بدأت أعمال دورة المجلس الوطني الفلسطيني بعد إصرار الرئيس محمود عباس على عقده، غير آبه بالمعارضة الواسعة التي حاولت تأجيله لفترة قصيرة، على أن يتم فيها تذليل العقبات التي تعترض عقد مجلس وطني توحيدي يعيد للقضية ألقها، ولكنها فشلت. كما فشلت محاولة اللحظة الأخيرة لعقد اجتماع غير عادي للمجلس، ولو نجحت لخرج الجميع منتصرًا.
معارضة عقد المجلس ما بين 2015 و2018
لماذا نجحت المعارضة في العام 2015 في تأجيل المجلس ولم تنجح هذه المرة مع أنها أقوى من سابقتها؟
لا بد من التفريق بين الظروف السياسية التي كانت في تلك الفترة والقائمة الآن، وخاصة أن صفقة ترامب لم تكن مطروحة بكل المخاطر المحدقة التي تطرحها، كما أن حركة فتح كانت في حراك داخلي على مستوى عدد لا يستهان به من اللجنة المركزية طالبوا بحسم أسماء ممثلي فتح في اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي ورئاسة المجلس الوطني في اللجنة المركزية قبل عقد المجلس، وكان عدد المرشحين كبيرًا، فضلًا عن نصائح أردنية ومصرية ساهمت في تأجيله حينذاك، فالمخاطر الآن أعظم، وسيطرة الرئيس على "فتح" بعد مؤتمرها الأخير أقوى.
كنت في تلك الفترة جزءًا من مجموعة عملت على تأجيل المجلس الوطني، وقامت بسلسلة من النشاطات، أبرزها عمل عريضة تطالب بتأجيل المجلس وقّع عليها أكثر من ألف شخصية بارزة من ضمنهم أكاديميون، وكفاءات مشهود لها، وأعضاء في المجلسين الوطني والتشريعي، ولعب قرار الجبهة الشعبية إضافة لكل ما سبق دورًا في تأجيل المجلس حينذاك.
لماذا لم تستغل المعارضة الواسعة الفترة من أيلول 2015 إلى نيسان 2018 لتوفير متطلبات عقد مجلس توحيدي؟
لو واصلت المعارضة، التي تضم الفصائل الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني وشخصيات اعتبارية وأوساط مهمة في "فتح" و"حماس" و"الجهاد" وغيرهم، العملَ لما وصلنا إلى عقد المجلس بالطريقة التي عُقِد فيها، ولكنها معارضة غير متعودة على العمل المشترك، ولم تدرك أهمية بلورة تيار يضم كل الغيورين على القضية ليشكلوا تيارًا ثالثًا من دونه من الصعب إنهاء الانقسام.
بكل أسف، الفصائل والنخب بشكل عام متفرقة وشائخة وتحت تأثير المصالح الفردية والفئوية والفصائلية، وهي لا تقبض نفسها، ومن لا يقبض نفسه لا أحد يقبضه.
أقول هذا الكلام لتحفيزها على العمل أثناء دورة المجلس وما بعدها، حتى لا تكون نهاية المطاف، وحتى يتواصل العمل من أجل تشكيل وعقد مجلس جديد توحيدي، ووقف الإجراءات العقابية على قطاع غزة، وبلورة رؤية شاملة وإستراتيجية وتوفير إرادة لتطبيقها.
الحفاظ على المؤسسات
أعرف أن الوارد في هذا المقال قد يفاجئ أو لا يعجب بعض القرّاء والمعجبين، لأنهم يتوقعون أن يكون موقفي هو الدعوة لمقاطعة المجلس. أنا متردد جدًا وأميل إلى المشاركة أكثر رغم كل دواعي المقاطعة، وذلك اتعاظًا من التجربة السابقة، ومما يجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وإلى ضرورة عدم تضخيم وتغليب التناقضات الداخلية مهما كبرت على التناقض الرئيسي مع الاحتلال.
