لم تعُد ثمّة حَقائق فِي هَذا الوَاقِع، قد تُعطينا عِدّة تعَاريف عَصريّة لمفهُوم الكَهنة والكَهنُوت فَهي لا تقتصِر على المَناسِك الدّينيّة وأيًا كَانت تِلك المَناسِك، فكَانت فِي العُصور القدِيمة وأعتقِد أنّها مَا زالت هِي العَلاقة بين "المُلقِي" و"المُتلقّي"، و"المُلقِي" و"المُستجِيب"، أي عَلى الإنضبَاطية العَالية سَواءً كَانت خَطأ أو صَواب. ومِن هُنا لا يُوجد أي قِيمة لمفهُوم النّقض أو المُعارضة للسّلوك الكهنُوتي، هذه الحَالة يُمكن تعريفُها الآن فِي الواقِع الفِلسطيني بالكهنُوتية الفَصائلية "التّنظيمية"، ولابُد أن يُوجد مَرتبة سَامية لهذا التّعريف ولهَذا التّطبيق ولهذا السّلوك والمُمارسة ما يُسمّى "مُقرئ المَعبد" وهُو حَامل الطّقوس ومُفبركها ومُسيّرها ومُلقيها أيضًا، فهُو قادِر عَلى عَمل السّحر والسّحرة وهُو قادِر أيضًا على الوِقاية مِن السّحر، أقصِد هُنا الوِقاية مِن تَدابِير المُعارضَة.
الكهنوتيّة الفَصائلية والتّنظيمية قد أصبَحت عَادةً شَائِعة وتارِيخ ومورُوث عَبر مَسِيرة الشّعب الفِلسطيني ومُؤسّساته وأطِره من خِلال مفهُوم الكَهنوتيّة التي لا يُردّ لها كَلام ولا تستجِيب لمُعارضة أو فِقه سِياسي أو تنظِيمي أو غَيره. قد ينطبِق هَذا الحَال عَلى أعلى مُؤسّسة تمثل الشّعب الفِلسطيني وهِي مُنظمة التّحرير الفِلسطينية، فإن أخَذنا مَسيرتها التّاريخية مُنذ 1964م فهِي لم تعقِد برلمَانِها إلا 23 مرّة وبالحِساب لمَسيرة تاريخيّة مقدارها أربعة وخمسُون عامًا، وهذا يدلّ على أن هُناك شَيء ما غَير طَبيعي وغَير تنظِيمي ولا يتمتّع بأي رُؤية استراتيجيّة لعمَل مُؤسّساتي ونِضالي ووطَني، فِي حِين أن سُلوك الكَهنوت والكَهنوتية قَد مُورس فِي غَالبية إجتمِاعَاتِها، وخَاصّة بَعد أن انتقلَت مُنظمة التّحرِير في 1969م نُفوذًا ورِئاسَة إلى الفصَائل الفِلسطينيّة، حَيث فَرض كهنتُها سُلوك الكَهنوت عَلى أُطرها وقَرارِها وآليّات عَملِها، أيضًا بين "المُتلقّي" و"المُجيب"، والسّاحر الذي يُتقن فنّ إستخدَام كُل أدوَات السّحر لكَي يتبيّن للعُضو أو المُستمِع بأنّه قمّة الحَقيقة وقمّة الإطّلاع وهُو الوَصِي والوَصي الوَحيد عَلى مُستقبل الشّعب الفِلسطيني وقضيّته.
الكهنُوتية قَد مُورسَت فِي حَركَة فَتح، فالكَهنة لهُم القَرار بحُجّة أنّها قِيادة تَاريخيّة أي يعنِي لا وُجود للمُعارضَة ولا وُجود لرَأي آخَر، وإن اختلَف المَنطق واختلفَت الرّؤى يَعني ذلِك أنّ هُناك ظُهور لعمليّة الكهنُوتية بشكلِها الواسِع والتي قد تَستخدِم أدوَات غَير السّحر كظَاهرة لغويّة أو ظَاهرة مُفبركَة للنّظام أو المِيثاق أو النّظام الأسَاسي، قد تُستخدم أدوَات الإقصَاء وأكثَر مِن ذَلك أيضًا وتلفِيق التّهم، ولأنّهم يملكُون كُل أدوَات السّحر في فبرَكة التّهم للوُصُول إلى سيكُولوجية ذاتيّة كهنُوتية بأنّه لا يجِب أن يكُون هُناك مُعارضة ورأيٌ آخر، فإذا ما نظَرنا لحَركة فَتح فالكهنُوت أهمَل نِظامَها الأسَاسي ووضَع في الأدرَاج، ورُبّما أكوامًا من الرّمال قد ترَاكم فَوقه، وبقِي يحمِل الكهنُوت إسم هَذه الحَركة ليُفبرك مَا يُريد وفِي النّهاية يبقَى الكهنُوت والكَهنة هُم أوليَاء الأمر وأوليَاء المَال وأوليَاء القَرار.
