”ظهر اليوم الأول من حزيران/يونيو 2018، كانت جولتي الواسعة في مخيم اليرموك، بين أزقته، وحواريه، بين أكوام الركام والدمار، ونحن نستعد للعودة الكاملة لليرموك، نستعد أن نعيش بين أنقاض بيوتنا، أن نجلس بين وعلى أكوام الركام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا… وهذا ليس النزع الأخير، إنه نداء الأمل والحياة المتجدد في المسار الفلسطيني والسوري.”
على ركام الحلم لا بد أن نُعيد صياغة الأمل والمستقبل، الحلم الذي لم ولن يتحطم، ما دامت حوامله موجودة بين الناس في سوريا وفلسطين، بالرغم من أهوال المآسي والخطوب التي أصابت سوريا في محنتها.
من يدخل الآن إلى مخيم اليرموك، إلى أزقتهِ وشوارعهِ، وحاراتهِ، محاولا المرور بين أكوام الركام، يُدرك ويسأل على الفور أيِ جريمة ارتكبت بحق مخيم اليرموك، العنوان، الرمز، الذي يختصر تاريخ فلسطين ومأساة الاقتلاع منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن.
كل لُغات الدنيا، وكل الكلماتِ وبحرها، عصية على تدوين وجع اليرموك بعد محنته الأخيرة، وعاجزة على رسم صورة الواقع القائم بعد الكارثةِ الكبرى التي لحقت به، وكأنها الزلزال المدمر، أو قنبلة هيروشيما النووية الأميركية.
مشيت في شوارع المخيم، وعلى أكوام الركام والدمار، وكنت أعتقد أنَّ تلك الشوارع والحارات قد لا تعرفني بعد الكارثة، لكنها ذكرتني وعرفتني، واستذكرت معي كل أبناء اليرموك الذين أمسى الجزء الكبير منهم على امتداد المعمورة باتجاهاتها وأصقاعها الأربعة بعد التهجير في مسارات الأزمة السورية.
سرت في شوارع مخيم اليرموك المنكوبة، ولم تختفِ كلماتِ أهله ومواطنيه، ولهجتهم الفلسطينية الجليلية عن مسامعي، فتسمع كلمة (خيّا) و(خيّتا) و(يمّا)، ومفردات اللهجة الفلسطينية مع الداخلين لليرموك لتفقد دمار بيوتهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تلك اللهجة التي يُتقنها سوريو مخيم اليرموك ويعشقوها، فقد باتت عندهم لهجة محببة تخص فلسطين الجزء الجنوبي والحيوي من سوريا الطبيعية، وقد بزّوا أبناء فلسطين في إتقانها.
ظهر اليوم الأول من حزيران/يونيو 2018، كانت جولتي الواسعة في مخيم اليرموك، بين أزقته، وحواريه، بين أكوام الركام والدمار، ونحن نستعد للعودة الكاملة لليرموك، نستعد أن نعيش بين أنقاض بيوتنا، أن نجلس بين وعلى أكوام الركام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا … وهذا ليس النزع الأخير، إنه نداء الأمل والحياة المتجدد في المسار الفلسطيني والسوري.
اليرموك المظلوم والمكلوم، بأهله وسكانه وأصحابه وعموم مواطنيه، دفع ضريبة كبيرة لحماية جنوب دمشق وحي الميدان وتوابعه، وقد تآمرت عليه كل شياطين الأرض وأبالستها، لكن صوت الحق يأبى أن يموت مهما تَجَبَّرَ المتجبرون.
يا ويحنا من جريمة مخيم اليرموك، ستبقى وصمة عار، على جبين من ارتكبها عندما استباح اليرموك، وعمل على تشريد أهله وعموم مواطنيه من سوريين وفلسطينيين، فشياطين الأرض اجتمعت لتدمير مخيم اليرموك، ومسحه عن الوجود لما يمثله من معنى، ومن بُعد، ومن رمزية وطنية وقومية بامتياز.
الآن، حارات مخيم اليرموك، وبعد المقتلة، حزينة، باكية، متألمة، لغياب أبنائها، وغياب الحياة والحيوية والحركة التي ميّزت مخيم اليرموك عن غيره من أحياء مدينة دمشق، على امتداد العقود الثلاثة الماضية، وهو الحي الدمشقي الذي كان يعيش صخب الحياة وزخمها، ولا ينام أبدا.
