لم يستمر الشعور والتفاعل مع موضوع جورجي زيدان بنفس الوتيرة التي ذكرتها في التدوينتين السابقتين (1)، (2)، وبدأت أنظر من زوايا أخرى؛ ولكن أثناء البحث اصطدمت بمعلومة مفادها أن ثمة شبهات بكون زيدان عضوا في منظمات ماسونية، وقد وجدت أن الكاتب والباحث (شوقي أبو خليل) وهو فلسطيني مثلي بالمناسبة، وأنا محب لكتبه خاصة الأطالس الرائعة، قد صنّف كتابا كاملا موسوما بـ(جرجي زيدان في الميزان)، واطلاعي على هذا الكتاب وغيره من الآراء المهاجمة أو المؤيدة أو الحيادية بخصوص جورجي زيدان جاءت في وقت تخففت فيه من النظرات الثنائية الحادة، التي لا ترى إلا البياض أو السواد، ولا تؤمن بوجود مناطق رمادية، عوضا عن وجود ألوان أخرى.
والغضب في هذه المرحلة والعداء ليس بذات الحدة التي كانت سابقا؛ وعلى كل فإن شوقي أبو خليل يؤكد على مسائل عدة بخصوص جورجي زيدان، وأخطر ما فيهما أو أكثر ما يزيد جرعة العداء والنفور هما: العضوية في الماسونية، والعمل الاستخبارات البريطانية، لدرجة مرافقة الحلمة البريطانية على السودان، وتلقائيا فإن المحافل الماسونية أو المخابرات البريطانية لن تفتح أذرعها لاحتضان من يدافع عن الإسلام والمسلمين، وينظر إلى تاريخ الإسلام نظرة إجلال واحترام، أو حتى حيادية! على كل تفكري ذهب إلى زاوية أخرى؛ وهي ما رد الفعل؟ فإذا كانت هذه بضاعة جورجي فما هي البضاعة المقابلة لها أدبيا، لا نقدا ودحضا ونقاشا حول الإنتاج الذي وضعه جورجي زيدان على رفوف المكتبات، خارجا من دار أو مؤسسة (الهلال) بل أين المنتوج الأدبي المتمتع بأدوات أدبية جيدة من مرجعية إسلامية؟
هذا قادني إلى الحكم بفقر يضاف له قلة ترويج وعدم تطور عند الإسلاميين في هذه الناحية، وبالطبع يقفز هنا اسم د. نجيب الكيلاني-رحمه الله- والذي ولد في عام 1931 أي بعد حوالي 17 عاما من وفاة جورجي زيدان، وقد قدم الكيلاني فعلا أعمالا جيدة، وبعيدا عن إشادات الإسلاميين به، نأخذ ما قاله نجيب محفوظ عن الكيلاني بأنه (منظّر الأدب الإسلامي) وإذا نظرنا إلى الجودة فإن أعمال جورجي زيدان من الناحية الأدبية والفنية ليست ذات قيمة كبيرة، وأعلم أن النقاد يمارسون نوعا من احتكار الحكم على الأعمال، علما بأن القارئ له دور وحكم ورأي من حقه إبداؤه ولو خالفهم، ولكن يبدو نجيب الكيلاني قد تفوق أو على الأقل ما أنتجه الكيلاني من روايات تاريخية إسلامية، تمنح الفرد القارئ المسلم أدبا تاريخيا جميلا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكيلاني لم ينشغل بفترات تاريخية تقصّد جورجي زيدان أن يتحدث عنها ويبني عليها أعماله الروائية... وحتى الآن بقي في قلبي غصة سؤال: لماذا على رفوف مكتبة مدرسة الأونروا لم أجد روايات الكيلاني، ووجدت روايات زيدان، من قرر ولماذا؟!
ولكن ومن زاوية أخرى نكاد نقول بأن الإسلاميين من الناحية الأدبية قد توقفوا عند د. نجيب الكيلاني، وصارت حالتهم أشبه بتوقف عموم الأمة الإسلامية عند إنتاجها العلمي في حواضر العباسيين شرقا والأندلس غربا قبل قرون؟ وأعرف أن ثمة أمثلة أخرى وقد حاورني صديق بأنه يضاف إلى نجيب الكيلاني أسماء أخرى مثل محمد سعيد العريان وعلي أحمد باكثير، هذا صحيح، بل أنا أضيف أيضا-بعيدا عن الانحيازات الطوائفية السائدة حاليا- الكاتبة العراقية بنت الهدى والتي قرأت مجموعتها القصصية بعد سنتين من قراءة مجموعة جرجي زيدان استعارة من مكتبة مسجد المخيم، والتي سأعرف لاحقا بعد أكثر من عقد من الزمان أن اسمها (آمنة الصدر)، فالأدب القصصي او الروائي الإسلامي واضح التوجه عموما، مع أن أغلبه مصري.
