الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فصيل أساسي من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية ومن الحركة الوطنية الفلسطينية، كان ولازال لها إسهاماتها الكفاحية والنضالية، المهمة في مسيرة النضال الوطني، ولها خصوصيتها الخاصة التي تميزها عن بقية الفصائل الوطنية الأخرى، الجبهة الشعبية تعتبر المولود الشرعي أو الوريث الأساسي لحركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور جورج حبش مع نخبة من المثقفين الفلسطينيين والعرب بعد نكبة فلسطين عام 1948م في بداية خمسينات القرن الماضي، حيث لاقى الفكر القومي رواجاً في الأوساط الجماهيرية العربية بعد الحرب العالمية الثانية، فكان ظهور حركة القوميين العرب إستجابة طبيعية لما تتطلع إليه الجماهير العربية من وحدة الدول والشعوب العربية، شأنها شأن حزب البعث العربي الإشتراكي، الذي هو الآخر تمكن من الوصول إلى حكم دولتين عربيتين أساسيتين هما سوريا والعراق، وقد كان التنافس بين حركة القوميين العرب وحزب البعث طيلة عقدي الخمسينات والستينات على قيادة الجماهير العربية، وعزز ذلك ثورة 23 يوليو 1952م في مصر وتبنيها فكرة القومية العربية والوحدة العربية، وقد تماهت حركة القوميين العرب معها تماهياً حد التطابق مستفيدة من الأجواء السياسية القومية التي أشاعتها في أوساط الجماهير العربية، وكان في الإتجاه الآخر التيارات ذات النزعة الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين) ومن ثم حزب التحرير الإسلامي المنشق عنها، والذين يدعون لإستعادة الوحدة الإسلامية وإستعادة الخلافة، على تلك الأسس الفكرية كانت ترى هذه التيارات الفكرية والسياسية والحزبية أن حل ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية للأمة تبنى على أساس الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية، وكانت المواجهات حادة تصل إلى درجة التخوين بين هذه التيارات، وكان حضور الإتجاهات اليسارية الماركسية الشيوعية في أوساط الجماهير العربية قد إحتل مساحة لا يستهان بها لكنه دون مستوى التيارات القومية والإسلامية، وكان نصيب فلسطين وشعبها المشرد شأنه شأن بقية الجماهير العربية بل الأكثر تأثراً في هذه التيارات الفكرية والسياسية، لأنه صاحب (قضية ونكبة مركبة) فكان ينظر إلى هذه التيارات كمخلص له من آثار نكبته ووسيلة لإسترجاع حقه السليب في وطنه، فتوزعت النخبة الفلسطينية على التيارات الثلاثة (القومية والإسلامية والماركسية)، وجميع هذه التيارات كانت تضع القضية الفلسطينية في صلب برامجها وسياساتها وتعتبرها قضية مركزية، لكنها (قضية مركزية مؤجلة) حتى تتحقق أهدافها الأساسية في الوحدة العربية أو الإسلامية، فكان التيار القومي يُنَظِر ويَعتبر الوحدة طريق التحرير، وبالتالي فإن تحرير فلسطين لا يمكن أن يأتي حتى يتم تحقيق الوحدة العربية، والتيار الإسلامي إنشغل بإصلاح المجتمع ومحاربة التغريب والحداثة التي بدأت تغزو البلاد العربية بعد إنهيار الحكم العثماني ودخول الإستعمار الغربي، ورفضه للدولة القُطرية الوطنية التي نشأت على أنقاضهما، وأن فلسطين أيضا لديه تعتبر قضية مركزية ولكنها أيضا مؤجلة إلى إنجاز الوحدة الإسلامية وإستعادة الخلافة البائدة، وكذلك التيار اليساري الماركسي الشيوعي وهو الأضعف عن التيارين السابقين كان يرى في الإتحاد السوفيتي النموذج للخلاص من إرث الماضي والإنتقال إلى الحاضر والمستقبل العربي وضرورة الإطاحة بالحكم العشائري والقبلي المتحالف مع الإقطاع