حَدَث أيضًا فِي مُنظمة التّحرِير الفِلسطينيّة التي وُجدت لتُمثّل الشّعب الفِلسطِيني في الدّاخل والخَارج بَعد مِشوار مِن النّضال، وبَعد جُهود صَعبة وضَخمة أسّسها الزّعيم الخَالد أحمَد الشّقيري، ففِي عَهد أحمد الشّقيري لم يكُن هُناك مُلقي ولا مُتلقّي ولم يكُن هُناك كَاهن يُصدر الأوَامر والجُموع تصفّق وتستجِيب وَلا أحد يرفَع صَوته. ذكّرني محمُود عبّاس فِي الجَلسة الخِتامية للمَجلس الوَطني في دَورته ال23 الأخِيرة عِندما قَال:"الّلي مِش عَاجبُه الكَلام يطلَع بَرّا القَاعَة"، يا تَرى لمَن وجّه كَلامَه هذا؟ بالتّأكيد لأعضَاء المَجلِس الوَطني الذين أتُوا لتمثِيل الشّعب الفِلسطيني، إذًا مَادَام هَذا المَنطِق هُو سيّد العَمل وسيّد التّوجُه، إذًا هَل حَقيقَة هُناك مَن يُمثل الشّعب الفِلسطِيني؟ إذا كَان مطلُوب مِن المَوجُودين أن يكُونوا متلقّين فَقط، مِن المُخيّب للآمَال ورَغم مُعارضَتنَا الشّدِيدة لإجتمَاع هَذا المَجلس كَيفيّة وزَمانًا ومَكانًا إلا أنّه كَان هُناك حَد أدنَى يُراوِد الشّعب الفِلسطِيني وأنا واحِد مُنهم، بأن يأخُذ شَيئًا من الدّيمقرَاطية، ولكِن التّجربة سَابقة فِي المُؤتمَر السّابع لحَركة فتِح فَقد أتَى الكَاهِن "مُقرئ المَعبد"، ليتفنّن فِي صِياغة مَن يُحضّر ومَا يُناقش ومَا يُمكن أن يُتّخذ مِن قَرارَات ومُخرجَات وإن كَان هُناك مُعارضَة كمَا شَاهَدنا فإنّ الكَاهِن يتدَخّل "مُقريء المَعبد" بَعد أن استشَاط غَضبًا كبير الكَهنة ليتدخّل مَرّة تلو الأخرى وليقُول:"نحنُ فِي وَقت مُتأخّر لا نستطِيع أن نُجري العَمليّة الإنتخَابيّة حَسب الأصُول!"، ألا يجُوز التّأجيل لجَلسة أُخرى مَثلأ؟ أو الإستمرَار في هَذه الجَلسة كسلُوك نِضَالي؟ ولكِن من مُوافق يرفَع يَده أمَام مُراقبَة حَدقَات عَين الكَهنة بَين الصّفُوف وعَلى المَنصّة، وبذلِك ضَربُوا النّظام الأسَاسي فِي الدّيمقراطِية المعمُول بِها، الرّئيس يُلقي أسمَاء لجنَته الشّخصِية لأعضَاء التّنفيذيّة، البَعض يستشِيط غَضبًا، "مُقريء المَعبد" يقُول: "اصمُت واجلِس"، وفِي النّهاية النّتيجة أربَعة مُعارضِين والبقيّة موافِقُون! هذا مَجلس يمُثل الشّعب الفِلسطيني برَفع الأيدِي! إذًا ينتصِر مُقرِيء المَعبد لأنّه حَقّق بأدَواتِه وألاعِيبه نَصرًا كمَا حقّقه فِي المُؤتمر السّابع وأقصَى من أقصَى واستبعَد من استبعَد وشوّه من شوّه، والحَقيقَة أنّ الحَكم هُو لكَبير الكَهنة الذي لَم يتخلّى عَن مُقرئ المَعبد، ولكِي نكُون مُنصفِين أيضًا فإنّ مُقرِيء المَعبد والكهَنة لا يقتصِر وُجودُهم فِي حَركَة فَتح، بَل أيضًا في بَاقي الفَصَائل، وإلا مَا كانُوا ليتواجدُوا مُعجبِين صامِتين أو مرعُوبين أو خَائفين مِن قُوة سِحر قَارئ المَعبد ومُراقبة أعيُن كَبير الكَهنة، فقد أسقطُوا نِظامَهم الأسَاسِي ومَا انطلقُوا مِن أجلِه أيضًا.
