كثيرا ما اتسمت العلاقة بين السياسة والثقافة في منطقتنا العربية , بطغيان المشهد السياسي على الثقافي , وعلى الأخص خلال الخمسين سنة الماضية , التي عاصرها جيلنا على الأقل , وهي المرحلة التي أعقبت الهزة الكبرى , بالهزيمة العربية في حرب حزيران 1967 , بعد أن شهدت سنوات الخمسينات وحتى منتصف الستينات , بروز دور المثقف , على رغم وجود الحراك السياسي الذي أفرزته سنوات الاستقلال للعديد من الدول العربية في تلك الحقبة , حيث اعتمدت الحركة الثورية في تلك الفترة على النخبة الثقافية لتوعية الجماهير العربية وتعبئتها , وبرزت بقوة في هذا المجال حركة القوميين العرب , والأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية , وحزب البعث العربي , حيث وقف على راس هذه الأحزاب ولجانها المركزية العليا , طبقات المثقفين , من كتاب وشعراء وأدباء واطباء وغيرهم من المثقفين, على الرغم من وجود النخبة العسكرية التي حكمت العديد من الدول العربية .
في تلك الفترة لم يكن أي وجود بارز للأحزاب والجماعات الاسلامية , ما عدا جماعة الاخوان المسلمين , التي حاولت أخذ دور وسط الوجود المكثف للقوى العلمانية , غير أن مواجهتها مع مصر الثورة , أفشلت محاولتها البروز , لأنها لم تكن تملك النخبة المثقفة الواعية , حيث انحصرت أفكارها بالدعوة والفكر الاسلامي " المنغلق " , في مواجهة الانفتاح الفكري والثقافي , الذي كان سائدا في تلك الفترة , وكانت الضربة القاصمة التي وجهت اليها في منبت الجماعة (مصر) , التي أبعدتها عن صراع الثقافي والسياسي بشكل كبير... تلك الفترة التي شهدت نهضة ثقافية في جميع أشكال الكتابة الأدبية من شعراء كبار , وادباء في القصة والرواية , والفن بأشكاله المختلفة من مسرح وسينما , وأيضا بدء البث التلفزيوني في المنطقة , حيث كانت كلمة المثقف مسموعة ونافذه ومؤثرة , غير أن النكسة التي أعقبت هزيمة حزيران , أوجدت أجواء مختلفة , وبروز العسكرة التي تسيرها السياسة , وهنا حدث الانقلاب بطغيان السياسي على الثقافي , وتراجع دور النخب المثقفة , حيث اصبحت اليد العليا للسياسة , وبات العمل بالسياسة هو الغالب , خاصة بعد أن انخرط أيضا الكثير من الطبقة المثقفة في العمل السياسي , بحجة أن المرحلة الآن للعمل العسكري والسياسي , للخروج من المرحلة السوداء التي أعقبت هزيمة حزيران , كانت هذه الصورة المشهودة في المنطقة العربية عامة .