والبرجوازية وعملاء الإستعمار الغربي، وأن حل قضية فلسطين سوف يتأتى عند حسم الصراع الإجتماعي وسيطرة طبقة العمال والفلاحين (البروليتاريا) على الحكم في الوطن العربي وفي (إسرائيل)، فالقضية الوطنية مندمجة إلى أبعد حد مع المسألة الإجتماعية، فتوحيد النضال والكفاح بين طبقة العمال والفلاحين العرب واليهود في فلسطين كفيل بحل التناقض القائم بين العرب الفلسطينيين واليهود، في ظل هذه الأجواء الفكرية والسياسية المسيطرة على عقل وتفكير النخبة العربية ومنها الفلسطينية، كان ظهور حركة "فتح" أواخر خمسينات القرن الماضي على يد نخبة من أبناء فلسطين الذين خاضوا تجربة فكرية أو سياسية أو تنظيمية في مختلف التيارات السائدة الثلاث، حيث إكتشفوا بالممارسة أن أي من التيارات لا يعتبر القضية الفلسطينية (قضية عاجلة) وإنما هي قضية مركزية (مؤجلة) متوقفة على تحقيق وإنجاز هدف أكبر يتمثل في الوحدة العربية أو الإسلامية أو سيادة الطبقة العاملة ... والشعب الفلسطيني يعاني ما لا يعانيه المواطن العربي في بقية أقطار العرب من الظلم والإضطهاد والتشرد واللجوء، ذلك ما أدركه الشباب الفلسطيني الطلائعي الذي تنادى إلى الفكرة الوطنية وإنتظم في بؤر متعددة حيث تنتشر النخب الفلسطينية في الوطن وفي الشتات، وقد تلاقت هذه البؤر لتكتشف أن لديها نفس القراءة للواقع العربي والواقع الفلسطيني، وقررت أن تبادر إلى العمل من أجل نقل القضية الفلسطينية من سياقاتها القومية والأممية والإسلامية (الآجلة) إلى سياقات ((وطنية عاجلة)) دون إغفال منها للأبعاد القومية والإسلامية والإنسانية للقضية الفلسطينية، فكان تشكيل (تنظيم حركة فتح) الذي أخذ يتبلور مع نهاية خمسينات القرن الماضي، وكان إنتصار الثورة الوطنية الجزائرية بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري ملهماً لهؤلاء الشباب والطليعة النضالية، وقد إنسلخ العديد من الكفاءات والشباب من تلك التيارات السالفة لينظم إليها وينخرط فيها، حتى نضجت الظروف السياسية والفكرية لإعلان هذا التنظيم (فتح) والإعلان عن إنطلاق جناحه المسلح (قوات العاصفة) في 1 / 1/ 1965م وكان لإنطلاقته وقع الصاعقة على الكيان الصهيوني من جهة لتبنيه الكفاح المسلح أسلوباً وحيداً لتحرير فلسطين، وكذلك على التيارات السياسية والفكرية المهيمنة على الجماهير العربية، عند رفعه شعار (التحرير طريق الوحدة) بديلاً عن شعارات (الوحدة طريق التحرير)، فأتهمت حركة "فتح" من هذه التيارات بما عرف بالتاءات الثلاث (التوريط – التوقيت – التفريط) أي أن الوقت لا يزال غير مناسب لإعلان الكفاح المسلح، وأنه سوف يؤدي إلى توريط النظم التقدمية في سوريا ومصر في حرب غير مستعدة لها، وهذا سيؤدي إلى التفريط بما تبقى ... وأخذت التيارات الثلاث تشكك في غايات هذه الحركة الوليدة وتعمل على محاصرتها، ولكن الجماهير الفلسطينية كانت متعطشة إلى نقل قضيتها من أطرها المؤجلة إلى إطار سياسي وفكري (معجل) حتى لا يطويها النسيان وتهمشها الخلافات الفكرانية والإيديولوجية السائدة، فمثلت حاضنة شعبية وطنية عريضة لحركة "فتح" وفكرها، وأخذت تنمو وتتوسع على حساب إنحسار التيارات الثلاثة المنوه عنها والتي كانت تتقاسم إنتماء الجماهير الفلسطينية، وبعد أن حلت نكبة حزيران 1967م وما خلفته من مآسي ومن نتائج كارثية كشفت عورة النظام السياسي العربي الرسمي والشعبي، إزدادت جماهيرية حركة "فتح" وإعتبارها الطريق والوسيلة والأسلوب الذي لابد من أن يسلكه الشعب الفلسطيني للحفاظ على قضيته وإستعادة حقوقه المغتصبة ...
