"يُعنى أدب السجون بالمواطن المقموع، وأبرزهم السجين السياسيّ المثقّف الذي ينشد التغيير، يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن هو محوره وموضوعه ومادّته؟ فهناك من كتب عن السجن دون أن يُعتقل أو يُسجن يومًا واحدًا وهناك الكثيرون من السجناء كتبوا الرواية أو الشعر أو القصّة القصيرة وراء القضبان دون تجربة سابقة ودون دراية بالكتابة وفنّها فأبدعوا"، هذا ما تقوله الباحثة الفلسطينيّة د. لينا حبيب الشّيخ حشمة في كتابها "أدب السّجون في مصر، سورية والعراق، الحريّة والرّقيب" وتصل إلى نتيجة مفادها أنّ المعادلة واحدة: السجين مقابل السجّان وتكاد تكون أشكال التعذيب واحدة، ومعاناة السجناء وعذابهم وأحلامهم تكاد تكون واحدة أيضًا، رغم اختلاف الانتماءات، الفكر، الزمان والمكان، هويّة المقموع والجلّاد فتتماثل التجربة وتتماهى ليبقى الكابوس واحدًا.
في أواسط نيسان الفائت وصلتني دعوة لحضور الجاهة وحفل خطوبة صمود سعدات والأسير عاصم كعبي، وفي نفس الأسبوع أهداني صديقي فؤاد (نعم، هناك أصدقاء يهدون الكتب في عصر الفيس بوك!) كتاب "صدى القيد" لأبيها أحمد سعدات!
يتناول الكتاب تجربته الشخصية في العزل داخل سجون الاحتلال، لما يقارب ثلاث سنوات بين 2009-2013، وتجارب أسرى التقاهم خلال سجنه، حيث عاش في السجن، ولكن السجن لم يعش فيه.(الكتاب صدر عن دار الفارابي اللبنانيّة ويقع في 189 صفحة، صورة الغلاف الخلفيّ والرسوم الداخليّة بريشة الفنّان مهنّد العزّة)، والكاتب يشغل منصب الأمين العام للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، من مواليد دير طريف، قضاء الرملة، المهجّرة، اختطفته مخابرات السلطة الفلسطينيّة واحتجزته في سجن أريحا لتقدّمه لقمة سائغة لسلطات الاحتلال في يوم 14 آذار2006، وحكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن 30 عامًا في يوم 25.12.2008 وما زال يقبع في السجون.
أهدى سعدات الكتاب إلى "كلّ من عانى ويعاني أو واجه ويواجه القهر والظلم والاستبداد والتعذيب والعزل والتمييز..."، وفيه يتناول سياسة العزل التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيليّ ضد سجناء الحريّة.
يحاول الكاتب تعريف العزل الانفراديّ، على أنواعه، ويصف حياة الأسير المعزول انفراديًا ومعاناته في زنزانته، محاولات تدمير نفسيّته لكونه من أشدّ أساليب التعذيب قسوة.
يتناول الكتاب الإطار التاريخيّ العامّ لسياسة العزل (تطوّر سياسة العزل الانفراديّ منذ بداية الاحتلال واتّساع المقاومة وتطوير أساليب التعذيب كإجراء وقائيّ وانتقاميّ تجاه قيادات الحركة الأسيرة لضربها)؛ سياسة العزل قبل التشريع والتوسيع (استعرض التعذيب والعزل والقتل في أقبية التحقيق، وضع الأسير في حيّز مكانيّ يتميّز بالضيق، لإبقاء الأسير في حصار جسديّ وحسّي وذهنيّ)؛الغلاف القانونيّ لتشريع سياسة العزل (يحاول تناول موقف القانون الدوليّ، خرقه وانتهاكه تجاه الأسير المعزول في محاولة بائسة لقهره والانتقام منه ومعاقبة الأهل)؛ وفي الفصل الرابع يتناول نماذج من أقسام العزل (الانفراديّ والجماعيّ، فصل أسرى القدس و48 عن أسرى الضفّة والقطاع، فصل قيادات الحركة الأسيرة وغيرها)؛ ثم يتناول مقوّمات صمود الأسرى المعزولين (نتاج صلابة انتمائهم العقائديّ والوطنيّ وقناعتهم بعدالة قضّيتهم وشرعيّة نضالهم ضد الاحتلال، ويرى أن تجربة العزل كانت عاملًا في توحيد الأسرى وذويهم)؛ وفي الفصل السادس يتناول "متفرّقات من حياة العزل" ويصوّر حالات أسرى عانوا الأمريّن من العزل)؛ وفي نهاية الكتاب تطرّق إلى "دروس مستخلصة من تجربة العزل" على حدّ تعبيره، فنادى لإعادة الاعتبار لتماسك الحركة الأسيرة ودورها الكفاحي وصلابة منظّماتها، تجنيد أحرار العالم ومنابره الدوليّة لنصرة قضيّتنا، توحيد الصفوف بعيدًا عن الانقسامات، مقاطعة محاكم الاحتلال الصوريّة، تصليب انتماء الأسير إلى قضيته وتعزيز انتمائه إلى الجماعة وقيمها وأهميّتها، وأضاف أن الهدف من خلال سياسة العزل الانفراديّ "ليس عزل الأسير عن قيم الجماعة وتفكيك انتمائه، مصدر قوّته، فحسب، بل أيضًا أن يعيش السجن داخل الأسير، بحيث تتحوّل قضبان السجن إلى حراب تتناهش صدره، وتحوّله إلى كتل فاقدة للحياة" ولذا عليه أن يشكّل عنوان عزّة وكرامة ونموذج عصيّ على الكسر أو الإحتواء وموعظته للأسير "أنّ صمودك من شأنه أن يُضعف عدوّك وأن يُفكّك شخصيّته وقيمه العنصريّة، فلا تسمح للحقد بالانتصار على قيم الإنسانيّة الخلّاقة" تيمُّنًا بما قاله يوليوس فوتشيك في كتابه "تحت أعواد المشنقة": "أية رجولة تلك التي تنهار أمام حزمة من العصي".