أما في وضعنا الفلسطيني , والذي في منتصف الستينات انطلقت ثورته المعاصرة بقيادة حركة فتح , ثم لحقت بها الحركات والاحزاب القومية والعلمانية واليسارية , وشكلت ائتلافا سياسيا تمثل في منظمة التحرير الفلسطينية , فإن العمل الفدائي والعسكري كان هو الطاغي على العمل السياسي والثقافي , على الرغم أن من أطلق الثورة وقادتها هم اساسا من الطبقة المثقفة والمتعلمة , غير أن العمل العسكري والفدائي فتح المجال لانخراط قيادات وسطى لم يكن لديها الكثير من الوعي السياسي , او الثقافة الكافية , وعلى الرغم من محاولة القيادة ابراز الدور الثقافي داخل أطرها , إلا أن العسكري والسياسي ظل طاغيا ومسيطرا , ومع منتصف السبعينات , برزت وبقوة سيطرة السياسة على الثقافة , حيث انخرطت قيادة المنظمة في العمل السياسي بشكل واضح , مع تواصل العمل العسكري , بفعل الضربات والمؤامرات التي تعرضت لها قوى منظمة التحرير والوجود الفدائي في سوريا ولبنان , بعد الخروج الكبير من الأردن في بداية السبعينات , وظل هذا الوضع المتأرجح بين العمل العسكري والسياسي , في غياب الثقافي بشكل كبير , إلى عام 1982 , حيث الاحتلال الاسرائيلي للبنان , وخروج قوات الثورة من لبنان , وتوزعها في عدد من الدول العربية , وهنا كانت بداية غياب العمل العسكري , إلا من بعض العمل الفدائي داخل الا{اضي المحتلة , وهنا بدا المشهد السياسي بالبروز بقوة , إلى أن وقعت الانتفاضة الأولى عام 1987 , وبروز قوة جديدة في ساحة العمل العسكري والسياسي , بتشكيل جماعة الاخوان المسلمين , حركة المقاومة الاسلامية ( حماس ) , والتي لا يوجد في أطرها واطروحاتها أي وجود للعمل الثقافي , إلى أن وصلنا لمرحلة أوسلو عام 1993 , ثم قيام السلطة الفلسطينية , وهي المرحلة التي اتسمت بالعمل السياسي الغالب , وظل هذا الوضع قائما في محاولة من القيادة الفلسطينية لترسيخ الأوضاع السياسية والأمنية , بعد قيام حركة حماس بأعمال عسكرية لإثبات وجودها وتخريب اتفاق السلام , إلى أن قررت الانخراط في العمل السياسي ودخول الانتخابات , التي فازت بها بالأغلبية , ومن هنا بدا الغياب الكبير للمثقف في الأطر التي تقود المرحلة , وبروز قيادات لا تتمتع بأي خلفية ثقافية , حيث تقدم الصفوف في حركة حماس , من أنصاف المتعلمين , من يحمل صفة الداعية وشيخ الجامع والامام , والأمي في كثير من الأحيان , وهذه الطبقة لا يهمها أي عمل ثقافي , وهي مسيرة من طبقة سياسية عليا في جماعة الاخوان , وهكذا بدا المشهد الثقافي بالانحسار , خاصة بعد حدوث الانقلاب في غزة في صيف عام 2006 , , وعودة طغيان العسكري في غزة , مقابل طغيان العمل السياسي في رام الله , فكان هذا التراجع الكبير للمثقف والنخبة الثقافية , والمشهد الثقافي , , امام السياسي والطبقة السياسية الحاكمة المسنودة بقوى أمنية تدعمها , وتحافظ عليها , وعلى مكاسبها السياسية والمالية , فكان المشهد الثقافي الباهت في مواجهة السياسي الطاغي , على الرغم من محاولات بعض المثقفين تنشيط الوضع الثقافي بإقامة أمسيات وندوات بين الحين والآخر , في محاولة لإثبات الوجود ..ومن يريد أن يتعرف على الوضع المزري للثقافة في بلادنا , وخاصة في قطاع غزة , عليه أن يقوم بزيارة لمقر اتحاد الكتاب والأدباء في مدينة غزة , ليشهد الوضع البائس للثقافة , حيث لم يستطع القائمون من المثقفين هناك من أعضاء الأمانة للاتحاد تدبير الايجار البسيط للمقر منذ شهور طويلة , على الرغم من تواضع المقر , وتواضع المبلغ المطلوب.
نحن إذن أمام مشهد ملتبس , من تراجع الثقافي أمام السياسي بشكل مريع , ولا بد للنخبة الثقافية من تنظيم نفسها والمقارعة بقوة, من أجل عودة دور المثقف لقيادة المشهد , والتصدي لمرحلة هيمنة السياسي والعسكري والأمني السائد في الساحة الفلسطينية .
بقلم/ د. عبد القادر فارس