أمام هذا الوضع المستجد والواقع المؤلم، إضطرت كافة التيارات الفكرية والسياسية التي كانت تعارض إنطلاقة حركة "فتح" أن تسقط تاءاتها الثلاثة، وأن تنخرط في المقاومة المسلحة للإحتلال الإسرائيلي، وأن تقوم بتشكيل فصائل عسكرية مسلحة بإستثناء التيار الإسلامي، الذي بقي متمترساً وأسيراً لتحليلاته وإعلاء التناقض مع التيارات القومية واليسارية والنظم الحليفة لها على التناقض مع الإحتلال ... ولم تشكل تيارات الإسلام السياسي فصائل مسلحة بإستثناء المشاركة الخجولة التي قامت بها جماعة الإخوان المسلمين من خلال حركة "فتح" في عامي (69 / 70) ثم طويها والإنسحاب إلى حيث كانت، متخذة موقفاً سلبياً من ظاهرة المقاومة والكفاح المسلح وفصائله المختلفة...
وهنا يأتي تشكيل ودور الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تأسست عقب نكبة حزيران 1967م وفي شهر أكتوبر من ثلاث مكونات أساسية هي (شباب الثار) (حركة القوميين العرب) (وأبطال العودة) (مجموعات وطنية مسلحة) (وجبهة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد جبريل الموالية للنظام السوري وأجهزته الأمنية)، وقد كانت قوية وواسعة لما توفر لها من رصيد جماهيري من تنظيم حركة القوميين العرب الممتد على مستوى الوطن العربي ومن دعم النظام السوري لها من خلال مشاركة تنظيم أحمد جبريل المحسوب عليه، وبالفعل مثلت فصيلاً ثانياً بعد "فتح" بل منافساً قوياً على مستوى إتساع تنظيمها وجماهريتها القومية والناصرية في آن، لكن هذا لم يدّم طويلا، حتى جاءت معركة الكرامة في 21 /3/ 1968م، والتي لم تشترك فيها الجبهة الشعبية وآثرت الإنسحاب من الأغوار بعيداً عن أرض المعركة حفاظاً على الذات وتجنباً للإنسحاق حسب تقديراتها العسكرية والسياسية في ذلك الوقت، على عكس قرار حركة "فتح" ومعها قوات التحرير الشعبية التي آثرت الصمود والمواجهة وما حظيت به من مساندة من القوات المسلحة العربية الأردنية حيث ألحقت الهزيمة بقوات العدو الغازية، وتحقق الإنتصار عليها في معركة أعتبرت تاريخية في إطار الصراع العربي الإسرائيلي بعد نكبة عام 1967م فهنا إتسعت جماهيرية حركة "فتح" أكثر فأكثر وكان التدفق الجماهيري إلى قواعدها وتنظيمها، كحركة تحرر وطني بإمتياز حددت أهدافها ووسائلها التي لاقت تفهماً وتجاوباً من الجماهير الفلسطينية والعربية وتوجت قائدة للنضال الوطني الفلسطيني خصوصاً بعد دخولها إلى منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969م، وإنتخاب ياسر عرفات رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسلمت كافة فصائل العمل الوطني وكذلك النظام الرسمي العربي لحركة "فتح" بحق السبق والريادة في المقاومة الفلسطينية وبالتالي حق القيادة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