ولكن التركيز على نجيب الكيلاني هنا من تصدره الواضح؛ فمع أن الرجل اعتقل مرتين على خلفية عضويته في الإخوان المسلمين، فإن الدولة المصرية احتفت به، من خلال التكريم ومنح الجوائز، وحتى الآن ثمة مدارس ومؤسسات في مصر تحمل اسمه، بل إن السينما المصرية أنتجت فيلما مستوحى من إحدى رواياته (ليل وقضبان). ولكن لماذا لم يقم الإسلاميون بعمل أفلام أخرى من أعمال الكيلاني وغيره؟ بل السؤال السابق: لماذا أهمل الإسلاميون الدراما عموما، وزهدوا فيها؟ الحقيقة أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تحتاج بحثا موسعا، ولكن بلا شك أن الرعاية الرسمية تلعب دورا بارزا، فمثلا نجد مسلسل (قيامة أرطغرل) في تركيا والذي يصلنا مترجما، وثمة نسخة عربية مدبلجة له، يحظى بمباركة وتشجيع من رئيس الجمهورية أردوغان، لدرجة زيارة الرئيس وزوجه لموقع التصوير، وليس لدى الإخوان أو عموم الإسلاميين أي كيان رسمي يشجع على ذلك.
ومن ناحية أخرى فإن هناك تنميطا قبله الإسلاميون، ولم يحاولوا الخروج منه، مع أنهم لم يختاروه؛ فالنظرة إلى الإسلامي هو أنه شيخ وواعظ وداعية، أو طبيب (نجيب الكيلاني طبيب بالمناسبة) أو مهندس أو أستاذ جامعي أو رجل أعمال، وفي المجال الأدبي فقط يتقبل منه نظم الشعر، ولكن لم يستوعب المحيط الاجتماعي وجود إسلامي كاتب قصص وروايات أو سيناريست أو ممثل سينمائي أو تلفزيوني أو مسرحي على مستوى واسع.
ومن ناحية أخرى فإن الحقل الثقافي والفني العربي عموما، والمصري خصوصا قد استبعد الإسلاميين أو حتى من هو قريب -ولو من بعيد- من فكرهم وسلوكهم، استبعادا يواطئ الإقصاء، مع العلم بأن مصر كانت لفترة طويلة حاضنة الأدب والفن والثقافة عربيا، وحتى جرجي زيدان موضوع حديثنا، هاجر إلى مصر من لبنان، وقد منح الشيوعيون وسائر أهل التوجهات العلمانية غير الإسلامية نوعا من الهيمنة والاحتكار على هذه الحقول إضافة إلى حقل الصحافة، وبالطبع تظهر بصماتهم على الإنتاج بوضوح، بل حتى ما هو إنتاج يفترض أنه متعلق بالتاريخ الإسلامي من الأعمال الدرامية، صبغ ودمغ بمساحات واسعة لقصص العشق والحب، مع تقصّد إبراز البلاهة والسذاجة، إلا قليلا منه، وهذا دليل فشل، ولهذا نرى احتفاء متواصلا بفيلم الرسالة، الذي خرج عن هذه السطحية وقدم مادة جيدة، بعكس ما سبقه بسنوات وهو فيلم الناصر صلاح الدين.
في الختام على الإسلاميين من الحركيين وغيرهم أن يدركوا حقيقة تغيرات العصر من حيث أدوات التأثير والاهتمام؛ فقلة قليلة جدا جدا تقرأ الكامل في التاريخ أو تاريخ الطبري ومغازي الواقدي وغيرهم، وقلة قليلة ستقرأ روايات جرجي زيدان وما فيها من دس وتدليس، أو روايات نجيب الكيلاني وما فيها من جماليات وروح إسلامية، ولكن كثيرا من الناس سيتابعون المسلسلات والأفلام، بل إن المسلسل التاريخي قد يكون هو المحفز للقراءة في المصادر المختصة، مثلما نفعل في قيامة أرطغرل حاليا.
قبل 14 قرنا وجدنا حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وغيرهم، مقابل بعض الشعراء مثل كعب بن زهير وكعب بن الأشرف، لأن البيئة وقتها كانت بيئة أشعار وقصائد وفصاحة... الدعوة الآن تستلزم إضافة الدراما المدعومة بروايات تحوي لمسات فنية وتشويق، ومع أن ثمة تقصير واضح إلا أن الأمل قائم مع تزايد إدراك أهمية هذه الأدوات لخدمة الدعوة الإسلامية.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني