ضاعت البلاد ومتحف العقاد.. !

بقلم: توفيق الحاج

بعيدا هذه المرة عن سياسة قذرة وساسة أقذر.. شوية دكاكين لفصائل مرتزقة ومسؤولين وقادة أونطة ودجالين وتجار وسماسرة ومحللين وقتلة مجرمين وتورجيين منظرة ومجاهدين بالاسم يتشبهون بالصحابة وهم فسدة وقليلين دين!

من غزة... الى خان يونس...قلعة برقوق ... شارع جمال عبد الناصر.. الكتيبة .. شارع مسفلت حديثا يتجه شرقا 200متر حيث المكان .. فلسطينيون كثيرون .. حتى من الخان نفسه ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر ولم يعرفوا ان بالقرب منهم وبينهم تاريخ يحتضر ..!

حضارات بائدة تعبرعن نفسها بشق الانفس في أثر وحجر.. وثراث أجداد يحمل عبق الارض والايام الخوالي.. يكاد يختفي في زوايا مظلمة يعتليها الغبار..!

مشهد على قدر أصالته وروعته.. يبدو بائسا.. مهجورا..مختنقا... رغم محاولات إنسان فلسطيني فريد لا ييأس لانقاذه من براثن الاهمال والطمس والتهميش!

كنت اعبر الشارع الترابي الموحل الذي كانت تحرسه بعض البيوت والنخيل واشجار السدر صباح كل يوم للوصول الى المدرسة منذ عام 1995 دون أن يلفت انتباهي شيء.... الى ان لاحظت في ربيع عام 2000 بابا تظلله شجرة زهرية وارفة و يافطة رخامية أنيقة بالعربية والانجليزية تعلن عن متحف!

الله اكبر .. متحف ؟! فركت عيني غير مصدق.. ودفعني فضولي أن اطرق الباب ..خرج لي رجل خمسيني ودود اشيب مثلي .. عرفته بنفسي فرحب عرفت فيما بعد انه الأستاذ وليد العقاد (أبو محمد) .. صاحب البيت وحارس المكان الذي اقتطعه ليحوي ما استطاع ان يجمعه عبر 40عاما من كنوز تاريخية وحضارية وثراثية فلسطينية كان بالإمكان ان يتصرف بها ويصبح مليونيرا ..!

ارتحت كثيرا للرجل الذي تجول معي موضحا وشارحا ونبرات صوته يختلط فيها الالم بالامل .. وكنت أنا لا أزال تحت أثر المفاجأة وكأني اكتشفت كنز على بابا الذي يتلمظ عليه اكثر من أربعين حرامي..!

يا الله.. انه تاريخ حقيقي..وماض لازال موجودا..عشت بعضه.. وسمعت وقرأت عن البعض الاخر..

شغلت كاميرا الفيديوخاصتي وهي من صنع خيالي وذاكرتي وافلامها من نسج لغتي وحروفي..وبدأت التسجيل

أول ما يقابل الزائر ركن متواضع على يساره يضم ملابس وادوات اجدادنا من ديمايات وعباءات واثواب جداتنا من جنة ونار مجدلاوي وفلاحي ومطرز.. و قدور نحاس وفخار للطبخ والباطية التي يقدم فيها الفت وخزانة العروس وهودجها ..و....و....

ثم ننتقل الى قسم اخر يجلس ارضا متجهما كأنه موظف سلطة مفلس ينتظر نصف راتبه على ابواب رمضان!. اعمدة رخامية وتيجان من باقيا قصر الملكة هيلانه في العصر اليوناني وشواهد قبور كتب على احداها باليونانية ( راحة النفس بعد الموت ) واثار رومانية من معاصر زيتون بازلتية وبلاطات قبور!

ثم يبرز لنا فجأة من بين نباتات الصبار مدفع ميدان مصري اسمر جميل وخوذة جندي مجهول شرب من ماء النيل وشارك في صد العدوان الثلاثي على خان يونس لكنه لم يستطع منع المذبحة !

وشاهد قبر رخامي لشهيد مصري( محمد فتحي فرغلي) من المحلة الكبرى استشهد دفاعا عن خا ن يونس بتاريخ الخامس من حزيران !

نستريح قليلا لنهضم روعة ماشاهدناه مع كبايات الليمون..وتحدثنا عن حال المتحف الذي لايسر و حال البشر والحجر ..

