استمرار النكبة مسؤولية المجتمع الدولي ولن يعفيه منها سوى إنهاء الاحتلال

بقلم: صائب عريقات

تطور الوعي الجمعي العالمي في القرن الحادي والعشرين لجهة الانحياز إلى حقوق الإنسان وسيادة القانون الدولي ورفض الاستكانة للغة القوة وفرض السيطرة والاستعمار، شكّل القوة المحرّكة لنشاطنا الإنساني والسياسي في مواجهة الاحتلال على مر السنين. لكن، وفي كل عام من إحياء الذكرى السنوية للنكبة الكبرى التي حلت على شعبنا منذ 70 عاماً حتى يومنا هذا، كان يحدونا الأمل وتسلحنا بقوة الحق أن تبدأ مكونات الرأي العام العالمي ودوله وحكوماته وبرلماناته ومنظماته بتحمل مسؤولياتها والاستجابة لالتزاماتها السياسية والأخلاقية والإنسانية تجاه القضية الفلسطينية التي أصبحت تستعصى على الحل مع مرور الوقت بسبب فشل المجتمع الدولي بتحمل تلك المسؤوليات، وبخاصة محاسبة سلطة الاحتلال على خروقاتها القانون الدولي وإنهاء الاحتلال الذي طال أمده، وإنجاز الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف وعلى رأسها حقه في الحرية واستقلال دولته على حدود 1967 والعودة إلى دياره التي شرد منها، وفقاً للقرار 194.

إن محاولات إسرائيل التاريخية بالسيطرة على مدينة القدس وتغيير معالمها وتهويدها وفرض قوانين عنصرية ترسخ من مكانتها وترويجها "كالعاصمة الموحدة للشعب اليهودي" لم تعد خافية على أحد، ذلك بالتوازي مع محاولاتها إلغاء الوجود الفلسطيني وتهجيره قسراً وخلق أمة من اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، بدءاً من نكبة عام 1948 وحتى اليوم، ومحو هويتهم والقضاء عليهم من خلال تنفيذ عمليات التطهير العرقي من قتل وإعدام وهدم منازل وتشريد قسري واعتقال وتوسيع الاستيطان وفرض العقوبات الجماعية.

إلا أنه في هذا العام تحديداً، والذي يسجل الذكرى السبعين لنكبتنا الكبرى عام 1948 التي شردت ما يقارب من 957 ألف فلسطيني كانوا ثلثي الشعب الفلسطيني آنذاك، ودمرت ما يقارب 500 قرية ومحتها عن وجه الأرض ليحل محلها مستوطنون يهود، وقتلت آلاف الفلسطينيين من السكان الأصليين واعتقلت عشرات الآلاف، وواصلت نكباتها المتلاحقة بحق شعبنا، تم تتويج هذه النكبات بدعم نكبة أخرى تبناها رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترمب نهاية العام الماضي حين أعلن عن تحقيق حلم إسرائيل بالسيطرة على فلسطين التاريخية من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها، وإسقاط ملف اللاجئين وغير ذلك.

تبنّت الإدارة الأميركية برنامج اليمين المتطرف في إسرائيل الداعي إلى تدمير حل الدولتين وفرض الاستيطان الاستعماري ونظام "الأبارتايد" بديلاً منه. وعلى رغم أننا نعتبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قراراً لاغياً وباطلاً لكونه يخالف الشرعية الدولية والقانون الدولي، ويخالف التزامات الإدارة الأميركية نفسها تجاه عملية السلام، وعلى رغم أن أية إجراءات تهدف إلى تغيير طابع المدينة أو مركزها ليس لها أي أثر قانوني امتثالاً لقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، إلا أن إصرار الإدارة الأميركية بالتعاون مع سلطة الاحتلال على اختيار توقيت نقل السفارة الأميركية إلى القدس عشية إحياء الذكرى السبعين لنكبة شعبنا لم يكن صدفة بل رسالة استفزاز ليس إلى أبناء شعبنا فحسب، بل إلى العالم العربي والإسلامي والمسيحي ودول العالم أجمع بكل قواها ومكوناتها وفئاتها، مفادها أن منطق القوة والهيمنة واستبدال لغة القانون الدولي بقانون الغاب ومنع الشعوب من حقها في تقرير المصير ما سيسود المنطقة في المرحلة المقبلة، وهذا يؤكد صوابية الموقف الفلسطيني باعتبار الإدارة الأميركية قد عزلت نفسها عن رعاية العملية السلمية، وأنها أصبحت جزءاً من المشكلة وليس من الحل.

