أعلنت الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة النفير العام ودعت إلى المشاركة في الزحف الجماهيري والانطلاق يوم الاثنين في "مليونية العودة" وكسر الحصار على حدود قطاع غزة، ووجهت الدعوة كذلك إلى جميع فئات المجتمع الفلسطيني في كل أماكن تواجده، داخل وخارج فلسطين، للخروج في مسيرات ومظاهرات؛ كما وأهابت بكل الشعوب العربية والإسلامية وكل أحرار العالم "إلى استثمار طاقاتها وعشقها للقدس والأقصى لمساندة شعبنا الفلسطيني في مسيرته المليونية لتحقيق أهدافه وعلى رأسها تحرير الأرض والمقدسات وانهاء الحصار الظالم المفروض على القطاع منذ 12 عامًا".
مسيرات العودة مستمرة، بوتائر متفاوتة، منذ نحو شهر ونصف وقد حصدت لغاية الآن أكثر من خمسين شهيدًا وآلاف الجرحى، لكنّها، رغم ذلك، لم تلق تجاوبًا بما يتلاءم وأماني "جيوشها" عند الشعوب العربية والإسلامية ولا بين جميع فئات المجتمع الفلسطيني لا سيما في الضفة الغربية المحتلة وفي داخل إسرائيل.
لن أتطرق إلى ما قد تكون العوامل وراء غياب ظواهر وفعاليات الاسناد الضرورية والمتوقعة، فمن يعوّل اليوم على ما كانت تعنيه منظومة الدول العربية والإسلامية ومكانة شعوبها دون أن يقر بواقع سقوط هذا "الكائن" من أساساته لن ينجح في وضع خطة نضالية تستشرف تحرير القدس والصلاة في أقصاها؛ فلأي شعوب عربية وإسلامية يُوجّه نداء النفير ومعظم تلك الشعوب قد استعادت عمائمها القديمة وسلّت سيوفها من أغماد قبائلها وطفقت تتقاتل بينها في حروب تبدو أمامها حروب "داحس" مجرد غبار على صفحات التاريخ.
بعيدًا عن أسباب عزوف الأشقاء والأخوة في الدم والعقيدة وعدم استجابتهم الكافية لصوت الحق الفلسطيني ستبقى احتمالات تحقيق أهداف هذه المسيرات أو فشلها فلسطينيةً بحتة، وقبل كل شيء متعلقة بتحديد الفلسطينيين لتلك الأهداف واتفاقهم على أنجع وسائل انجازها.
فمن يتابع تصريحات القادة، الواردة منذ بداية الأحداث من غزة، سيجد تفاوتًا جذريًا حيال أهدافهم المرجوّة، ففي حين ظُنّ، كما أعلن في البدايات، أن المسيرات الشعبية جاءت لتعكس قرارًا سياسيًا استراتيجيًا موّحدًا ومدروسًا ويتبنى نمط المقاومة الشعبية غير المسلّحة ضد استمرار الحصار على غزة وضد اعلان دونالد ترامب وإدارته الأخير بشأن القدس وفلسطين، نسمع رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" اسماعيل هنية يصرّح يوم الجمعة الفائت، كما نقل على لسانه موقع قناة العالم "أن فلسطين من البحر إلى النهر ولن نعترف بإسرائيل" ويضيف متوعدًا الاحتلال الإسرائيلي، كما جاء هناك أيضًا "بأن يحوّل النكبة التي حلّت على فلسطين إلى نكبة ستحل على إسرائيل والمشروع الصهيوني".
فهل القضية فك الحصار عن غزة ومواجهة مواقف الإدارة الأمريكية أو هذه ستكون البداية والنهاية ستكون مع نهاية إسرائيل فقط؟
لقد تناول كثير من المحللين تفاصيل ما يحدث في غزة منذ استعيرت ذكرى يوم الأرض في الثلاثين من أذار/مارس لتكون بداية الانطلاق وما تداعى بعدها نحو ذروة مرتقبة مع حلول الذكرى السبعين للنكبة في منتصف هذا الشهر؛ والبعض حاولوا تشخيص ما يرونه مثالب وعلامات ضعف تستوطن في عرى المشهد وبين ثناياه وحذروا من امكانية تضييع الفرصة على الغزيين خاصة وعلى جميع الفلسطينيين، وانتهاء هذا الفصل بخيبة أمل جديدة تنضاف على سجّل الفرص المهدورة في تاريخ هذه المنطقة الموجع والدامي.