نهضنا ليرحب بنا بيت شعر فيه السعن والوجاق والابسطة والمساند و... و.... وتذكرت الربابة وصوت عبده موسى يغني لوضحة وابن عجلان!

دخلنا غرفة مقابلة تكتظ بنفائس تراتية كثيرة.. اخالها تتأوه من ضيق المكان وبراويز للعملات المعدنية من قبل الميلاد وبعده من العصر الاسلامي والعملة الفلسطينية الحبيبة و الخمس جنيهات الحمراء تلفت النظر بشدة كانها تقول )أنا هنا هنا يابن الحلال ) .. تذكرت ان مهر امي (بنت المختار) رحمها الله كما اخبرتني كان ( 80 ورقة جديدة منها ) بشرط جدي ابراهيم خليل مختار ثاني ل بشيت.

سعدت بذكريات العملةالمصرية العزيزة (قرش فاروق الاحمر والتعريفة والقرشين المقرنات والشلم وجنيه عبد الناصر)!والى جانبها العملات العربية.

صور تزين المكان لابي عمار مع (ابو محمد ) و صورةالاديب عباس محمود العقاد الذي تربطه بعقاد الخان صلة قرابة وحيدر عبد الشافي وهارون هاشم رشيد ..و... و... وعلى الارض ترقد تحفة اثرية قديمة من اريحا بين تحف كثيرة خلدها كتاب تاريخي عالمي مصور! وكلها تحاول الا تستسلم للنسيان!

وابومحمد يحفظ عن ظهرقلب برقية تقديرودعم من أميرسعودي بعدما شاهد عن المتحف فيلما وثائقيا!

خرجت وانا اشعر بمشاعر متناقضة.. فخور أيما فخر بتاريخي وفلسطينيتي وحزين أيما خزن على أشياء غالية وعزيزة تستحق ان تكون في مكان أرحب وأوسع و مغطاة في صناديق زجاجية وتجد الرعاية الدائمة من خبراء مختصين كما رأينا في متاحف خلق الله!

وبدلا من ان اقول وين الملايين ..؟ صرخ داخلي .. وين الحكومات ..؟ وين المسئولين ..؟ الذين تعاقبوا علينا وكانوا عللا وعالات تحلبنا كما الاحتلال لا فرق..!

والله عيب ..انفقوا من دمنا- الله لا يعطيهم عافية- الملايين فوق الملايين على ملذاتهم وسهراتهم ونهبوا ونصبوا وفسدوا وكذبوا .. بنوا ما شاءوا من صروح ومدن ونصب تذكارية تمجد خيباتهم !

بنوا عشرات المنابرالمزركشة التي تشكو الى الله قلة المصلين فقط لتهتف لهم بطول العمروالنفيرأكثرمن العبادة وتجاهلوا ربما من باب فتاوى الحرام والحلال اقامة متحف وطني في مدينة تاريخية صامدة يليق بها وتليق به !

يا الهي .. اتذكر موشى ديان كيف كان يسطو على أثار (تل زعرب) ويزيف ماستطاع واتذكر فضيحة النتن ياهو وهو يعرض زيفا في مجلس الامن عملة قديمة على اعتبار انها عبرية!

شراذم طارئون يبحثون لهم عن تاريخ وآثار فلا يجدون ونحن لا نهتم بتاريخنا وتراتنا الاصيل لربما اكتفينا بما لدينا من آثار هيفا الساحرة ونانا المذهلة!

زرت المتحف بمفردي ومع اصدقاء بعد ذلك أربع مرات .. وفي كل مرة اكتشف جديدا .. واكتشف عظمة هذا الرجل (وليد العقاد) الذي يصفق وحده وهو يريني حجم ما كتب عن المتحف في الصحف !.. وينادي ... لقد اسمعت لو ناديت حيا .. ولكن لاحياة لمن تنادي.. في زمن قل فيه الرجال !..كنت في كل مرة أسال نفسي : ترى هل يضيع متحف العقاد كما ضاعت البلاد؟! وكان الجواب: نعم..ف كلنا مقصرون..لا استثني أحدا..

كنت أشد على يده مقبلا رأسه... واكتب في دفتر الزوار كل مرة .. كلمات الحسرة المرة .. والامل بان يجد هذا المتحف المقبور متنفسا للحياة والاستمرار ..

وتبا للعار!

بقلم/ توفيق الحاج