منذ هزيمة حزيران/1967 الساحقة التي حلت بنا كأمة عربية وكشعب فلسطيني كان يراودنا كفلسطينيين حلم بأن تحرر الجيوش العربية فلسطين،وتعيد شعبنا الفلسطيني الى أرضه التي طرد وشرد منها بالقوة بفعل العصابات الصهيونية،ولكن كانت الصدمة كبيرة،حيث احتل ما تبقى من فلسطين وأراضي ثلاث دول عربية هي مصر وسوريا والأردن....ومنذ ذلك التاريخ حدثت تطورات ومتغيرات كثيرة سواء في بنية وتركيبة وقيادة ودور ووظيفة النظام الرسمي العربي او على صعيد ثورتنا ومقاومتنا وقضيتنا...حيث شعبنا حتى هذه اللحظة ما زال يواصل مشروعه الطويل بالكفاح والنضال من اجل نيل وإستعادة حقوقه المغتصبة وتحقيق حلمه بالحرية والإستقلال وعودة لاجئيه الى أرضه التي طرد وشرد منها،ولكن يبدو أنه بعد سبعين عاماً من الكفاح المعمد بشلال دم نازف ومستمر نزفه،لم يقترب بعد من تحقيق هذا الحلم،بل نجد ان المؤامرات والأخطار المحدقة بقضيتنا ومشروعنا الوطني كبيرة وخطيرة جداً،حيث يتهدد قضيتنا خطر التصفية والشطب،في ظل متغيرات عاصفة تشهدها المنطقة والإقليم والعالم،فهناك إدارة أمريكية تحكمها عقلية البلطجة والعنصرية والإخلاص لتعاليم ما يسمى بالأباء المؤسسين للحركة الصهيونية اكثر من الصهاينة انفسهم،هذه الإدارة التي تميزت عن الإدارات الأمريكية السابقة،ليس فقط في الإنحياز التاريخي الى جانب دولة الاحتلال،بل وجدنا انها إنتقلت للمشاركة المباشرة في العدوان على شعبنا،حيث كان الرهان عليها من قبل البعض فلسطينياً ومن منّ يسمون أنفسهم بعرب الإعتدال،ان تطرح مشروعاً لحل القضية الفلسطينية يلامس الحد الأدنى من حقوق شعبنا في دولة مستقلة كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام /1967 وعاصمتها القدس ،ولكن وجدنا ان الإدارة الأمريكية المتصهينة،تتهيأ لطرح خطة لتصفية القضية الفلسطينية وشطبها،ما يسمى بصفقة القرن،وقد ظهرت ملامحها ومعالمها الجوهرية في خطوات عملية مارستها الإدارة الأمريكية على الأرض،بالإعتراف بأن القدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال،وكذلك نقل سفارتها من تل ابيب الى مدينة القدس،والسعي لتصفية وكالة الغوث واللاجئين " الأونروا" عبر تقليص مساهم أمريكا المالية فيها للنصف،والسعي لتجفيف مصادر دعمها المالي والغاء توريث صفة اللاجىء،ومنع تمرير أي قرار في مجلس الأمن الدولي يتخذ بحق إسرائيل،او أي عقوبات قد تفرض عليها،نتيجة لخرقها السافر للقانون الدولي ومواثيقه واتفاقيته،او أي قرار من شانه ان يمكن الشعب الفلسطيني من إستعادة حقوقه ونيل حريته وإستقلاله،ولاحظنا كيف رفضت أمريكا القرار الأخير الذي وزعته الكويت على أعضاء مجلس الأمن الدولي للتصويت عليه،من اجل توفير الحماية الدولية المؤقتة لشعبنا في الضفة والقطاع.
اما على الصعيد الرسمي العربي ،فوجدنا بأن النظام الرسمي العربي دخل مرحلة من التعفن والإنهيار غير المسبوقين،لكي يصبح جزءاً من هذا النظام متحالفاً ومطبعاً لعلاقاته علناً مع دولة الاحتلال،ومعتبراً إياها ليس عدواً لأمتنا العربية،وبلغة وزير الإستخبارات السعودي السابق أنور عشقي،"هي عدو مظنون وليست كايران عدو مضمون".
إن تلاعب تلك الأنظمة العربية ومجموعة الحكام العرب الجدد بالمصلحة العربية القومية وتصنيفها بأنها رابطة تخلو من أي معنى ولا أهمية لها ، قد خلق وضعاً ساهم بالمزيد من الضعف العربي وزاد من سطوة الأعداء إلى الحد الذي لم يُبْقِ لتلك الأنظمة من حليف إقليمي مُحْتـَمل سوى إسرائيل . فمعاداة إيران وتركيا والإلتصاق بأمريكا يشير إلى أن خيارات تلك الأنظمة إفتقدت إلى الحصافة والرؤيا السليمة لأن منطق الأمور يفترض بأن عدو عدوي هو صديقي.