حارات اليرموك حزينة، حيث ما زالت تتدلى على الجدران الواقفة، والمدمرة، وعلى الركام، أسماء قرى ومدن فلسطين، التي عشقها الأشقاء السوريون أكثر من الفلسطينيين، شارع صفد، شارع حيفا، شارع اللد، شارع عكا، شارع القدس، شارع بئر السبع … ومدارس الأونروا التي تحمل أسماء مدن وقرى وبلداتِ فلسطين أيضا.
حارات اليرموك حزينة، تلك الحارات والشوارع التي كانت تغص بـ(اللافتات) التي تدعو للنشاطات الثقافية والعلمية في المراكز والأندية، والمعاهد التربوية والتعليمية التي فاق عددها عن ما هو موجود بكل مدينةِ دمشق.
يا ويلتنا على من أصابَ ومَسَّ مثوى شهداء فلسطين، حيث يرقد الآلاف من فدائيين فلسطينيين وعرب وأمميين سقطوا على الدرب إلى فلسطين، فتم تخريب القبور وتكسير شواهدها، في عمل إجرامي. فقد أرادوا قتل تاريخ اليرموك، من خلال المَسِّ بقبور الشهداء، الذين تم تشييعهم على مدار سنوات الكفاح الوطني الفلسطيني المعاصر، في أجواء صدحت بزغاريد النساء، والفرقة النحاسية لموسيقا الثورة، التي كانت تعزف في وداعهم ألحان الأناشيد الوطنية (جابو الشهيد جابوه … يا فرحة أمه وأبوه).. ونشيد عائدون ونشيد فدائي …. في مسيرة مُكتظة، كُتبت بدم زهرات الشباب والمناضلين، مسيرة حاشدة، مسيرة متواصلة على درب الخلاص والجلجلة، كان الأمل فيها وسيبقى سيد الموقف، مع مرور تلك السنوات الطويلة منذ أن حمل أبناء مخيم اليرموك على أكتافهم توابيت الشهداء الملفوفة بالعلم الفلسطيني لأول مرة منذ نكبة عام 1948.
لقد رقدت جثامين القوافل الأولى من شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة على أرض اليرموك في مثوى شهداء فلسطين، شهداء البدايات الصعبة قبل وبعد العام 1965: علي الخربوش، مفلح السالم، محمد حشمة، منهل توفيق شديد، أبو علي المدني… ورقدت جثامين أبرز رجالات فلسطين في الثورة المعاصرة: الشهيد وليد أحمد نمر (أبو علي إياد)، الشهيد الحبيب القائد الرجل زهير محسن (أبو حسن)، وممدوح صيدم، وسعد صايل، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وطلعت يعقوب، ومحمد عباس (أبو العباس)، وفتحي الشقاقي، ونمر صالح، وجهاد جبريل، وفهد عربي عواد، وإحسان سماره (أبو القاسم)، والشاعر عبدالكريم الكرمي، ووائل زعيتر، ويعقوب أبو غزالة …
وفي مواكب تشييع الشهداء، ومن بداية مداخل مخيم اليرموك وحتى مثوى الشهداء، تلك المسافة سار عليها معا، الرئيس الراحل حافظ الأسد والرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات مشيا على الأقدام بين الناس، يُحيط بهما مئات المقاتلين من عموم الفصائل والقوى الفلسطينية، ولمسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات، في تشييع الشهيد زهير محسن (أبو حسن) قائد منظمة الصاعقة ورئيس الدائرة العسكرية في منظمة التحرير الفلسطينية في تموز/يوليو 1979. فهو المخيم الذي شَهِدَ أكبر جنازات وداع في تاريخ سوريا بأسرها.
إنه المخيم المحطة، محطة العودة إلى فلسطين، وكما قال الشهيد موسى شعيب: قتلوك يا يرموك، يا عار بنادقهم، وأنت خبز الفقراء اليومي. حذفوا اسمك من دفاترهم، ولم يدروا أن اسمك غابة أسماء، ولم يدروا أن العُشبَ الأخضر ينمو بين الركام وأضرحة الشهداء.
علي بدوان
صحيفة الوطن العمانية
الجمعة 8 حزيران 2018