تهادى أمام ناظريْه طيفُ امرأة بلا ملامح، وقد لمح أبعاده تغرق في بحر من الظلمات وتغيب في طياته.... كان الوقت ليلاً حيث تلفح وجهه نسائم أوائل ربيع قروي، تنعشه حيناً، وتغشاه من نفحاتها هدأة يغيب معها عن وجوده، فيختلُّ اتزانه، ويَهُزُّه طربٌ لا يُقاوَم، وها هو قد أطل القمر بوجه شاحب من بين شعاب الغيوم، كأنه يتعافى من مرض ألم به في زمن ليس ببعيد. أطال سعيد النظر إلى وجه القمر، حين كان يرقى درجات السماء، وتابعه حتى استقر واستوى على قبة العرش، فانزاح عن وجهه نقاب رقيق، فإذا به ينجلي في صفاء لا يخلو من حزن رقيق، وما انجلت عنه مسحة الهُزال التي تترقرق على صفحته.
توقف القمر في مكان ما، أو هكذا خُيِّلَ إلى سعيد أن القمر قد توقف، وقد أحاطت به نجوم ناعسة، تحف به في موكب جنائزي حزين، ولكنها مع هذا قد أمدت السماء بالضياء الذي يكفي للسائر أن يبصر موضع قدميه.
كان منظراً يروقه على الرغم مما فيه من دلالات الحزن، وكان منظراً يحرّك في نفسه مشاعر لا يستبين كنهها، ولا يعرف مأتاها، وهي مع هذا تحثه على أن ينهل من كأس الليل ما يلذ له منها.... فاستخف به الطرب من جديد، واشتد عليه وقعه، فانطلق لسانه يترنم بمطلع أغنية شعبية "يا زريف الطول"، كان يسمعها في القرية حين تنعقد حلقات الدبكة النسائية.... فيها ذكريات جميلة بمذاق حلو، وفيها عتاب رقيق، وفيها دعوة لتجدد اللقاء.... ليأنس الحبيبان بالتواصل بعد طول انقطاع، مشفوعة باستعطاف الحبيب، فتقصُّ عليه ما لاقاه من قسوة الأيام، وسهد الليالي.... ذلك الذي أحدثه هذا البعاد....
كل شيء في هذه الليلة يغري بالطرب على الرغم من أثقال النفس، وهموم القلب، وتقلب الفكر الذي لا يستقر على شيء.... فتفتحت في نفسه جروح الماضي وقروح الحاضر.... فسالت منها الذكريات المتباينة بين العذوبة والمرارة، وبين الرضا والتمنع، ومع ذلك فكل ما فيها محبب إلى نفسه وقلبه، يتودد إليها الخاطر ألاّ تبرح دائرة شعوره، وألَّا تتسرب من قنواته حتى يظل ممسكاً بها، محافظاً عليها، فيستطيب بها جلوسه، ويستعذب ما تجلبه من صور.
أسكرته النشوة، وتملكته الخفة، فقام وقد خلع سترته، وأخذ يقفز ويتثنى بحركات يخيل إليه أنه يرقص، لا.... بل "اللّويح في دبكة".... وانطلق صوته يغني "على دلعونة" فاكتشف بعد حين أنه لا يحسن الرقص ولا الدبكة، ولا يملك الصوت الطروب، فأَسِفَ لذلك أسفاً شديداً، ثم أخرج شبَّابَتَه وأخذ يعزف وكان عزفه جميلاً، حتى أعياه الإجهاد.... فارتمى على كومة من سيقان القمح الخضراء، فمالت إلى وجهه شعيرات السنابل تلامس وجهه بشيء من الرقة والنعومة، فامتدت يده ليمرر أصابعه خلالها، فقد تخيلها خصلات شعر أنثوية، وما كان شيء يستطيع أن يرده عن تخيله هذا، لأن الإنسان الآخر الذي يقبع في صدره يريد لهذه الشعيرات أن تكون شعرات امرأة.... حسناء.... وكفى، فهاجت لذلك ذكرياته، واضطرب له فؤاده بدقات مسموعة، أشبه بدقات ساعة هَرِمَة قد عفا عليها الزمن، وشاخت عن عمر مديد.... وتَصدَّع الجدار الآدمي، فهوى يُحدِث دوياً يَصُمُّ الآذان، ويهز البنيان، فأغمض عينيه مستسلماً لهذه التخيّلات التي يرشف منها ما استعذب وطاب.