كما أنني مقتنع بضرورة عمل كل شيء للحفاظ على مؤسساتنا، ومنع التدهور والتآكل المتسارع الحاصل فيها، أو الحد منه، والسعي في نفس الوقت لتجديدها وتغييرها وإصلاحها من الداخل ومن الخارج، من خلال توليد ضغط سياسي وجماهيري متراكم حتى يفرض الشعب التغيير المأمول. وإذا لم تتغير فلتُغَيّر. فالتغيير سنة الحياة، ومن دونه لا يمكن التقدم إلى الأمام. والمطالبة بالتغيير ممن يتحملون المسؤولية رغم أخطائهم وخطاياهم وتنازلاتهم لا تعني الأوهام حولهم، بل تعني وضعهم أمام مسؤولياتهم، وهذا من شأنه المساعدة على حدوث التغيير من خلال إظهار عدم جدارتهم.
أكتب هذا المقال في الوقت الذي لم يتم قبولي عضوًا في المجلس الوطني، مع أنني أستحق بكل المقاييس، وذلك رغم طرح اسمي من أشخاص وجهات عدة مشكورين، ما يدل على أن هناك من يخشى حضور من هم مثلي، كما يدل على غياب معايير موضوعية لمنح العضوية للمستقلين إلى حين الاحتكام للانتخابات، معايير تتضمن أن يكونوا مستقلين فعلًا، ورؤساء مؤسسات مهمة، وشخصيات اعتبارية واعية وكفؤة ومخلصة ووطنية ووحدوية وفاعلة بالعمل العام ومحل ثقة شعبية.
موقف الجبهتين ... وتشتت الجهود
كان بمقدور الفصائل الخمس، أو على الأقل الجبهتين الشعبية والديمقراطية، الاتفاق على نقاط محددة يتم الإصرار على توفيرها، من خلال تنظيم حملات سياسية وجماهيرية وإعلامية مستمرة ومتعاظمة (مؤتمرات، اعتصامات، مظاهرات) كان يجب أن تبدأ من لحظة اتخاذ قرار عقد المجلس في اللجنة التنفيذية، بهدف تأجيل عقد المجلس لفترة قصيرة ونهائية. وكان يمكن أن تتبنى بعد رفض التأجيل عقد اجتماع غير عادي بدلًا من الدورة العادية، علمًا بأن الفرق بينهما أن الدورة العادية جدول أعمالها ملزم وكامل وتمارس الانقسام، أما الاجتماع غير العادي فيمكن أن يكتفي ببند واحد، وهو انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، والشروع فورًا في التحضير لعقد مجلس وطني توحيدي .
لو كان هناك استعداد للمشاركة في كل الأحوال شرط توفر تقنية "الفيديوكونفرنس" في غزة وبيروت مع رام الله ليتمكن الجميع من المشاركة، بمن فيهم نواب "حماس" في المجلس التشريعي، لكان هناك تأثير لا بأس به على أعمال المجلس، لأن هناك حوالي 200 عضو من المقاطعين ومن المشاركين متفقون على مطالب مشتركة، مثل رفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة، والدعوة إلى مجلس وطني توحيدي.
جهود مركز مسارات حول عقد المجلس الوطني
سأضع الرأي العام بصورة ما قام به مركز مسارات، وقمت به شخصيًا، حيث قام المركز بجهود كبيرة من خلال عقد ندوات ومؤتمرات واجتماعات، والمساعدة على توقيع عرائض عدة.
وقمت بنشاطات مكثفة لتأجيل عقد المجلس وإدانة عقده، وحاولت مع آخرين توحيد موقف الفصائل الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني، ووقعت على مذكرة موقعة من العشرات سلمت إلى الأمناء العامين للفصائل الديمقراطية، وحاولت بقوة الدعوة إلى عقد الاجتماع غير العادي بعد أن اتضح أن الأمور تسير نحو عقد المجلس الانفرادي كما كان مقررًا، وكانت هناك فرصة لقبول "فتح" بهذا الاقتراح.
