في مديح الكتّاب والقراء الرائعين

بقلم: إبراهيم نصر الله

أعترف أنني فرح بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، لكنني لم أحسّ أنني نلتها إلا بعد أن انتهى الحفل وذهبت إلى غرفتي، ورأيت ذلك الفرح الذي ملأ صفحات التواصل الاجتماعي بهذا الفوز. أعترف أنني عندها أحسست أنني نلت الجائزة حقاً، وأن تأثُّري واعتزازي ولِد في تلك اللحظات العاطفية، كما كنت نلتها بكتابات روائيين وكتّاب رائعين عن الرواية قبل إعلان النتيجة.
حين صعدت للمنصة، كان الأمر شبه مألوف، فإدارة الجائزة التي طلبت من مرشحي الجائزة أن يُحضّر كل منهم كلمة لإلقائها حال فوزها/ فوزه، كانت قد هيأتنا نفسياً للفوز، وكنا أفرغنا أحاسيسنا بكتابتها، قبل أن نصل، ونحن نفتش عن الكلمات التي يمكن أن تكون ملائمة لمناسبة كهذه، ولأن المدة التي حددتها لجنة الجائزة للكلمة هي ثلاث دقائق فقط، فقد كان علينا أن نلتزم بذلك، ولذا لم يكن هنالك أفضل من أن نكتب كلمات لا تتجاوز مدة قراءتها الدقائق الثلاث، وحين نصعد نقوم بقراءتها. وهذا ما التزمت به. لكنني حين عدت إلى غرفتي قبل منتصف الليل، أحسست أن للجائزة وقعاً آخر! فما الذي يمكن أن تعنيه الجائزة إذا لم يكن لديك محبّون بهذا الصفاء. كانت محبة القراء هي الجائزة الكبرى حقاً، القراء الذين كتبت عنهم في هذا المكان، من "القدس العربي"، قبل سنة، مقالاً عنوانه (في مديح القراء الرائعين)، وقلت فيه: ليس القارئ وحده الذي يحزن إذا ما رحل كاتب يحبه، بل الكاتب أيضاً، يحزن كثيراً إذا فقد قارئاً أو قارئة كان يحبهما ويعتبرهما بوصلة القراءة الأجرأ والأعمق والأصفى، وهذا أمر عشته ككاتب ويحزنني كثيراً.
وثانية أحسست بالجائزة حين لمست المحبة الصافية لبعض كاتبات وكتّاب اللائحة القصيرة بعد إعلان النتيجة، وقد سبق وأن كانت لي تجارب مع فائزين وغير فائزين، لا تُروى في مناسبة كهذه. من الرائع أن تذهب إلى غرفتك وتكتشف أن هناك باقة ورد كبيرة، وحين تفتش عن إسم من أرسلها، تجد إسماً من أسماء اللائحة القصيرة. هنا تحس أيضاً أنك أخذت الجائزة، فمعيار التكريم قائم في هذه الرفعة الأخلاقية الصادقة، وفزت بالجائزة، حين مال علي أحد المرشحين وهمس لي (سواء فزت بها أنت، أو فزت بها أنا، فالفائز أنا!) تلك أيضا نبالة غير مسبوقة. وفزت بالجائزة، حين قرأت مقالة صديقي العزيز الروائي أمير تاج السر التي نشرها في "القدس العربي" قبل أيام. لقد قدّم هذا التاج أنموذجاً نادراً في حياتنا الثقافية العربية، وهو يكتب مقالاً عن أحقية الفائز بفوزه، وهو يتتبع مسيرته بكل هذا العمق وبكل هذا الحب.
صحيح أننا نعرف الكبير من الصغير، في حال فوزهم، سلباً وإيجاباً، ولكننا بالتأكيد نعرف الكبار أكثر حين لا يصلون إلى الفوز. هذا التاج كان فوق كل شيء، ولذا فزت به وكان جائزة كبرى في حدِّ ذاتها. كان جائزة ومثالاً لزملائه الذين كانوا في القائمتين الطويلة والقصيرة، ولأولئك الذين لم يصلوا لهما.
