تخيلت للحظة أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يقف أمام هذا الجمع الكبير من ذوي اللون الواحد أو شبه الواحد، في الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني. الكل ينتظر الخطاب التاريخي- الكل يستعد لمقاطعة الخطاب بالتصفيق عشرين مرة أو أكثر، لكن المفاجأة حدثت وبدل أن يلقي الخطاب المعد له سلفا بعناية أخرج من جيبه خطابا آخر كان مفاجأة لجميع الحضور وهذا نصه:
شعبنا الفلسطيني العظيم – شعوبنا العربية المناضلة ـ أصدقاءنا في كل مكان-
خطاب اليوم سيكون بعنوان المصارحة والمصالحة، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، وتسمية الأشياء بأسمائها، فنحن نقف أمام مأزق وجودي، ونعيش نكبة جديدة في ذكرى النكبة السبعين، والخطاب السديد يجب ألا يكون تبريريا ولا هروبا من المسؤولية، ولا تماديا في التفاؤل أو إغراقا في التشاؤم والإحباط والاستسلام. واسمحوا لي بأن أضع بعض النقاط الأساسية وأترك لكم التفكـّر فيها والخروج من هذا المأزق الذي أسميته مأزقا وجوديا لأنه كذلك.
- أود أولا وقبل كل شيء أن اعتذر للشعب الفلسطيني بكامله في الوطن والشتات، للأسرى والشهداء، للذين هدمت بيوتهم أو صودرت أراضيهم أو أحرقت أشجارهم، عن اتفاقية أوسلو الكارثية، التي وقعتها بيدي وأتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الكارثة التي جرّت الويلات لشعبنا وأوصلته للمأزق الذي نعيشه الآن. نعم، اجتهدت وأخطأت. وخطأ أوسلو ليس من النوع الذي يصحح بسهولة، فقد فرط في الحقوق الأساسية وقسّم الشعب وهمّش منظمة التحرير واستبدلها بالسلطة الواقعة تحت الاحتلال. وعندما اكتشفنا أننا وقعنا في الفخ حاولنا إصلاح ما لا يمكن إصلاحه فوجدنا أنفسنا نخسر السلطة ونخسر الأرض ونخسر الوحدة الوطنية ونخسر المنظمة ونخسر التأييد الدولي ولا نكسب شيئا.
أعترف أمامكم بأن اتفاقية أوسلو كانت كارثة حقيقية على الشعب الفلسطيني أدت إلى إعطاء شرعية لاحتلال فلسطين التاريخية مقابل وعود غامضة مرهون تنفيذها بتغييرات جذرية في الأيديولوجيا والمسلك والممارسة والوظيفة التي كانت تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية. لقد شكلت اتفاقية أوسلو الغطاء الأمثل لإسرائيل لتثبيت الاحتلال وقمع القوى الوطنية الفلسطينية وابتلاع الأرض وتهويد القدس وتحويل المناضلين، إما إلى موظفين ينتظرون رواتبهم آخر الشهر، أو حراسا على أمن إسرائيل ومستوطنيها. لقد حولتنا اتفاقية أوسلو إلى حراس للاحتلال، ولا بد أن نخرج الآن من هذا المأزق الوجودي. والأمر متروك لك أيها الشعب الفلسطيني العظيم لتصحح الأمور وتواصل درب الحرية الطويل.
- أعترف لكم أيضا بأن الثقة التي وضعناها في الوسيط الأمريكي لم تكن في محلها. لقد سلمناهم أوراقنا كلها معتقدين أنهم سيعملون على تنفيذ حل الدولتين، الذي أصبح شبه سياسة أمريكية مستقرة، أو هكذا ظننا، خاصة بعد اعتماد القرار 1515 (2003) بالإجماع، وخريطة الطريق للجنة الرباعية التي أنشأها الأمريكان. سمحنا لوكالة الاستخبارات المركزية أن تفتح لها مكاتب عندنا، وسلمنا مسؤولية تدريب قوات الأمن للجنرال دايتون، ومسؤولية البناء والإعمار والمشاريع لوكالة التنمية الأمريكية، وكنا نصغي لهم ونسمع أقوالهم في كل صغيرة وكبيرة، حتى إنهم فرضوا علينا وزراء ورؤساء وزارات. ثم عين لنا بوش توني بلير ممثلا للرباعية فإذا به ممثلا للكيان الصهيوني. كل الرؤساء الذين تعاملنا معهم من كلينتون إلى بوش إلى أوباما كانوا منحازين إلى إسرائيل. لكن الرئيس الجديد ترامب ليس منحازا فحسب، بل هو إسرائيلي أكثر من الإسرائيليين، والثلة التي وضعها حوله كلهم من غلاة الصهاينة من زوج ابنته كوشنير، إلى ممثله لعملية السلام غرينبلات، إلى سفيره فريدمان إلى سفيرته في الأمم المتحدة نيكي هيلي، الأكثر رعونة وغرورا. نعم أخطأنا التقدير في موضوع الوساطة الأمريكية. لقد حذرنا نصير عاروري في كتابه "الوسيط غير الشريف" (2003) ولم نسمع. وحذرنا رشيد الخالدي في كتابه"وسطاء الخديعة" (2013) ولم نسمع إلى أن أفقنا على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره بنقل السفارة إلى القدس. فوجئنا؟ نعم، لكن لسذاجة فينا فكل المؤشرات كانت تدل على أنه متجه في هذا الطريق وها نحن أمام الحقيقة الصارخة.
