أدهشتني قوة إرادة الشهيدة رزان النجار وهي تتحدث قبل رحيلها ، بعزمٍ وإصرار عن تمسكها بحقها المشروع بأحلامها ، الذي كانت تكافح من أجله في مسيرة لم تكن تدري بأنها لن تكون مسيرة العودة بل هي كانت مسيرة الموت وبالنسبة لها هي مسيرة الشهادة ، شهادة ملاك صغيرة وبريئة لم تكن تدري ما يحوم حولها وما هي قذارة السياسة التي زجت بها في حلبة الموت لتغيبها عن الحياة وتفسح المجال بذلك لتجار الموت للتسابق والتسارع لتبني جثمانها الطاهر.
رزان النجار ملاك بريئة انتقلت روحها إلى بارئها في مشهد كانت تتحدى فيه بندقية الاحتلال الغاشمة والهمجية ، والحصار العباسي الظالم ، حيث كانت مصرة على السير باتجاه الحرية لوطنها وشعبها ولكنها لم تكن تدري بأن السماء ستفتح أبوابها لتتلقف روحها في هذه الأيام المباركة.
رزان النجار وهي تفوز بالجنة، تسابقت الدنيا من أجل إدانة قتلها ، حيث سارعت الأمم المتحدة لاستنكار ما حصل لها، وكذلك دول كثيرة فعلت نفس الشيء ، هذا عوضاً عن أن غزة بعشرات الألاف خرجت لتحملها على أعناق وأكتاف شيوخها وشبابها وشاباتها في مشهد مهيب يليق بشهادتها، ولكن يبدو بأن ذلك فتح شهية بعض المتربصين بأوجاع أهالي غزة التي هي منها ، وآلامهم ليعيدوا الكرة من جديد للمتاجرة بها.
فجأة خرج المريض المتشافي محمود عباس الذي يقدس التنسيق الأمني ويحاصر غزة وهو من حاصره رزان وقتل أحلامها قبل رحيلها ، ليتحدث لأبيها المكلوم بأنه فخور بهذه التضحية العظيمة التي قدمت رزان فيها روحها، وبأنها مثلت له محل فخر كما مثلت لشعبها ، متجاهلاً بذلك بأن خروجها كان تمرداً على الظلم الذي فرضه عليها وعلى كل أبناء جيلها.
مفارقة عجيبة لازمت مكالمة محمود عباس مع والد الشهيدة الذي كان متألماً ولكنه على ما يبدو كان غائباً عما ديور حوله ، وهو يهتف بكلمات في تقديري أن رزان لو زالت حية في هذه الدنيا وهي الآن حية عن ربها ، لصرخت ورفضت أن تفدي نفسها لرئيس هو من حاصرها وهو من كان سبباً في تعميق أزمتها ، وهو من حرمها أحلامها وطفولتها ، لا بل هو من جعلها وجعل أبناء جيلها يتناسوا طفولتهم ويذهبون لمواجهة الموت بخيارهم لا مجبرين عليه.
نعم إن محمود عباس تناسى أنه هو مارس على أهل غزة كل اشكال التعذيب والإذلال ، لا بل مارس سياسة التجويع والحرمان والإذلال مما دفعهم لتفضيل الموت على الحياة ، في حين أن رجالات منظومته يغرقون في الفساد وسرقة المال العام بدون حسيب ولا رقيب ، فهذا يتبجح بحفلات فاضحة وماجنة وذاك يبحث عن كيفية شراء المزيد من الذهب وسبائكه لتخزينه لليوم الأسود ، وآخر يحرق أحلام أبناء غزة ويشرد أطفالهم ، فهل هذا هو قدرها الذي يريده لها عباس ومنظومته؟!.
كيف لا، وأبناء غزة يعيشون اليوم ذلاً غير مسبوق في تاريخهم ، نتيجة سياسات محمود عباس الظالمة ، فهل لم يكن يدري بأن سياساته هي سبب قتل رزان وغيرها ، رزان التي كانت تحلم لأن تكون فتاة كما هي فتيات الدنيا ، تحلم وتلعب وتغرد وتسافر ، أم هي باتت عظيمة ومفخرة وهي كذلك رغم أنفه وأنوف كل منظومته ، بعد انتقالها بإرادة القدر الذي اختار لها أن تنتقل بيد الغدر الغاشمة ، وذلك إلى حياة أجمل وأفضل مما فرضها عليها محمود عباس ، حياة خالدة تنعم فيها بجوار ربها وهي تترك دنيا بائسة وفانية ، دنيا فيها غطرسة الظالم الذي يستبيح أوجاع المحتاجين ويعمقها ويزيد من عوزتهم، دنيا بات يصدق فيها الكاذب ويؤتمن فيها الخائن ويحكم فيها الرويبضة ويسود فيها المنافقين ، حتى وصل الحال لأن تصبح الضحية وجبة دسمة تشبع رغبات تجار الدم والموت بعد أن أصبحوا في عداد الموتى لتعيد لهم الروح من جديد وتضخ في أجسادهم الحياة وهم يستغلون آلام وأوجاع ضحايا سياساتهم الحمقاء، ليحصلوا من خلالها على تصاريح العبور لدور البطولة.
كيف لا، وهؤلاء المجرمون هم أنفسهم الذين لا زالوا يحرمون أطفال غزة من حليبهم ودوائهم لا بل يعملوا بكل مأ أوتوا من قوة على تعميق آلامهم وأوجاعهم.
كيف لا ، وهم من فرطوا بالوطن وقسموه وأهدروا مقدراته وحقروا علناً من تضحيات أبنائه ، ونشروا الفساد في مؤسساته ، واليوم هم أنفسهم من يلقن أب مكلوم ليعبر عن تقديم ابنته الشهيدة الطاهرة لتكون روحها فداءً لرئيس متغطرس وفاجر في خصومته مع شعبه الذي حاصره وجوعه، فأي عهر هذا ؟!، لا بل هو من قتل أحلامها في حياتها وهو من يتغنى اليوم بشهادتها ليحصل من خلالها على وسام البطولة التي لا يستحقها حيث أن رزان الملاك الغائبة هي اليوم صاحبة البطولة ولم تكن لترضى أن تفدي نفسها وروحها لمن حاصرها وزج بها لمواجهة الموت الذي خرجت إليه نتيجة الحصار الذي فرضه هذا الرئيس الذي يتغنى اليوم بشهادتها، عليها.
بقلم/ م. زهير الشاعر