ما اتخذه ترامب بشأن القدس وما فعله من تنفيذ وعوده الانتخابية باعترافه بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وبنقل سفارة بلاده إليها ليس وليد الصدفة بل تنفيذاً لقرارات اتخذتها بلاده من رؤساء سابقين وبمباركة مجلسي الكونغرس والنواب الأمريكيين ، لكنه معروف عنه التهريح وأنه قد اتخذ قراره في تحدٍ صارخٍ للإرادة الدولية واسنفزازاً لمشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين ، فمعروف أن ما نفذه سبقتها سلسلة من الحلقات الإجرائية الممنهجة سارت عليها الدول الغربية إلى أن وصل الحال الذي أعلنه والذي سيتبعه قرارات أشد سوءاً ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين الذين لا يملكون ما يردون به على ما أقدم عليه مثلما صنع من سبقوه .
فقد سبق للدول الغربية أن اعتمدت استراتيجية في سبيل الهيمنة على المنطقة العربية تقوم على سياسة التفتيت والتشتيت ، وربط كل كيان منها اقتصادياً بها ، في سبيل أن تبقى تلك الكيانات عاجزة عن بنائه بمفردها وغير قادرة على متطلبات مواطنيها دون الاعتماد عليها لتبقى لها اليد الطولى في التحكم بمصائرها والعبث بشأن كل منها أنى أرادت وكيف شاءت ، استمراراً لهيمنتها عليها جميعها ، فلا يوجد كيان عربي قادر على الذود عن نفسه أو الحفاظ على أمنه واستقراره دون الدولة صاحبة الصول والجول في العالم الغربي ، هكذا جرى ترتيب الأمور لأهل المنطقة شاءوا أم أبوا .
وأمام الصحوة القومية والدينية التي انبعث عقالها منذ أواسط القرن التاسع عشر في الشرق العربي ، شعر هؤلاء بالخطر المحدق على استمرار هيمنتهم على المنطقة ، لذلك جرى ترتيب الأمر بشكل غفل عنه وعن مخاطره أهل المنطقة في حينه ، وما سينجم عنه في حال إنجازه ، هذا الأمر يعتمد إنشاء كيان غريب عن أهل المنطقة ومده بكل أسباب القوة والمنعة ليكون شغلهم الشاغل وإرهاقهم اقتصادياً وعسكرياً ومعنوياً وسياسياً، والحؤول دون تمكنهم من تحقيق نصر عليه بالتدخل المباشر في القتال في حال مالت الكفة لغير صالح ذلك الكيان المستجد كما حصل في حرب عام 1973 التحريكية .
هذا الكيان الغريب يكون بمثابة قاعدة غربية متقدمة في الجسد العربي لطالما خلق الأوجاع بالدس الرخيص وبإشعال الفتن ، وبموجب ذلك تخلصت أوروبا من أعراق لطالما كانت مندسة بين المجتمعات فيها حيث كانت تلك المجتمعات تكن الكراهية والحقد عليهم ولطالما تعرضوا فيها لكافة أشكال التعذيب والتشريد والقتل والمهانة. ولخدمة مطامعهم في الأرض العربية اختاروا هؤلاء ليكونوا معولهم في تدميرنا وإلحاق الضرر والأذى بكل منطقتنا والذي أعادته إلى الواجهة الكنيسة الإنجليكانية بعدما رفضتهم الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية ليتواجدوا فيه ، وهذا نابع من حقد دفين على كل ما هو عربي ومسلم ، وهذا ليس تجنٍ عليها بل ثابت من الممارسات العملية ضدنا على أرض الواقع ودعوتها لمعركة يجري الإعداد لها لإبادة كل ما هو عريي ومسلم وفق ما يتحدث به دهاقنة السياسة الغربيين والصهاينة لديهم من أمثال هنري كيسنجر وغيره من اليمين الأمريكي والأوروبي المتطرف.