لم تستطع الجبهة الشعبية الحفاظ على وحدتها، فبعد تشكيلها بعدة أشهر وبعد معركة الكرامة كان الخلاف قد نشب بين جماعة أحمد جبريل المدعومة من النظام السوري وقيادة الجبهة التي كانت تسعى للحفاظ على إستقلاليتها مما أدى إلى إنشقاق أحمد جبريل ومجموعته تحت مسمى (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة) فكان هذا أول إضعاف يعتري الجبهة أمام قوة حركة "فتح" المتزايدة، وبعد شهور قليلة وفي آب 1968م عقدت الجبهة ما عرف بمؤتمر آب والذي سيؤسس إلى إنشطار عمودي للجبهة الشعبية، وقد عقد هذا المؤتمر في غياب القائد الكبير والمؤسس الملهم الدكتور جورج حبش حيث كان معتقلا في سوريا في سياقات الضغوط التي كان يمارسها النظام السوري لإحتواء الجبهة، حيث تبلور في هذا المؤتمر تياران الأول تيار نايف حواتمة الذي طرح تبني النظرية الماركسية اللينينية كدليل ثوري للجبهة والذي لاقى مقاومة شديدة من أغلبية المؤتمر التي رفضت هذا الطرح وبشدة وكان على رأس المعارضة الجزء الأهم من كادرات القوميين العرب وفي مقدمتهم الدكتور وديع حداد، ولم يحسم الخلاف بإنتظار موقف الحكيم جورج حبش، وأجل البت في ذلك إلى حين خروجه من السجن السوري، ولكن بدأ التمحور يظهر للشارع الفلسطيني والعربي، بين تيار يساري يدعو إلى تبني الماركسية اللينينية وبين تيار يميني يتشبث بإرث حركة القوميين العرب، وقد تبادل التياران الإتهامات والبيانات المتضادة والمتناحرة ووصلت إلى حد الإشتباكات المسلحة في عمان، وهنا وفي نهاية عام 1968م كان قد أطلق سراح جورج حبش أو هرب من السجن كما أشيع بواسطة رفيقه وديع حداد ووصل إلى الأردن الساحة الرئيسية لنشاط الجبهة وأطلع على ما آلت إليه الأوضاع الداخلية في الجبهة وقد إنحاز إلى صالح فريق وديع حداد ورفض تبني الماركسية اللينينية، وتأجج الصراع الداخلي بصورة أعنف وقد جرت إعتقالات لبعض رموز عناصر التيار اليساري من قبل التيار اليميني، وهنا تدخلت حركة "فتح" بين التيارين ساعية إلى الإصلاح والتوافق بين التيارين وقد رعى الشهيد أبو إياد تلك الجهود مؤكداً لهما أن الدم الفلسطيني خط أحمر وغير مسموح به في إطار التنافس والصراع الداخلي فإما التوحد أو الإفتراق، فكان الإفتراق بين التيارين، التيار اليميني بقيادة جورج حبش (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وإعلان التيار اليساري بقيادة نايف حواتمة فصيلاً جديداً بتاريخ 21 شباط 1969م يتبنى النظرية الماركسية اللينينية تحت مسمى (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، كان لهذا الإنقسام أثره البالغ على مكانة وجماهيرية الجبهة الشعبية في وسط اليسار العربي بشكل خاص والجماهير الفلسطينية والعربية بشكل عام، وقد كنا نظن أن التيار اليساري كان يمثل الأقلية في ساحة الأردن لكننا فوجئنا بأن تنظيم الخارج للجبهة قد إنحاز في معظمه لصالح التيار اليساري (للجبهة الديمقراطية)، فجريدة الحرية ورئيس تحريرها وطاقمها والتي كانت لسان حركة القوميين العرب ولسان الجبهة الشعبية والتي كانت تصدر في بيروت قد إنحازت لصالح الجبهة الديمقراطية، مما دعى الجبهة إلى تكليف الأديب والكاتب المبدع والمناضل القومي غسان كنفاني إلى تأسيس مجلة الهدف بديلاً عن مجلة الحرية لتكون ناطقة بإسم الجبهة الشعبية.
