُشترك مع مرجعيته الأخيرة ، صاحب السلطة الحقيقية “هنا، حيث يقف الدولار” كما يقول المثل الإنجليزي ، وعليه، فلا يمكن إلا أن يكون كياناً هَشاً وتابعاً وهجيناً وفاسدًا ومُلحقاً، تماماً مثل كيان “الواسطة الفلسطينية” في رام الله المحتلة اذ يقف كالشرطي البائس بين الجماهير وبين الإحتلال و ائما لمصلحة كيان الاحتلال ووكلائه.
ولذلك ايضاً يجد السلطوي الفلسطيني نفسه في مأزق مستمر، بين مطرقة الضغط الشعبي من جهة و بين سندان وشروط الإحتلال من جهة أخرى، بين مطالب وصرخات الطبقات الشعبية التي يقمعها يومياً لانها تطالبه بوقف “التنسيق الأمني” وتًشّكل الحاضنة الشعبية للمقاومة أو (السلطة الشعبية البديلة) وبين الجهة الرّاعية له التي تضمن بقائه وتحمي تدفق إمتيازاته لكنها قوى لا تشبع تطالبه بالمزيد من الولاء والطاعة والانكشاف، فيتذّمر محمود عباس من المقاومة و يتذمر من “ترامب” و”نتنياهو” في وقت واحد وفي نفس الجملة!
يلعب فريق أوسلو دور الواسطة لكنه أدمن في الوقت ذاته تمثيل دور الضحية المَغلوبة على أمرها، الضحية التي تدّعي أن لا أحد يفهمها او يقدّر ظروفها، فهي وحدها التي تفهم وتعرف أكثر من كل الناس و”صاحبة المشروع الوطني” !
إن النظر بعمق أكبر إلى العلاقة القائمة اليوم مثلاً بين كيان الإحتلال وكيان أوسلو من جهة، وبين الطبقات الشعبية والمقاومة المُسلحة في قطاع غزة من جهة أخرى، تَدُلنا كيف يتكشف معنى الصراع الطبقي وكيف يجري قمع الطبقات الشعبية الفلسطينية وحصارها، بلقمة العيش اذا احتاج الأمر، يراد دفعها دفعاً إلى الاستسلام و الإنتقال للموقع الرجعي النقيض ولو بالقوة والحصار الشامل.
وكلما اشتد الصراع سيكثُر الحديث عن “تلقين غزة الدرس القاسي” حتى تنتفض الجماهير وتنقلب على المقاومة وعلى نفسها لكن الطبقات الشعبية في القطاع المُحاصر هي حاضنة المقاومة وجرّبت العلاقة مع كيان أوسلو طوال ربع قرن و عقد من الحصار، فحزمت أمتعتها واسلحتها البسيطة و ذهبت إلى “الحدود” لتطالب بحقها في العودة والحرية وتعلن عن انتفاضة شعبية حقيقية، سترفع العلم الفلسطيني وتحرق أعلام الكيان الصهيوني وصور ترامب ورموز آل سعود وتلقن العدو والصديق درساً جديداً في معنى “كيّ الوعي و الوعي المُضاد” وان الجماهير قادرة على مواجهة عسف المرحلة وما يسمى ب “صفقة القرن”!
حال الكيان التابع أو الشريك الصغير يشبه بالضبط حال “المثقف الريفي المهزوم” أو “المبرراتي” بالمفهوم الشعبي المصري وأغاني الشيخ إمام. وكان الثائر والمفكر الإيطالي انطونيو غرامشي يحذر من دور المثقف “كواسطة بين الجمهور والسلطة” فالمطلوب هو خلق ثقافة بديلة وجديدة وليس فقط سلطة ومؤسسة بديلة! وفي الحالة الفلسطينية، فإن الواسطة تشبه صورة المختار الفلسطيني التقليدي الجاهل الذي أراد ان “يُصلِح” يوما بين الناس في القرية و بين ضباط “الإدارة المدّنية”! سواء ارتدى الواسطة “دِماية” وكوفية أو بدلة أوروبية جديدة او اعتمر لحية وعمامة يظل في الجوهر وكيلاً كريهاً فاسداً يأتي دائماً على صورة “الهبّاش” .
وبالعودة إلى السؤال المركزي عن البديل الثوري الديمقراطي، فإن السلطة الثورية وسيلة مطلوبة أحياناً من أجل تعزيز قواعد ونفوذ الثورة كبديل شعبي ومؤسساتي وطني متماسك، سلطة شعبية مغايرة قرارها في قبضة الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير والتحرير فتكون سلطة للشعب أو لا تكون. ويصبح قرار دفع “الرواتب” شأن المؤسسات الوطنية الموثوقة ولا يخضع لوزراء وأقلية مهزومة تعمل في خدمة معسكر العدو.
خالد بركات
يتبع…
كيّان اوسلو والبَديل الثوريّ الدّيمقراطي (2 )