وقد بدأ التنفيذ العملي لخلق هذا الكيان الغريب والدخيل على الجسد العربي وتم اختيار فلسطين كقاعدة استعمارية متقدمة له بوعد ، فمن لا يعلم بوعد بلفور المشؤوم ؟! وفي سبيل تنفيذه تم شرعنة الوصاية عليها من قبل عصبة الأمم ، ومن ثم شرعنة قيام دولة فيها بقرار تقسيم صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الحديثة الإنشاء حينذاك ، فرضته بالقوة والضغط وباللف والدوران والتهديد والوعيد كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية آنذاك ، تنفيذاً لرغبات زعماء الحركة الصهيونية وأطماع أهل الحل والربط في العالم الغربي ، ومن ثم شرعنة احتلال أراضٍ عربية إلى جانب ما تبقى من الأرض الفلسطينية من ضمنها القدس الشرقية في العام 1967م في قرار وصف بالأممي ” 242 ” ، وبعد ذلك شرعنة احتلال القدس باعتبارها عاصمة للدولة الصهيونية بقرار صدر أولاً بتمليك القدس بشطريها الشرقي والغربي للدولة العبرية عملياً في 19 يناير 1982 حين وقعت الولايات المتحدة الأمريكية مع “إسرائيل” في اليوم الأخير لولاية الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان، وثيقة خطيرة سمّيت حينها بـ “اتفاق إيجار وشراء الأرض”، حصلت الحكومة الأمريكية بموجبها على قطعة أرض من أملاك الوقف الإسلامي والأملاك الفلسطينية الخاصة في منطقة غرب القدس المحتلة عام 1948 لبناء السفارة الأمريكية عليه ، ومن ثم اختارت مكاناً آخر في ضاحية أرنونا المتاخمة لحي المندوب السامي في القدس، حيث موقع قنصليتها العامة، لحين الانتهاء من تجهيز مبنى مجاور ليكون مقراً ، ومضت الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ ما قررته لنقل سفارتها إلى القدس في العام 1995 ، أي قبل أن يجف فيه الحبر الذي وقع عليه بما يطلق عليه اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية ، حيث كانت بين فترة وأخرى تجس نبض ما سيحدث من ردات فعل في الشارعين العربي والإسلامي فيما لو أقدمت على تنفيذ هكذا خطوة ، وهذا أظهره في العام 2001 للعلن كولن باول وزير الخارجية الأمريكية حينذاك حين قال في شهادة أدلى بها أمام الكونغرس ” القدس عاصمة إسرائيل ” حيث بررت حينذاك كلمات باول بــ ” زلة لسان ” ، تبعها في العام 2002 توقيع بوش الإبن على ” قانون القدس الموحدة ” الذي اعتمده الكونغرس الأمريكي لكن حال دون تنفيذ القرار انتفاضة الأقصى منذ العام 2000 وانشغال بوش الإبن في حربه على العراق وجهود ما أطلق عليها زوراً وبهتاناً عملية السلام التي انجرّت إليها السلطة دون تحقيق شيء لمصلحة القضيّة بل مكنت العدو الصهيوني من تنفيذ مآربه بزيادة الاستيطان في القدس خاصة حيث أحيطت القدس الشرقية بالمغتصبات كما تحيط الإسوارة بالمعصم والاستيلاء على مزيد من أراضي الضفة الغربية وأقامت عليها المزيد من المغتصبات ، ويبدو أن ذلك ليس برغبة صهيونية فقط بل بتوجيه وضوء أخضر أمريكي.
وجاء ترامب وأقدم على ما أقدم عليه ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، وسط ردود أفعال خجولة لدى البعض والبعض الآخر كأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا بعيد وهذا كان على المستويين الشعبي والرسمي العربي والإسلامي بل صدور إيحاءات من هنا وهناك تعطي لليهود الحق فيما يصنعون وأمريكا بما تفعل ، ردود الافعال المعبرة عن الغضب الشديد على ما أقدم عليه ترامب انطلقت عملياً من الأراضي الفلسطينية المحتلة خاصة غزة الشهادة والشهداء والقدس الأسيرة التي وقع عليها ضيم الأعداء والأخوة والأصدقاء ..
فما الذي يعنيه أن تصبح القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل إنه يعني من وجهة نظري أنها أصبحت كاملة تحت إمرة الاحتلال وسيادته سيتبعها ضغط من كل الجهات ببدء المفاوضات المتوقفة منذ العام 2014 تكون فيها القدس خارج إطار التفاوض استسلاماً للأمر الواقع الذي فرضته أمريكا تنفيذاً لرغباتها ورغبات المحتلين ومنح إسرائيل الحرية المطلقة في السيطرة والتوسّع في “عاصمتها” المعترف بها أمريكياً بالشكل التي تريده ، متجاهلة كل القرارات الدولية المتعلّقة بالحفاظ على التراث الإسلامي والمسيحي ونسف كل الحقوق المطالبة بحرية الفلسطينيين والعرب لإقامة مناسكهم في الأماكن المقدسة في المدينة؛ بحجّة الحفاظ على أمن “العاصمة”، والتي تمثّل أمن واستقرار “الدولة الإسرائيلية” و من ثم رفع الوصاية الهاشمية عن الأقصى وباقي الأماكن المقدسة في المدينة وكذلك رفع الوصايات الدولية والعربية والإسلامية عنها ، وهو ما يسعى إليه الاحتلال، ما يمكّنه من بناء قواعد عسكرية هناك تسمح بدخول الجيش الصهيوني رسمياً متى شاء لرعاية عمليات الهدم المزمع للأفصى وبناء الهيكل المزعوم عليه وقبل ذلك انهيار اقتصادي للفلسطينيين داخل المدينة المقدسة جراء البطالة التي ستنتشر في أوساطهم ، مقدمة لترحيلهم عنها لفرض يهودية الإقامة فيها دون سكانها الأصليين وهذا سيطال سكان الضفة الغربية والفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ العام 1948لإعلان يهودية الدولة بمعنى آخر إن استمر الحال على ذلك فإنني أرى وبمباركة امريكية أن هناك مجازر دموية على الطريق وترانسفير قادم لا محالة فماذا نحن فاعلون لمواجهة ما هو متوقع حفاظاً على الأمن والوجود العربي ؟؟؟؟ .
عبدالحميد الهمشري
كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
[email protected]