لم يكن من المفاجئ بعد كل ما أقدمت عليه الإدارة الأميركية من تحصين إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، بكل وسائل الدعم السياسية والقانونية المطلقة، أن تتعمد هذه الإدارة فرض إراداتها المساندة للاستعمار بنقل سفارة بلادها إلى مدينة القدس المحتلة عشية إحيائنا الذكرى السبعين للنكبة الكبرى، والتي تشكل إهانة مزدوجة وصريحة لكل من أبناء شعبنا وحقهم في عاصمتهم السيادية ولقيم العدالة والقانون الدولي ونظامه السائد منذ عقود.

ولكن، من المثير للاستهجان والمساءلة أيضاً أن يقوم بعض الدول- المعترضة على قرار ترمب الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها- بالمشاركة في جريمة انتهاك حق شعبنا في عاصمته. وتكمن الأهمية البالغة ليس فقط في أن حضور الافتتاح من أية دولة يعني اعترافاً وقبولاً بقرار الإدارة الأميركية الأحادي، ونقض إعلانها برفض هذه الخطوة غير القانونية، ونقض الدولة ذاتها التزاماتها بالقانون الدولي، بل بما ينبغي القيام به من قبل هذه الدول بعد قيام الإدارة الأميركية بتنفيذ وعدها وخرق القانون الدولي والـتأسيس لمرحلة من الفوضى على الساحة الدولية لا يمكن الخروج منها لعقود قادمة. إن هذه الدول جميعها أمام اختبار حاسم، فإما عالم يسوده الفوضى والتطرف والحروب وإما عالم يسوده السلام والأمن والاستقرار.

ندرك أن هذه المرحلة ما هي إلا البداية فقط لمرحلة أميركية جديدة لفرض الحلول والإملاءات على الفلسطينيين والعرب، ليتم بعدها فرض إملاءات حكومة الاحتلال حول قضايا الوضع النهائي كافة، بذريعة أن الفلسطينيين رفضوا جهود الإدارات الأميركية السابقة، وأن كل من يسعى إلى السلام عليه أن يقبل ما ستفرضه الإدارة الأميركية، وأن كل من يعارضها سيتم التعامل معه باعتباره من قوى الإرهاب والتطرف التي تجب محاربتها.

ورداً على ذلك، اتخذنا قراراً بعدم انتظار الطرح الأميركي وصفقته الإملائية التي بدأت بالفعل من خلال تكريس الوضع القائم والذي يعني دولة واحدة بنظامين، وتشريع "الأبارتايد" والاستيطان بمعايير أميركية، واتخذنا الخطوة الأولى بترتيب بيتنا الداخلي والحفاظ على المشروع الوطني في مواجهة مشروع ترمب لتصفية القضية الفلسطينية والحفاظ على القرار الوطني المستقل وتجديد الشرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وهياكلها، لأننا نعلم أنه من الصعــب مواجهة التحديات القادمة من دون عملية تمكين ذاتي تقودنا نحو الوحدة الوطنية التي تحصن قراراتنا وتجعلنا قادرين على مواجهـــة الضغوط والابتزازات ومحاولات فرض الإملاءات والأجندات المختلفة. وقد نجحنا في عقد الدورة الثالثة والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني الذي انتخب مجلـــسه المركزي ولجنته التنفيذية وانتخب رئيسها، وسنعمل على تنفيذ قراراتها لنتمكن من مواجهة هذه المرحلة وإسقاط مرحلة الفرض الأميركية. كما سنواصل مساعينا السياسية والقانونية لعزل الدور الأميركي ومواجهته، وسنصرّ على نيل حقوقنا من منطلق تأكيد الالتزام بالقانون والشرعية الدولية.

سبعون عاماً على نكبة شعبنا الفلسطيني الأولى في عام 1948، والقرارات الدولية تصدر عن المنظومة الأممية قراراً تلو الآخر لمصلحة القضية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ حتى يومنا الحالي. إلا أن هذه القرارات بقيت حبيسة الأدراج وحبيسة الضمير الإنساني العالمي الذي راقب على مدار تلك السنوات الظلم التاريخي على شعبنا، وشهد على طغيان القوة والتجبر على منظومة القانون الدولي وحقوق شعبنا. وإن هذه الجريمة المستمرة منذ سبعين عاماً والتي تمضي على حساب حياة أبنائنا وبناتنا وأرضنا وحريتنا تتطلب من المجتمع الدولي الوقوف بجدية أمام مسؤوليته السياسية والقانونية والأخلاقية، وعدم الكيل بمكيالين، وتصحيح هذا الخطأ التاريخي من خلال تصويب العملية السياسية ونقلها إلى رعاية دولية وبمرجعية تستند إلى القانون الدولي بسقف زمني محدد، يُنهي فيها الاحتلال ويعترف بدولة فلسطين كاملة العضوية إنقاذاً لحل الدولتين. وسنكمل نحن بدورنا الانضمام إلى المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة، وسنقدم الإحالات بأسماء مجرمين بعينهم، وسنحيل كل الملفات والبلاغات التي تثبت تورط إسرائيل في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبتها وتقديمها إلى العدالة من أجل الانتصاف لحقوق وضحايا فلسطين، ونعمل جاهدين على تعزيز صمود شعبنا، خصوصاً في القدس المحتلة وقطاع غزة، بالتعاون مع أشقائنا في الدول العربية وأصدقائنا حول العالم.

استمرار النكبة يتحمل مسؤوليته المجتمع الدولي، ولن يعفيه سوى عمله الجاد من أجل إنهاء الاحتلال الاستعماري غير المشروع، وهي مسؤولية سياسية وقانونية وأخلاقية تتجسد بتغليب مبادئ المحاسبة والعدالة وإنصاف شعبنا الذي عانى ظلماً تاريخياً منذ مئة عام، وترجمة المواقف إلى عمل ملموس وعاجل، فالدعم اللفظي لم يعد مجدياً في ظل هذه الهجمة الشرسة التي تستهدف تصفية القضية والحقوق الفلسطينية، بل أصبح يشكل خدمة مجانية لإطالة أمد الاحتلال الذي تحول لاستعمار بفضل السكوت عنه وعدم مساءلته.

أما شعبنا الفلسطيني، في كل أماكن وجوده في الوطن والمنافي ومخيمات اللجوء، والذي يعلم حجم المؤامرة وصعوبة المرحلة المقبلة، فقد تعلم بالتجربة كيف يسقط هذه المشاريع التصفوية التي واجهها بحنكة واقتدار على مدار العقود الماضية، وهو اليوم يواصل نضاله المشروع ضد الاحتلال بكل الطرق، كما يواصل صموده الأسطوري على أرضه وحراكه الشعبي السلمي من أجل انتزاع حريته وحقوقه التي كفلتها له المواثيق والشرائع الدولية، وما مسيرات العودة الأسبوعية إلا نموذجاً على شجاعته وابتكاره الخلّاق واللامحدود للوسائل السلمية، والأدوات التي يعلن فيها رسالته للعالم بتمسكه بحقوقه غير القابلة للتصرف في تقرير المصير والحرية والاستقلال في دولته ذات السيادة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحقه في العودة وفقاً للقرار 194، والإفراج عن جميع الأسرى.

بقلم/ د. صائب عريقات

المصدر: رام الله - وكالة قدس نت للأنباء -