منذ البداية ظهرت علامات التباس حول مَن يوجه القرار الاستراتيجي ويتحكم في مجريات الأمور المتفاعلة في الميدان وطفت تساؤلات حول حقيقة وجود هوامش فعلية تتيح لجميع الأطراف، بشكل ديمقراطي سليم، فرصًا لبحث الأهداف المبتغاة من هذه المسيرات وماهية الوسائل النضالية الميدانية الملائمة لتحقيقها.
فعدم الاتفاق على أهداف سياسية واضحة وقابلة للتنفيذ قد يؤدي إلى انحرافات في الممارسات ونزوع بعض "المقاومين"، عن قصد أو عن ردود أفعال، نحو تسليح نشاطاتهم وتحويلها إلى أعمال عسكرية؛ أو، على النقيض، إلى تثبيط عزائم بسطاء الشعب واطفاء شعلتهم.
في فلسطين لم يعد الخلاف بين قادة معظم الفصائل الوطنية والحركات الإسلامية سرًا ولذلك سيبدو لأهلها وللعالم تصريح هنية غريبًا، فحين يقول أن "المقاومة توحدنا، الثوابت توحدنا، المواجهة توحدنا، ولا نبحث عن الكراسي والمناصب" لن يعرف معظم أبناء الفصائل المختلفة عن أية مقاومة يقصد ولا أية ثوابت تجمعهم أو أية مواجهات توحدهم؟
فالفلسطينيون، وفي غزة أيضًا، مختلفون في مسائل جوهرية عديدة، ومن ضمنها معنى ومفهوم الدولة، وما المقاومة وطرق صرفها النضالية وتعريف الثوابت وغيرها من المسائل التي تظهر تبايناتهم حولها كالثقوب في الغرابيل.
ولن تخفي الشعارات الثورية ما يحاول جَنيه كل طرف من التدافع على بيادر الغضب الغزاوية، ولن تمحو الصور التذكارية وقفشات الوحدة الواهية أثر "نيغاتيفات" أشرطة الماضي التي ما زال يحتفظ بها كل فريق في "مقاسمه" الجاهزة.
قد يفسد السياسيون جنى هذا الموسم الفلسطيني وقد تذري أطماعهم الفصائلية "عناقيد الغضب المبارك" ولكن لن تضيع رسالة غزة، فهذه قد وصلت إلى جميع أركان المعمورة وأكدت أن ما جرى ويجري على أرضها هو أكبر من مسيرة وأقل من عودة؛ إنها استفاقة الروح المعذبة في جسد نفث فيه الزمن صلبه فولد وعاش ليبقى.
لا يمكن فصل ما يحدث في غزة عمّا يحدث في المنطقة وفي إسرائيل، ففيها أجّجت مشاهد مسيرات العودة وما رافقها من أنشطة وتصريحات فلسطينية مشاعر الخوف الوجودي بين اليهود الإسرائيليين وذلك على الرغم من وجود تفاوتات بسيطة في توجهاتهم ومواقفهم الحقيقية.
تتنازع "المزاج العام" الإسرائيلي، بخصوص قضية حق العودة الفلسطينية، حالتان أساسيتان؛ فالأغلبية اليهودية، على تفاوت انتماءاتها السياسية والاجتماعية، ترفض التعاطي مع الفكرة بالمطلق، لأنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب هذا الحق وقد مارسوه، في العام 1948، حين "عادوا" إلى "وطنهم القومي" وأقاموا على "أرض الميعاد" دولتهم.
تعتبر هذه الأكثرية، ويمثلها اليوم جميع قادة الأحزاب الصهيونية، أن مجرد نبش مسألة العودة من قبل الفلسطينيين هو بمثابة محاولة للقضاء عليهم وعلى دولتهم.