واقترحت عقد المجلس الوطني عبر الفيديو كونفرنس منذ العام 2015، الأمر الذي من شأنه التقليل من التأثير السلبي لعقده في رام الله، إذ سيتمكن جميع الأعضاء من المشاركة. كما كتبت عددًا من المقالات وأوراق تقدير موقف، وشاركت في العشرات من المقابلات والاجتماعات.
كما نظم مركز مسارات في آب 2016 مؤتمرًا شارك فيه أكثر من 700 شخصية، تبنى وثيقة دعم الوحدة الوطنية، التي تضمنت مقترحات لتذليل العقبات والعراقيل التي تحول دون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة ، وانبثق عن هذا المؤتمر لجنة دعم الوحدة الوطنية التي كان لها إسهامات في هذا الجانب.
في هذا السياق، كان من الممكن ويجب العمل أكثر وبجدية أكبر. فما سبق تقييم لتجربة لها ما لها وعليها ما عليها، على أمل الاستفادة منها في المرات القادمة.
المقاطعة ليست الخيار الوحيد
ربما ليست المقاطعة الخيار الوحيد والأسلم رغم وجاهة أسباب المقاطعين للأسباب الآتية:
اتخاذ الرئيس و"فتح" موقفًا شجاعًا رافضًا لصفقة ترامب، وهذا أمر أساسي يجب أن يؤخذ بالحساب، رغم كل ما يقال عنه وعن غياب خطة متكاملة، وإمكانية التراجع عنه، والاكتفاء بتعديلات على الصفقة/الصفعة، وخطورة فرض الإجراءات العقابية، وعدم إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة. فكل ما سبق صحيح، إلا أنه يمكن البناء على الموقف الرافض ويستحق التشجيع وعمل أقصى ما يمكن لاستنفاده.
منظمة التحرير هي الإنجاز الأكبر والتاريخي الذي حققته الحركة الوطنية، يجب الحفاظ عليها مهما كانت حالتها سيئة، إلى أن نتمكن من إعادة بناء مؤسساتها على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة حقيقية.
أسلوب المقاطعة خاطئ في ظل حالة الهبوط والجزر التي تمر بها القضية الفلسطينية، وعدم وجود منظمات وأطر فاعلة ومتوازنة يمكن التحرك في إطارها بدلًا من المنظمة.
البديل عن الانخراط في المنظمة والمؤسسات بشكل عام - الذي يمكن أن يُحدث تغييرًا وإن لم يكن بالمستوى المطلوب - هو العزلة والانتظار، وخسارة مواقع ومكاسب، أو الانخراط في أطر ونشاطات موازية للمنظمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
إن قرار الشعبية الذي تضمن المقاطعة تحدث عن أهمية المنظمة ودورها، إلى حد كان من المستغرب أنها كانت مع المقاطعة، فعلى الأقل كان بمقدورها الموافقة، ولو على عقد اجتماع غير عادي، فكما كان يقول لينين العمل في البرلمان البرجوازي صحيح رغم ديمقراطيته الزائفة إذا لم يكن هناك نهوض ثوري، فكيف ونحن في إطار حركة تحرر وطني، فلو وافقت "الشعبية" على تحويل الدورة إلى اجتماع غير عادي، ووافقت "فتح"، وكان هناك ما يوحي بأنها قد توافق، لحُسب للجبهة هذا الإنجاز الملموس الذي يحقق أخف الضررين.
كتبت سابقًا أن الاهم من المشاركة والمقاطعة أن تكون فعالًا إذا شاركت، فلا تكون "رجل كرسي" وغطاء لما يحدث، والاكتفاء بتسجيل موقف للتاريخ من دون خوض معارك دائمة حول كل شيء، ووضع الرأي العام بالصورة، وفعالًا أيضًا إذا قاطعت، بحيث يكون لديك أطر فعّالة للعمل والتأثير، ولا تكون المقاطعة في هذه الحالة طريقًا للعزلة وعدم القيام بما يجب القيام به بأفضل شكل.
بقلم/ هاني المصري