لكن ذلك أثر على مكانة الجبهة الشعبية ولم تمضي أسابيع قليلة على هذا الإنشطار حتى بدأ الرفيق جورج حبش جولاته الثقافية والفكرية والسياسية على مختلف الساحات التنظيمية شارحاً أوضاع الساحة الفلسطينية وما مرّت به وتمرّ به القضية الفلسطينية من منعطفات، وسيطرت الإتجاهات اليمينية في حركة المقاومة وتحالفاتها مع النظام الرسمي العربي وفي مقدمته الدول الرجعية، منوهاً إلى تمييز الجبهة الشعبية في رفضها وتعارضها مع النظام الرسمي العربي من جهة ومع القوى الرجعية المهيمنة عليه ودعمها للتيارات اليمينية في حركة المقاومة الفلسطينية الممثلة في حركة "فتح" المهيمنة على م.ت.ف، ليصل إلى خلاصة تتمثل في طرح التساؤل الفج ما الذي يميز الجبهة الشعبية عن حركة "فتح" المهيمنة، ويقول حرفياً (لقد بادرت حركة "فتح" بالكفاح المسلح وإنساقت خلفها الجماهير العربية والفلسطينية) (فما الذي يميزنا عنها)، (أن نؤمن بالكفاح المسلح هذا غير كافٍ للتميز، رغم إقرارنا أن القوة السياسية لأي تنظيم سياسي تنبع من فوهة البندقية)، (نحن في حركة القوميين العرب كنا نسعى إلى تحقيق الوحدة العربية من أجل تحرير فلسطين وبالتالي نسعى إلى الوصول للحكم في الأقطار العربية من أجل الوحدة التي تقود إلى التحرير، إذن لابد من إيجاد ما يميزنا عن حركة "فتح" في الساحة الفلسطينية) ومن هنا يقول أقترح تبني النظرية الماركسية اللينينية كنظرية ثورية وكدليل نضالي للجبهة الشعبية وبذلك نحقق التميز عن حركة "فتح" التي تميزت بمبادرة الكفاح المسلح، وحينها (كنت عضواً في الجبهة الشعبية حركياً أي قومياً عربياً وجبهوياً)، وكنت حاضراً في هذا اللقاء الذي ضم قرابة أربعين كادراً من كادرات الجبهة الشعبية، عند هذه الخلاصة وبعد حديث مسترسل إستغرق قرابة أربعة ساعات متواصلة من الحكيم، تنظر إلى وجوه الرفاق كأن الطير قد حط على رؤوسهم، لا أعرف من أين جاءتني الشجاعة لأكون المحاور والمعترض الوحيد على تلك الخلاصة الصادمة، أعتقد صغر سني في ذلك الوقت هو الذي منحني أن أوجه سؤال مباشراً للحكيم لماذا يا رفيق تركنا حواتمة وتياره ولم نتبعه ألم يطرح ذلك منذ مؤتمر آب 1968م وكان ذلك هو سبب الإنشقاق الرئيسي والذي أدى إلى إضعاف الجبهة ؟!، وأردفت القول إذا كنا نبحث عما يميزنا عن حركة "فتح" فالجواب يجب أن يكون في الآداء والعطاء يا رفيق وفي المبادرة التي تستجيب إلى نبض الجماهير وليس في البحث عن أيديولوجيا لتعطينا التميز عن "فتح" وعن الآخرين وأكملت يا رفيق نحن لدينا ما يميزنا عن حركة "فتح" وهو البعد القومي الذي نؤمن به كوريثين لحركة القوميين العرب وإمتدادها الجماهيري الذي علينا توظيفه في خدمة القضية الفلسطينية ودعم كفاح شعبنا المسلح من أجل إسترداد حقه المغتصب، هنا ساد الصمت على الحاضرين، وأخذت النظرات تلاحقني، دون أن أسمع إجابة من الحكيم الذي على ما بدا لي أنه كان مقتنعاً تماماً بكل حرف نطقته، وكأنِي لسان حاله، فلم يعقب وعند هذا الصمت، واصلت الكلام متحدياً إذا تبنت الجبهة الشعبية الماركسية اللينينية سوف أنهي عضويتي فيها وأنسحب منها، وسألتحق بالحزب الشيوعي لتعلم الماركسية اللينينية لأننا في الجبهة غير متوفر لنا هذه الثقافة ...! وبالفعل ذلك ما حصل معي، وكان آخر عهدي بتنظيم الجبهة وبداية البحث عن الذات الوطنية مع قوات الأنصار والرفيق (فخري مرقة أبو أسعد رحمه الله) حيث ذهبت إليه طالباً الإنتماء للحزب الشيوعي فقال (لي نحن قوات الأنصار) قلت له أريد أن تعلمني الماركسية، قال سنعلمك الماركسية ولكني إكتشفت أنه ليس الطريق إلى الوطنية الفلسطينية لأنهي علاقتي بقوات الأنصار واللقاء مع شباب "فتح" حيث