طرح مرض الرئيس محمود عباس الذي تماثل للشفاء - الذي نهنئه بالسلامة ونتمنى له الصحة وطول العمر - مسألة الخلافة بقوة، لا سيما في ظل تقدمه في العمر، ودخوله الشهر الماضي المستشفى ثلاث مرات.
رافق مرض الرئيس قلق شديد على مستقبل السلطة ومجمل النظام السياسي، جراء غموض المشهد عمن سيخلفه، وهل سيتم ذلك بسلاسة، أم من خلال اقتتال قد يفتح أبواب الفوضى التي يمكن أن تطيح بكل شيء، وذلك بسبب غياب المؤسسة الفلسطينية القادرة على سد الفراغ الرئاسي والقيادي في حال مرض الرئيس أو وفاته أو استقالته، وفي ظل تركّز السلطات في يد شخص واحد.
في هذا السياق، انتشرت إشاعات عن حقيقة مرض الرئيس، واشتعال حرب الخلافة، وبروز أسماء من داخل فتح أساسًا ومن خارجها، وعن التسابق على شراء السلاح وتخزينه من قبل المتنافسين على الخلافة.
الخشية من رحيل الرئيس؟
لماذا يؤدي مرض الرئيس والخشية من رحيله المفاجئ إلى هذا القلق الكبير على مصير السلطة؟
الجواب بكل بساطة: ليس بسبب عدم وضوح آلية انتقال السلطة في حال حدوث شاغر، على أهمية ذلك فقط، وإنما المقصود أيضًا، وهذا هو الأهم، غياب المؤسسات القوية، وعدم وضوح هوية الخليفة أو الخلفاء في ظل عدم تعيين نائب ليحل محل الرئيس خلال الفترة الانتقالية إلى حين إجراء الانتخابات، ما يزيد الغموض حول مستقبل السلطة، لا سيما بعد وصول الإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، وعدم اعتماد إستراتيجية جديدة، وتعاظم المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية، لا سيما في ظل "صفقة ترامب".
كما أن المقصود عدم وجود اتفاق، بسبب الانقسام، على تطبيق الآلية القانونية التي اعتمدت بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات، إذ جرى حينها تطبيق ما هو وارد في القانون الأساسي للسلطة، وقد تسلم روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الرئاسة لمدة ستين يومًا جرت بعدها انتخابات رئاسية رشحت فيها حركة فتح محمود عباس للرئاسة بعد أن اختارته رئيسًا للحركة، وفاز في الانتخابات الرئاسية من بين عدد من المرشحين.
كما اختارت حينها اللجنة التنفيذية للمنظمة محمود عباس رئيسًا لها، وذلك تطبيقًا لما هو وارد في النظام الأساسي للمنظمة الذي ينص على أن اللجنة التنفيذية وليس المجلس الوطني هي التي تختار رئيسها.
أما في الحالة الراهنة، فهذا الأمر متعذر، فكيف يمكن أن يقوم رئيس لمجلس تشريعي غائب ومغيّب ينتمي إلى حركة متهمة بتنفيذ "انقلاب" برئاسة الفترة الانتقالية، وهذا أمر سيكون كذلك محل رفض إسرائيلي وعربي ودولي، أحببنا ذلك أم كرهناه.