أمير تاج السر كرّمنا جميعاً، وهو يمنحنا كل هذا الحب العميق والاحترام، والتقدير للآخرين الذين يعايشون الكتابة بكل أرواحهم، وهو يعترف بجهودهم، لا ينفيها، ويعترف بجمالهم، ولا يحتكر الجمال، ويحترمهم، لأن الكبار وحدهم يعرفون أنهم ليسوا هم من يحتكرون الاحترام، ويحترم لجنة التحكيم، ويقدِّرها، بدل أن يرميها، كما يمكن أن يرميها كاتب آخر، بصفات لا تليق لا بالكاتب ولا بأخلاقيات الكتابة ولا بشرف الكتابة، حين يتصرف كأنه الكاتب الوحيد بعجرفة لم نعرفها إلا في جنرالات عالمنا الثالث، أو الجنود، غلاظ القلب والروح والعقل، في ساحات الحروب.
نعرف أن الجائزة هي تكريم لمن يأخذها، لكنها أيضاً ليست تذكرة عبور إلى الأبدية، فحتى كثير من أولئك الذين ينالون جائزة نوبل لا نتذكرهم بعد انقضاء عام من حصولهم عليها، ويشهد تاريخ جائزة البوكر الإنكليزية، وجائزتها العربية، وغونكور وبوليتز، وسواهما، أن الجائزة لم تكن تلك التذكرة السحرية، وأن كثيراً جداً من الكتّاب الذي فازوا بأرفع الجوائز، لم تعمّر كتبهم طويلاً فوق رفوف المكتبات. وقد أتيح لي أن أرى بعض كتب الفائزين بجوائز كبرى معروضة بأقل الأسعار بعد عام من فوزهم بها، فقط، رغبة في التخلص منها. ونعرف، أن هناك بعض من كانوا في لوائح الجوائز عاشت كتبهم ولم تزل.
ولذا لا يفرح الإنسان بالجائزة حين يأخذها، يفرح بها حقاً بعد أن يرى المصير الذي يسير إليه كتابه، والحب الذي يحيط به.
لقد مرت سنوات كثيرة، كنت أشفق فيها على أنفسنا ككتّاب، وعلى الفائزين بالجوائز بخاصة، فأنت إن لم تنلها حزنت، وهذا أمر إنساني، أما إن نلتها فستُفتح أبوابُ جهنم عليك، لأن كل شخص يحوّل نفسه إلى لجنة تحكيم، يمنح الجائزة على هواه، ورغم أن من حق كل قارئ حقيقي أن يدلي برأيه، ويمنح من يريد ويحجب عمّن يريد، إلا أن التجريح والهياج وانعدام شروط الحوار الإنساني تحوِّل الأمر إلى كارثة، وتحوِّل فرحة الفائز إلى مصيبة وهي تجرّه للدفاع عن نفسه، وعن عمله، وبالمناسبة، فإن أسوأ الظواهر التي يعيشها الكاتب، والإنسان، في عالمنا العربي، أنه مضطر لتبرير فشله إن فشل، ونجاحه إن نجح!
أحد الأصدقاء من أصحاب المكتبات الذين يتحلوّن بنباهة كبيرة قال لي ذات مرة: الكتاب الناجح ليس ذلك الذي أبيع منه ألف نسخة في الشهر، وفي الشهر الخامس أبيع منه عشر نسخ، وفي السادس لا يتذكره أحد. أفضل الكتب وأنجحها هي تلك التي صدرت منذ أربعين أو خمسين أو ستين سنة، وأكثر، ولم تزل تبيع، في مكتبتي، شهرياً عشرين أو ثلاثين نسخة بالإيقاع نفسه.
يفوز الكتاب حين يُختبر بالزمن، فليس ثمة ناقد أكبر من الزمن، حينما تتغير الأجيال، والذائقة، ويبقى ذلك الكتاب ضرورياً كالماء.
تعميم الجمال هو الكفيل بعدم وقوع حرب كتب ثانية.. وثالثة..

إبراهيم نصر الله