في المقابل تقر أقلية يهودية هامشية بأن منع المهجرين الفلسطينيين/اللاجئين، بعد انتهاء الحرب في العام 1948، كان عملًا شيطانيًا ولا أخلاقيًا من قبل قادة "اليشوف" والحركة الصهيونية وبسببه اكتملت، عمليًا، عناصر النكبة الفلسطينية وبسببه كذلك بقيت قضية فلسطين "متخثرة" في مخيمات اللاجئين والمهاجر.
وبمنأى عن كيفية التوصل إلى حل نهائي لهذه المسألة، يقر هؤلاء بضرورة الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بمسؤولية الحركة الصهيونية الأخلاقية، على الأقل، عن التسبب بهذه الكارثة ويفضلون، بعد هذا الاعتراف، التوصل بالاتفاق إلى حل مرض للطرفين! يضمن سلامة دولتهم.
قبل المسيرات كانت اليافطة في المشهد الإسرائيلي تكرّس الخوف ذريعة ومنطقًا والقمع ممارسة، وبعد المسيرات صارت هذه اليافطة "أحجبة" موضوعة في فراشهم وعلى أبواب بيوتهم جميعًا.
لم ينتظر المجتمع الإسرائيلي وقادته العنصريون تصريحات السيد هنية بشأن تصوره النهائي لحل الصراع في منطقتنا؛ فهم يفترضون أن هذه هي النية الحقيقية والمبيّتة عند معظم الفلسطينيين ويتذرعون بوجودها لرفض أي محاولات للتوصل إلى حلول سلمية مقبولة، وفق توازنات القوى، أو مفروضة لأسباب موضوعية ومحلية؛ مع هذا فمن الواضح انهم سيستغلون تصريحات هنية وغيره لتبرير ردود فعلهم الوحشية المرتقبة في هذا الأسبوع.
فإسرائيل تفترض أن استعمال القوة المفرطة وايقاع أعداد كبيرة من الضحايا في الأرواح والجرحى بين صفوف المناضلين الفلسطينيين، سيؤدي إلى تراجع في همم الحشود الغاضبة وإلى ردع الجماهير الزاحفة، وذلك بهدي تجربتها في الأيام الأولى من الانتفاضة وفي اعتداءاتها المتكررة على غزة وعلى أنشطة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية.
المعادلة بنظر قادتها بسيطة، فهم يخترعون أسباب تخويف شعبهم ثم يضخمونها، ثم يعكفون على ادخالها وتصنيعها في مفاعلات تكرير خبيثة للخوف حتى تنصهر إلى مشاعر وتتحول إلى وسائل اقناع ومبررات لسياساتهم الرافضة ولممارساتهم الوحشية.
ربما سنشاهد ردة فعل غير مسبوقة في وحشيتها لصد مسيرات العودة المخططة لهذه الأيام، فعلاوة على كونها وسائل قمع ناجعة وخطيرة تتوقع إسرائيل أن "تجبر" بواسطتها الفلسطينيين على تغيير نهجهم وتكتيكاتهم وتدفعهم بذلك إلى استبدال مقاومتهم الشعبية بمقاومة عسكرية ستضمن لها التفوق ميدانيًا والتذرع "أخلاقيًا " أمام العالم بأنها الضحية مرة أخرى وما الفلسطينيون إلا مجرد "إرهابيين" يسعون لانكابها ومحوها عن الوجود.
معظم المعطيات العالمية والإقليمية والعربية والإسلامية والفلسطينية ليست في صالح الغزيين، فباستثناء بعض مشاهد الاسناد المتواضعة في الضفة المحتلة وفي الأردن وفي بعض عواصم العالم، سيبقى وعيهم الوطني وصبرهم المسؤول وحكمتهم الوازنة هي الضمانات لتسجيلهم نقطة هامة في جولة من مواجهة شرسة ستشهد بعدها جولات عديدة.
فهل ستمضي المسيرة إلى الأمام بلا عودة؟
جواد بولس