أمّا البَيان السّياسِي الذي نوّه إليه مُقريء المَعبد فِي افتتاحيّة المَجلس الوَطني فلَم يخرُج عَن أبجديّاته قيّد أُنملة، فهُو يدعُو ويشجُب ويُطالب بتشكِيل لِجان لكيفيّة تنفيذ قَرارَات المَجلس المَركزي السّابقة وتعلِيق الإعتِراف بدَولة الإحتِلال ويبدُو أنّ مُقرِيء المَعبد قَد زوّد كَبير الكَهنة بِعدّة علّاقات فَهل ستحدُث أزمَة في تسويق "العلّاقات" فِي المُستقبل كَما حَدث سَابقًا؟ كلامٌ نظرِي وانشَائي خَالي مِن أيّ آليّات قَد تضَع الشّعب الفِلسطِيني فِي جَاهزيّة لمُواجهة مَا تحدّث عَنه البيَان مِن مُؤامِرات عَلى القضيّة الفِلسطينيّة. أمّا المُفاجئَة والسّحر الذي ألقَاه كَبير الكَهنة وهُو بَعد تَهدِيدات وقَرارات وعُقوبَات تُجاه غزّة وقَطع رَواتب فهُو فَجأة ينطُق ويقُول:"هَل هُناك رَئيس يُعاقب شَعبه!" لقد أثبَت فعلًا أنّه كَبير للكَهنة ويُتقِن عَمله جَيدًا، يا ترَى، لمَاذا تغيّر إتجاه الرّيح 180 دَرجة عِند كَبير الكَهنة؟ أهُو ما يُنذر بمُخطّط جَديد تُجاه غزّة يلعبُوا عَليه سرًا وعلنًا بتدخّل عَربي أو دَولي أو غَيره في غزّة لكَي يعفِي مسؤوليّاته مِن مَصِير وتَاريخ قد يُلوثه أكثَر مَا لوّث بِه؟ أم هُناك مُعادلة جَديدة مِن الّتنازلات والتّوافقيّات قد تظهَر عَلى السّطح أم هُناك تهدِيد مَاثل غَربي وخَاصّة من الدّول المَانِحة بتحوِيل مُوازنة غَزة إلى غَزة، إجمَالًا، كَبير الكَهنة يهدُف ويستهدِف، فلا أظُن أنّ بعَد سَنتين مِن العُقوبات عَلى غزّة واشتدادِها في الشّهور الأخِيرة قد تحرّك ضَميره وتذكّر أنّه رَئيس لكُل الشّعب الفِلسطيني، ولكِن ما يتناقَض مَع هَذا أنّها غزّة وتمثِيل غزّة سَواء فِي حَركَة فَتح أو فِي المَجلس الوَطني، فغزّة لم تأخُذ أكثَر مِن 15% فِي مُكوّنات المَجلس الوَطني وفِي اللّجنة المَركزيّة لحَركة فَتح وفِي مُوازنة السّلطة أيضًا، والّلجنة التّنفيذية المُعلن عَنها مِنها عُضو واحِد مُقيم فِي قِطَاع غَزة أمّا الاثنَين البَاقيين فهُم مُقيمِين دَائمًا مع حَاشِية الكَهنة، إذًا هَل أخَذَت غَزّة فِعلا نَصيبَها التّاريخي بحجمِها وتَاريخِها وقُدراتِها، بالقَطع لا، وهَل الشّراكة النّسبية بَين الفَصَائل فِي دَاخل المَجلس قد تُعطِي عَدالة فِي التّمثيل بالقَطع لَا، إذًا هَذا يتناقَض مَع إستفَاقة وإستيقَاظ ما يُسمى الضّمير للكَهنة بأنّه لا يُمكِن أن يكُون هُناك رَئيس يُعاقب شَعبه إذًا هُو ليسَ رَئيِس للشّعب الفِلسطيني.
بقلم/ سميح خلف