وجدت ذاتي الوطنية وتوافقي مع المبادئ والأهداف التي أنشئت على أساسها حركة "فتح"، وفهمت ساعتها سبب عداء التيارات الفكرية لحركة "فتح" منذ إنطلاقتها إلى الآن ... كما فهمت عقدة التميز التي لاحقت جميع الفصائل المختلفة، والتي بقيت تفعل فعلها لدى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لدرجة باتت توصف بمبدأ المخالفة وإن غلفت بذرائع مختلفة المهم أن تكون متميزة في الموقف عن حركة "فتح"، فقد لعبت دور المعارضة الإيجابية في كثير من المواقف التي نحترمها للجبهة، إلى بعض المواقف المعارضة السلبية حين شكلت ما عرف (بجبهة الرفض) في سبعينات القرن الماضي على أثر تبني البرنامج المرحلي عام 1974م، إلى المشاركة في جبهة الإنقاذ المدعومة من النظام السوري في ثمانينات القرن الماضي، ومقاطعة المجلس الوطني في عام 1984م الذي عقد في عمان نزولاً عند رغبة النظام السوري الذي كان راعياً لأكبر حالة إنشقاق في حركة "فتح"، واليوم مع موقفها المعارض لإنعقاد المجلس الوطني في 30 نيسان الجاري للرد على التحديات الجسام التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته وإحتدام المواجهة مع العدو الصهيوني والراعي الأمريكي له في أخطر مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني، تحت ذريعة العمل من أجل مجلس وطني توحيدي يضم (حركة حماس) و (حركة الجهاد)، والجبهة الشعبية تعرف يقيناً أن هذين الفصيلين لن يكونا جزءا من م.ت.ف حتى يتم تفصيلها على مقاسهما وحدهما، وإلغاء مكوناتها الأساسية وفي مقدمتها "فتح" العلمانية واليسار الفلسطيني الذي تعتبر الجبهة أحد أركانه، رغم تأكيد الجبهة أن معارضتها لإنعقاد المجلس الوطني لا تعني تخليها عن م.ت.ف أو المس بمكانتها التمثيلية، تلك الذرائعية ليست مبررة ولا مكان الإنعقاد أيضاً مبرراً للمقاطعة، ألم يدخل الشهيد أبو علي مصطفى إلى مناطق السلطة وواصل نضاله وكفاحه وسقط شهيداً فكلنا أبو علي مصطفى وكلنا ياسر عرفات وكلنا الشيخ أحمد ياسين، نحن جزء لا يتجزأ من الحالة النضالية لشعبنا، ونتحدى الإحتلال في مواصلة صمودنا وصمود شعبنا، وعقد مؤتمراتنا في فلسطين لا يعني خضوعاً للإحتلال بل تحدياً للإحتلال ودليلاً واضحاً على إنكسار شوكته، لأننا فرضنا وجودنا عليه وعلى العالم، ألم تعود كادرات الجبهة الشعبية إلى الوطن بموجب إتفاقات أوسلو ألم يلجوا وظائف السلطة الفلسطينية ويتمتعوا بمميزاتها، لماذا هذا النكران وهذه المزاودة اللفظية ؟!، إن حجم التحديات الخطيرة تفرض على الكل الفلسطيني وفي مقدمته الجبهة الشعبية وحماس والجهاد المشاركة في إجتماع دورة المجلس الوطني المنوي عقدها في رام الله وتذليل جميع العقبات اللوجستيكية التي يمكن التغلب عليها ويجب أن لا تقف عائقاً أمام إنعقاد المجلس والذي يعتبر أهم دورة سيعقدها المجلس الوطني بعد الدورة التأسيسية الأولى، أرجو أن يجد سردي التاريخي هذا القبول والرضى لدى الأخوة والرفاق في الجبهة الشعبية والإستفادة من التجربة، وأنا أعرف الكثير الكثير عما يعتمل في نفوس كادرات الجبهة الشعبية المخلصة الذين تخلوا عن الجبهة بسبب عدم نضج مواقفها وعدم تطورها وفقدانها القدرة على إبداع السياسات الناجعة للكفاح الوطني والتجاوب مع الواقع الفلسطيني ونبض الجماهير الفلسطينية، حيث ضاعت الجبهة بين المعارضة السلبية وبين سراديب الأيديولوجيا التي لم تتعلمها لغاية الآن وأنا اجزم أن الحكيم وأبو علي مصطفى ووديع حداد رحمهم الله لم يكونوا ولم يتمثلوا الفكر الماركسي مطلقاً فقد بقوا على نقاء قوميتهم ووطنيتهم الخالصة والصافية، حتى تتحقق أهدافنا الوطنية.
بقلم / د. عبد الرحيم جاموس