لا يصبو الكتاب وصف الوضع القانوني للعزل الانفراديّ ولا يشكّل سيرة ذاتيّه لكاتبه، ويلخص كاتبه القول: "أن سياسة العزل هي كسر العلاقات الاجتماعيّة للفرد وإغراق الأسير في تفاصيل الحياة اليوميّة وجزئيّاتها صرف الانتباه عن القضايا الكبرى، لكن وبقدر حرص المناضلين على تجاوز هذه التفاصيل يفرضها علينا جمود التعليمات وغباوة الشرطة، فالمطلوب من سياسة العزل الانفراديّ الاستنزاف اليوميّ إن لم نقل الساعي للأسير المعزول إلى إبقائه في حالة قلق دائم للتأثير فيه نفسيًا وعصبيًا وإضعافه سعيًا إلى تدميره نهائيًا".(ص. 142)
حين أنهيت قراءة الكتاب جاءني ما كتبه بسّام كعبي في نص سردي مفتوح بعد إضراب عن الطعام للأسرى في أيلول 2011، احتجاجًا على العزل الانفراديّ، بعنوان "جدران عازلة وقامات عالية" على لسان أخيه الأسير عاصم: "تأكّدنا بأنّنا كنّا على حقّ عندما انتصرنا على السجّان، وانتزعنا نخبة متميّزة من المناضلين، وقد عادوا إلينا من العزل الانفراديّ القاتل؛ الأسير القائد أحمد سعدات المحكوم بالسجن الفعلي ثلاثين عامًا، وقد عاش معزولًا منذ ثلاث سنوات ولم يلتق أحدًا، أصبح حاليًا بيننا ونجمنا وأشاركه الزنزانة، وألمس عن قرب عمق مناضل صلب وأحسُّ بثوريّة رفيق في التعامل بمستوى عال ووعي عميق، مع تفاصيل الحياة اليوميّة للرفاق والأسرى في المعتقل".
أرفق الكتاب بملحق سُمّي "من كشكول العزل" يصوّر صور مضيئة من واقع العزل لأسرى مرّوا بتجربة العزل ومعاناة عائلاتهم، وها هي ابنته صمود تحقّق رغبة والدها بأن تكمل مسيرة الحياة رغم أنف السجّان فتقرّر أن ترتبط بالأسير عاصم، المحكوم بالسجن 18 عامًا، ورغم العزل والأسلاك والقضبان تقول صمود يوم طُلبتها: "دائما هناك رسالة يحملها أبناء شعبنا، بأن من حقّنا أن نعيش ونحب ونفرح، رغم كل ما نعيشه ونمرّ به، فالبعد القسريّ لا يقف أمام الحياة الانسانيّة، وعلينا أن ننتزع حقّنا بالحب ونتحدى الظروف، وهذا ما حصل معي".
وأُنهي بما جاء في رسالة الأسير عاصم، الذي ذاق السجن الانفراديّ لفترات طويلة، لخطيبته: "وأنتِ يا حبيبتي الواحدة والوحيدة، يا ظلي الساكنْ في ربوعِ الحريةِ يا صمودَ الأملْ، أيامٌ مرتْ وما بيننا سوى الشوق الملهمْ بلقاءٍ ما زالَ يمتدُ ليغطي مسافاتْ الانتظار الطويلة، والتي تختصرُ عقوداً وحكاياتْ، أمماً وحضاراتْ، تاريخاً وإرثاً لا تخطه الكلماتْ، بل مشاعر صادقة ولدتْ من رحمِ المعاناة، أرسلُ لكِ كلماتي هذهِ التي تحملُ في كلِ حرفٍ فيها، أملاٍ ووعداً وشمساً وحلمْاً، علها تصلكِ وتتكحلُ بها عيناكِ اللامعتان، كوميضِ صبحٍ في خيالِ الظلامْ".
تحية خالصة وخاصة لجميع أسرى وأسيرات الحرية آملاً في إفراج قريب!
المحامي حسن عبادي