أسباب عدم تطبيق سيناريو خلافة عرفات؟
لماذ لا يُطبق نفس السيناريو الذي حصل بعد وفاة الرئيس عرفات في "فتح" والسلطة والمنظمة، في حال حدوث شاغر بسبب وفاة الرئيس، أو تعذر قيامه بالمسؤوليات المناطه به؟
إن هذا الأمر ممكن بصعوبة في "فتح" بعد تعيين نائب لرئيس الحركة، وكذلك في المنظمة، فاللجنة التنفيذية هي التي تنتخب رئيسها. أما بالنسبة إلى السلطة فهذا الأمر صعب جدًا، إلى درجة الاستحالة، للأسباب الآتية:
أولًا: عدم وجود شخصية وازنة متفق عليها أو تحظى بالأغلبية الكبيرة، ليس داخل "فتح" والمنظمة فقط، فهذا لم يعد كافيًا، وإنما لا بد أن تحظى بموافقة حركتي حماس والجهاد، ومن هم خارج إطار المنظمة، وهذا الأمر لم يكن مطروحًا بهذا الشكل عند اختيار ومن ثم انتخاب خليفة عرفات، فعند اختيار محمود عباس خليفة له لم تكن "حماس" في السلطة، كما لم تكن "حماس" والجهاد موقعتين على اتفاقيات وطنية تنص على انخراطهما في المنظمة، بدءًا من إعلان القاهرة في آذار 2005، مرورًا باتفاق القاهرة 2011، وانتهاء باجتماع اللجنة التحضيرية لعقد المجلس الوطني التوحيدي في بيروت بمشاركة جميع الموقعين على هذه الاتفاقات في كانون الثاني 2017.
ثانيًا: عدم وجود عملية سياسية متفق عليها من الأطراف المحلية والعربية والدولية، بما في ذلك إسرائيل، إذ انطلقت في تلك الفترة خارطة الطريق الدولية المعدلة، بعد الملاحظات الإسرائيلية عليها، التي أدت إلى عملية سياسية جديدة أعادت إنتاج أوسلو بشكل أسوأ.
إن وجود هذه العملية سهّل التوافق على محمود عباس. أما الآن فالوضع على العكس من ذلك، فالعملية السياسية المطروحة هي "صفقة ترامب" المرفوضة من العالم كله باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول، الأمر الذي يُصعِّب أي عملية انتقال للسلطة، فواشنطن وتل أبيب تريدان تطويع الرئيس محمود عباس، أو تشجيع وتنصيب قيادة جديدة تقبل أو تتعايش مع الصفقة/المؤامرة، ومن دون ذلك لن تعطيا الضوء الأخضر لتجاوز مسألة انتقال السلطة بسلاسة.
ثالثًا: وجود الانقسام الذي تعمّق عموديًا وأفقيًا، وازدهر في هذه الأيام بعد وصول الجهود المصرية لرعاية الاتفاق الأخير إلى الطريق المسدود، لدرجة أنها بحاجة إلى عملية إنقاذ حتى لا تصل إلى إعلان فشلها.
إن هذا السبب مهم، لأن أي عملية انتقال للسلطة حتى تكون شرعية بحاجة إلى الحفاظ على المصالح والحقوق والأهداف أولًا، وإلى وفاق وطني ثانيًا، وإلى توحيد المؤسسات المنقسمة على أسس مهنية ووطنية وليست فصائلية ثالثًا، فضلًا عن الاحتكام إلى الشعب في انتخابات حرة ونزيهة تُحتَرمُ نتائجها رابعًا .
خلافة خلف الكواليس
لا تنفع حالة الإنكار للواقع الهش والمعرض لاحتمالات أحلاها مر التي نشاهدها عند القيادة الفلسطينية، من خلال الزعم بأن المؤسسات قوية واستعادت شرعيتها بعد عقد المجلس الوطني، وما قيل ويقال في أروقة المجلس وغيرها من الأروقة أن الحل الدستوري متاح، من خلال اللجوء إلى المحكمة الدستورية المطعون في دستوريتها وشرعيتها، إذ إن هناك أخبارًا عن طلب رُفِعَ إليها لتقديم رأي قانوني حول حل المجلس التشريعي وصوابية اعتبار المجلس المركزي هو البرلمان. ففكرة حل المجلس التشريعي أصبحت مطروحة بشكل أكبر بعد قيام المجلس الوطني بتفويض جميع صلاحياته للمجلس المركزي، وهي فكرة في منتهى الخطورة وغير واردة في القانون الأساسي للسلطة، فكيف لمجلس غير منتخب أن يحل مجلسًا منتخبًا.
إن هذه الاحتمالات المطروحة في الكواليس الفلسطينية تتناسى الأمور الآتية:
أولًا: إن تفويض صلاحيات المجلس الوطني للمجلس المركزي غير قانوني وغير متوافق عليه وطنيًا، كما أنه مطعون في شرعيته، لأنه بحاجة قبل الإقدام عليه إلى تعديل في بنود النظام الداخلي للمجلس الوطني، بما يسمح بذلك، وهذا لم يحدث أثناء انعقاد "الوطني"، فلا يعقل أن يفوض الأصل الفرع بكل شيء وينهي وجوده، فالوكيل لا يوكّل، وإذا وكّل يوكّل جزءًا من صلاحياته ولغرض محدد ولفترة مؤقتة. لذا، فإن التفويض إجراء باطل لا بد من التراجع عنه وليس الإمعان في الخطأ.
ثانيًا: الانتهاكات الواسعة للنظام الداخلي للمجلس الوطني أثناء انعقاده والتحضير له، كما ظهر في العديد من المظاهر، منها منح العضوية لأعضاء كيفما اتفق، ومنعها عمن يستحقها، وشطب أعضاء منهم من كانوا أعضاء لجنة تنفيذية ومجلس مركزي لعشرات السنين، والاستمرار في السطو على حصة المستقلين من خلال وضع أعضاء من تنظيمات بدلًا منهم في اللجنة التنفيذية والمجلسين الوطني والمركزي، وعدم انتخاب رئيس الصندوق القومي من المجلس مباشرة كما ينص النظام الداخلي، وتغيير عدد أعضاء اللجنة التنفيذية من 18 إلى 15، والحديث عن رفع العدد إلى 21 من دون تعديل النظام الداخلي.
ثالثًا: عدم دعوة حركتي حماس والجهاد ومقاطعة الجبهة الشعبية وأكثر من 150 عضو مجلس وطني، معظمهم من المنتخبين من الشعب، يجعل خيار اللجوء إلى المجلس المركزي المطعون في شرعيته ليس حلًا، بل إيغالًا بالمأزق الشامل أكثر وأكثر.
ومن السذاجة هنا، اعتبار مطالبتهم بالانضمام إلى اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي مطالبة جدية، أو ممكن الاستجابة لها إن كانت جدية، فمن قاطع المجلس الوطني لن يسلم بنتائجه بعد كل الانتهاكات التي ارتُكِبَت.
البديل ... حوار وطني
البديل قائم، ويتمثل في الشروع في حوار وطني شامل، تُوسَّعُ دائرة المشاركين فيه لتشمل المشاركين والمقاطعين للمجلس الوطني، وضم ممثلين أكثر بشكل ملموس عن الشباب والمرأة والشتات وفق معايير موضوعية، تضمن أوسع وأغنى تمثيل. حوار يستهدف التوصل إلى رزمة شاملة تتضمن البرنامج الوطني الواقعي بعيدًا عن الاستسلام والمغامرة، وأسس الشراكة، وتحديد العلاقة بين المنظمة والسلطة وأي سلطة نريد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني حقيقي توحد مؤسسات السلطة، والتحضير لعقد مجلس وطني توحيدي، والذهاب بعد ذلك إلى انتخابات حرة ونزيهة وضمان احترام نتائجها، استنادًا إلى اتفاقات المصالحة السابقة، مع السعي لتطويرها من خلال سد الثغرات، وحل العوائق التي ساهمت في عدم تطبيقها.
من يقول إن البديل عن هذا البديل هو اللجوء إلى الانتخابات العامة فورًا تحت الاحتلال، وفي ظل الانقسام الذي يتعمق أفقيًا وعموديًا والتحريض والإقصاء المتبادل، سيكون لنا وقفة معه في المقال القادم.
بقلم/ هاني المصري