وبالإنتقال الى حالتنا وواقعنا الفلسطيني،نجد انه رغم كل التطورات والمتغيرات والأحداث والأخطار المحدقة بقضيتنا الفلسطينية،وما ندفعه من فاتورة يومية دماء وشهداء وتضحيات،لم تنجح في خلق حالة من النضج والمسؤولية العالية عند طرفي الإنقسام فتح وحماس،بضرورة التوحد وإنهاء الإنقسام الذي يفعل فعل السرطان في الجسد في ساحتنا الفلسطينية،من حيث الضعف وتكريس الإنقسام السياسي والإداري والإنفصال الجغرافي،بل نجد ان الأمور تزداد صعوبة وخطورة،ففي ظل العقوبات المالية والإدارية التي فرضتها السلطة على قطاع غزة المحاصر أصلاً والمفتقر الى أدنى الخدمات الإنسانية الأساسية من كهرباء وماء نظيف وصرف صحي ،وعدم توفر العلاج والدواء والفقر والبطالة...الخ،وما تبع ذلك من مسيرات للعودة مستمرة ومتواصلة للجمعة العاشرة،حيث دفع فيها شعبنا هناك أكثر من 120 شهيد و 12 ألف مصاب،مسيرات هدفت لفك ورفع الحصار عن شعبنا،وتذكير العالم بالمأساة التي يعيشها شعبنا،نتيجة انتقائية وإزدواجية هذا العالم الظالم،المتواطىء مع دولة الاحتلال،بعدم تمكين شعبنا من العودة الى أرضه بعد سبعين عاماً من اللجوء والتشرد،هذه المسيرات التي اعادت قضيتنا الى صدارة الإهتمام العالمي،جعلت الكثير من الأطراف عربية ودولية تتحرك من اجل طرح مشاريع ومبادرات،من شانها ان تمنع إنفجار الأوضاع في قطاع غزة،تلك المشاريع تحمل طابعاً إنسانياً وإغاثياً وليس سياسياً،فهم لا يريدون للقطاع ان ينفجر في وجه دولة الإحتلال،فالمحرك الأساس لهذه المشاريع والمبادرات،ليس شعب يحاصر ويقتل تدريجياً،بل امن دولة الاحتلال ووجودها.
رغم كل هذه اللوحة المأساوية ،ولكن نجد ان هناك ضوء في أخر النفق،وهناك تحولات إيجابية،حيث تؤشر التطورات الأخيرة في العالم العربي على بداية هذا التغير . فَمـِنْ وَسَطْ أكوام العَفـَنْ السياسي والأخلاقي ورواسب الفساد ودموية الإستبداد وإذلال الشعوب بدأنا نشاهد الآن بوادر التغيير الايجابي تطل بوجهها المبتسم الخجول ولكن الصارم وإن كان لأسباب مختلفة وبصور متباينة في كل مِنْ العراق ولبنان وفلسطين وتونس والأردن والكويت مُبشِرَةً بإبتداء حقبة جديدة وقرب الإنتهاء من مسيرة الفساد المالي والانحلال السياسي العربي والإستبداد والظلم حيث وصل الجميع إلى مرحلة الحسـم .
نعم ما تعرضنا له من نكسات ونكبات كفلسطينيين،وما تعرض ويتعرض له الوطن العربي من حروب الإخوة " الأعداء" والتدمير الذاتي،نتيجة المشاريع والمخططات الإستعمارية الجديدة والتي تقف على رأسها أمريكا وقوى الإستعمار الغربي،من اجل خلق سايكس- بيكو جديد في المنطقة،يضمن لإسرائيل البقاء كدولة متسيّدة في المنطقة،بعد أن يجري فك الجغرافيا العربية وإعادة تركيبها على تخوم المذهبية والطائفية والثروات،وبما ينتج كيانات اجتماعية عربية هشة مرتبطة باحلاف امنية وعسكرية مع إسرائيل،فاقدة لإرادتها وقرارها السياسي ،ومرتبطة اقتصادياً بالمركز الاقتصادي العالمي في واشنطن.
هذه النكسات والنكبات،يجب أن تكون حافزاً لنا،لكي ننهض من جديد كعرب وفلسطينيين،واضعين مصالحنا وأمن أمتنا فوق أي اعتبارات أخرى لكي نعيدها الى محور التاريخ والفعل والوجود الفاعل والمؤثر،بعد هذا التغييب الذي سببه قيادات متكلسة ومتنمطة همها الأول والأساس عروشها ومصالحها الذاتية والقبلية والعشائرية.
بقلم/ راسم عبيدات