أغمض عينيه، وأحكم إغلاقها رغبة منه في العيش تحت خيمة الخيال.... فهو لا يريد أن يرى الواقع، وكيف يريده وهو يهرب منه؟، إنه يلتمس واقعاً جديداً يصنعه صناعة، وينسجه نسيجاً خاصاً من خيالاته وأحلامه حسب حاجته. ويلقي بجسده يسترخي.... ولم يطل به ذلك الاسترخاء، إذ سرى إلى سمعه هسيسٌ رقيق بين الزروع، ولم يعبأ به بادئاً ذي بدء، ولكن هفيف ثوب رقيق يدنو، وحفيف الأقدام يقترب، ورائحة عطر تسبق صاحبها، فيعتدل في جلسته ويتشوف حوله فيرى شيئاً كأنه حلم في ليلة صيفية، فتراجع متثاقلاً، وخرج إلى شاطئ البحر الأخضر.... والطيف يتهادى رويداً رويداً.... يقترب منه.... فأعد لنفسه مقعداً على حجر، هو جزء من صخرة تحفظ في ذاكرتها تاريخ نوح. جلس فوق الصخرة، ينظر إلى هذا الطيف المقبل عليه، إنه طيف جميل أنيق، فيه هيأة امرأة ترتدي ثوباً قرمزياً فضفاضاً بوجه صبوح، ولكنها بلا ملامح في إطار من شعرها الناعم الذي أسلم نفسه إلى كف النسيم، يتطاير على كتفيها بشيء من الفوضى المنظمة، اقتربت منه بخطوات رشيقة، وعلى بُعد مناسب توقفتْ، وانفرجتْ شفتاها عن ابتسامة مُهَدِّئَة للأعصاب، ومًطَمْئِنَة للقلوب، وقالت وقد سرى صوتُها نغماً حلواً ليس له مثيل في عالم الأصوات والنغم:
- مَنْ أرى؟.
اعترَتْه دهشةٌ لا تخلو من الفزع حين رآها تقف أمامه وقد وضعتْ يديها على خاصرتيها، وهزتْ جذعها بحركة لعوب. فرفع رأسه إليها قليلاً مأخوذاً بدهشة كبرى ألمَّت به، وما زالت أصابع يديه تتشابك، تضغط كفُّ إحداهما على الأخرى وكأنه يلوذ بهما من خوف اعتوَر قلبَه.... فأعادت:
- مَنْ أرى؟.
تلعثم قليلاً، وابتلع ريقه مرات، وقال وفي صوته بُحَّة المرتبك الخائف:
- أنا....
- من أنت؟.
- أنا، هو أنا.
- ما اسمك؟.
- لا أعرف.
- هويتك؟.
- اسألي أمي.
- وأين أمك؟.
- محنطة في كنوز الملك سليمان.
- ماذا تقول؟.
- ما سمعتِ.
نظرت إليه بعينين تردَّدَ فيهما برق خاطف، وسألت في شيء من النزق والتبرم:
- ابنُ مَنْ أنتَ؟...
- اسألي جدِّي الأعلى، يعطيك صحيفة الأنساب.
- ولكني أسألكَ أنتَ.
- لا أدري... ولكنَّ جَدِّي يدري.
- مَن جَدُّكَ يا هذا؟ صِفْه لي.
- لم أره، ولكن أمي قالت إن اسمه " أربع "، رجل عملاق وزعيم بني عَناق الكنعانية.... وأنا سليله.
- ومن أي القرى أنتَ؟.
- من قرية أربع الكنعانية.
لوَتْ شفتها السفلى وقالت مستنكرة:
- لم أسمع بقرية هذا اسمها.
- يبدو أنكِ لم تقرئي تاريخ قريتي في التوراة، وبخاصة في سِفر يشوع.
- وما دخل يشوع فيما نحن فيه؟.
- إنه أُسُّ البلاء، لقد ظلمني حين قسَّم الأرض وأعطى قريتي لسبط يهوذا، ثم أعطاها لـ " لكالب بن يَفُنَّا" مكافأة له على.......
فقاطعته غضبى ، وقالت:
- لماذا تأخذني إلى بعيد، أنا أسألكَ عن نفسكَ؟.
- أنا ابن هذه القرية التي سماها يشوع " حبرون " . وأسفي! أن جرى وراءه الجاهلون من قومي حين اعتمدوا اسمها اليشوعي وتركوا اسمها العربي الكنعاني.
- وكيف لي أن أصدقكَ في انتمائكَ لهذه القرية وأنت بلا شاهد إثبات؟.
فأشار إلى الحجر تحته وقال:
- شاهدي هذا فاسأليه يقص عليك أصدق الأنباء، استمعي إلى رواية الأرض وتشممي فيها رائحة عطر الأجداد والجدَّات، استنطقي ما حولها من تلال وجبال، اسألي أشجار التين والزيتون، وأشجار النخيل والرمان.... وتلك الشجرة التي تمد ظلها في صحن دارنا.... إنها شجرة التوت المتجذرة في أرضي، زرعها جدِّي قـبل زمـن الخـروج، إنها الشجـرة التي استراح في ظلها " أبرام " ومعه زوجه " ساراي" عندما مرَّ بهذه الأرض وهو عابر سبيل في أرض غربته.
لوت شفتيها مستنكرة، وبان الغضب على قسمات وجهها وقالت:
- هل أنت مخبول؟.
- أراك تتحدثين بلغة أهل هذا الزمان.
- بالله عليك.... قل لي مَنْ أنتَ، وكفى....
- انظري إلى رسمي.... انظري إلى ما يميزني من علامات.... فأنا الذي له عين تبكي حُزناً، وعين تضحك هُزءاً.... وأَمْيَزُ ما بي شرخ في البُنْيَة، فهل علمتِ من أنا....؟.
- أنا لست عرّافة، ولم أمارس الكهانة.
- ماذا تريدين مني أيتها....؟.
- لا شيء.... لقد نبهني إليك جلوسك وحدك في جفن الليل....فوددتُ مسامرتك....
- لقد كُتب عليَّ أن أعـيش غـريباً وحيداً بفـتـوى من مفــتي الـديـار المتحـدة .... تـنفـيـذاً لـرغـبة
" ربِّ الجنود " وربِّ أرباب العرب مواطأة لـ " يَهْوَه " الإله القومي لليهود، لغرض في نفس يعقوب. فدعيني أرثي بعضي لبعضي.
توقف لحظة وابتلع ريقه ثم قال:
- ولكنكِ لم تخبريني مَنْ أنتِ...
- أنا طوّافة.... اتفقد الخَلْق....أتحسس أوجاعهم ومنغصات حياتهم، وأُسري عنهم، فرأيتك ترقب القمر وحدك.... فرغبتُ في التحدث إليكَ، ولكنكَ تبدو متعَباً بالقَدْر الذي لا يسمح لي بمواصلة الحديث معك، وإني سآتيكَ ليلةً يصفو فيها القمر من كل شائب ومن كل كَدَر.... فما رأيُكَ؟.
- موافق ... وإني لمنتظركِ في داري التي حتماً ويقيناً أني سأعود إليها، وسنجلس معاً في ظل شجرة التوت.
- إلى اللقاء...
نشرت جناحيها، وارتفعت قليلاً قليلاً وهو مازال في دهشة مما يرى.... وأخذ يتبعها ببصره حتى غابت وراء الغيوم، حينها ندَّتْ منه صيحة تحمل أوجاع الزمان، وقال مخاطباً اللاشيء:
- تُرى.... هل نضبَ كلُّ شيء؟، أم مازال في الكأس بقية....؟!.* اهـ .
بقلم/عبدالحليم أبوحجاج