- أعترف لكم بأننا أيضا مسؤولون عن خسارة انتخابات 2006 لحركة حماس، حيث كان الشعب يحاول أن يعاقبنا على كل الأخطاء التي ارتكبناها، كما أن الانشقاق الذي حصل عام 2007 كان يمكن لنا أن نتجنبه لو اعترفنا بالهزيمة وسلّمنا المفاتيح لمن فاز بالانتخابات، أو لو قبلنا العرض بتشكيل حكومة وحدة وطنية. لقد ساهمنا في حصار حماس وحصار قطاع غزة، ولم نمد يد العون لهم لإنقاذهم من أنفسهم أولا وإبعادهم عن برنامج الجماعة وشدهم إلى الأجندة الوطنية بدل شيطنتهم. كان يجب أن نتقوى بهم – نحن نفاوض ونقاوم في الوقت نفسه- المفاوض يكون مسنودا بالمقاوم والمقاوم يكون مغطى ومحميا بالمفاوض. وما دام العدو يطلق قطعان مستوطنيه بسلاحهم، ليقتلوا ويحرقوا ويقطعوا الأشجار ويلوثوا المساجد فلماذا نمنع نحن من الدفاع عن أنفسنا أمام هجمات المستوطنين. أحق الدفاع عن النفس فـُصل حصريا لإسرائيل؟ كان علينا أن ننسق أكثر وأن نرسم برامج إنهاء الاحتلال وننفذها معا. وهذا ما لم نفعله. ودوركم، أيتها الأخوات أيها الإخوة، ليس فقط في استكمال المصالحة، بل بصياغة برنامج للوحدة الوطنية الحقيقة القائمة على أرضية النضال وتحديد الهدف ووسائل تحقيقه.
- أخطأنا كذلك في الرهان على الدعم الرسمي العربي. وظللنا نعتقد أن القضية الفلسطينية من المحرمات، وأن التطبيع مع إسرائيل لا يمكن أن يسبق الحل الشامل معها، كما اتفق المشاركون في قمة بيروت عام 2002. لكننا أيضا كنا مخطئين. فقد اكتشفنا متأخرين أن هناك علاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، أكثر مما كنا نتوقع. لقد ضخموا الخطر الإيراني أكثر مئات المرات من حقيقته ليبرروا الارتماء في أحضان إسرائيل، تحت حجة وجود عدو مشترك. وكان هذا المدخل للتطبيع السري والعلني، ونسج أقوى العلاقات في المجالات التجارية والأمنية والعسكرية والسياحية والرياضية، وبدأت هذه العلاقات الآن تظهر على السطح، بل إن بعض دول المنطقة وبكل رعونة طلبوا منا قبول ما يرمى علينا من فضلات، وإلا فلنخرس. لقد ابتعدنا عن حاضنتنا الجماهيرية في كل الدول العربية التي ما فتئت تنتصر لفلسطين وعلى استعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها. علينا أن نعود إلى جماهير هذه الأمة العظيمة التي لن تقبل بالضيم والذل والهوان، وأن نعيد نسج علاقاتنا مع كل من يقاوم وليس مع من يساوم.
- أيها الشعب العظيم – لا شيء يوحد شعبنا مثلما توحده المقاومة، ولا شيء يضمن اصطفاف جماهير الأمة العربية والإسلامية وشرفاء العالم، إلا النضال لانتزاع الحقوق. وأقصد بالمقاومة هنا أولا الانتماء إلى حالة ذهنية تقوم أساسا على مبدأ أن الحقوق تنتزع انتزاعا وأن صاحب الحق قوي ما دام متمسكا بحقوقه ورافضا للتخلي عنها، وأن التنازل عن جزء من الحقوق يفتح المجال للاستمرار في تقديم التنازلات كما حصل معنا. إنني أقصد بالمقاومة هي هذه المسيرات الضخمة السلمية المتواصلة والمتعاظمة، كما علمنا ابناء غزة الأبطال وأبطال الانتفاضة الأولى، وهذه المقاومة هي التي ستنجز في وقت قصير أكثر بكثير مما حاولنا نحن جماعة المفاوضات إنجازه.
هذه المظاهرات والمسيرات السلمية العارمة والمتواصلة والمنظمة نحو الحواجز، أو الجدار أو المستوطنات، هي الرد على ترامب وجماعته. أدعوكم لاستنباط طرق إبداعية جديدة في النضال السلمي – دعوا المزيد من المبادرات تتوالد مع احتدام المواجهات السلمية.
- وأخيرا أؤكد لكم أن الشعب الفلسطيني أمامه الآن أحد خيارين: إما محاولة إنقاذ القضية برمتها حتى لو كان ذلك على حساب فقدان عدة آلاف لامتيازتهم، أو الاستمرار في النهج الحالي والانزلاق الأكيد نحو الهاوية. والآن لقد اتخذت قرارا أريدكم أن تساعدوني على تنفيذه وهو أن أسلم الأمانة وأن أتنحى عن كامل صلاحياتي وأعود إلى صفوف الجماهير لأناضل معها ما أمكنني النضال – اللهم إني قد بلغت فاشهد.
وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي