المقاومة الشعبية وممارسة حق العودة

بقلم: الأسير منذر خلف مفلح

يسجل للشعب الفلسطيني وعبر النضال المعاصر منذ بداية القرن الماضي قدرته الفائقة والحية والإبداعية على اشتراع أشكال النضال، في مواجهة الركود السياسي وفي مقاومته للاحتلال العسكري "بريطانيا والعدو الصهيوني" حيث سجل أشكالاً مختلفة من انتفاضات وهبات شعبية وجماهيرية أدت أو كادت تؤدي لتغييرات إستراتيجية هامة في فلسطين، ولا مجال هنا للدراسة أو الاستفاضة في التاريخ فهو موثق في كتب التاريخ التي تناولت الحراك الشعبي للشعب الفلسطيني خلال الفترة المذكورة، وفي مواجهة العدوان العسكري للاحتلال الصهيوني، هذا الاحتلال الذي يلجأ لاستخدام إستراتيجية عسكرية مفرطة تقوم على الهجوم العسكري المباشر وتستند إلى مفاهيم مثل (الردع، قوة السحق، والجدار الحديدي.. الخ، من المفاهيم العسكرية)، أي تركيز كافة نقاط القوة الرئيسية والأساسية لديه، لمواجهة شعب وجمهور فلسطيني أعزل أو شبه أعزل وفي أضعف حالاته من حيث موازين القوى العسكرية، حيث لا يمتلك القوى الكافية حتى للجوء لإستراتيجية دفاع استراتيجي متحرك كباقي الشعوب والثورات، وذلك يعود للسيطرة شبه الكاملة للجيش الصهيوني للأرض واحتلالها بالقوة العسكرية، وعدم وجود عمق استراتيجي للمقاومة وللشعب الفلسطيني، أو حليف دولي أو سلاح يمكن من خلاله مواجهة التفوق النوعي للعدو وهو أمر يؤمن للاحتلال الانتصار العسكري التكتيكي، أي كأمان الانتصار المتراكم في حالات المواجهات العسكرية أو في حالات مثل المواجهة بالقوة العسكرية أو عدم المواجهة، فعدم امتلاك إستراتيجية نضال واضحة تؤمن الانتصار واللجوء للنضال المطلبي الذي قال عنه غاندي انه لجأ للمقاومة اللاعنفية كخيار بعدما أدرك عدم جدوى اللقاءات والعرائض والمؤتمرات، بمعنى أن المقاومة الشعبية اللاعنيفة هي إستراتيجية مقاومة لها ذات الأبعاد الإستراتيجية والتكتيكات لأي إستراتيجية حربية، وعلى ذلك فإننا: نستطيع استنباط عدد من القوانين التي تحكم الصراع بين الشعب الفلسطيني من جهة والعدو الصهيوني من جهة أخرى:-

1.    القانون الأول: وجود الاحتلال العسكري لأراضي الغير، وبهذا فإن المقاومة أمر واقع ومشروع ضمن كل القوانين والشرائع.

2.    القانون الثاني: هو استخدام كافة أشكال ووسائل النضال الممكنة والمتاحة، حسب القوانين والشرائع الدولية، وميزان القوى، والظرف التاريخي، بما يحقق أكبر قدر من الانجاز وتراكم عناصر القوة.

3.    القانون الثالث: تراكمية عملية المقاومة، بمعنى أنها عملية شاملة وتراكمية تحتاج إلى إستراتيجية النفس الطويل، أي عدم استنزاف الشعب في إستراتيجية معينة، بمعنى استخدام التكتيك القتالي الأمثل في الزمان والمكان والظرف المناسب، دون إلغاء الخيارات النضالية الأخرى في أي مكان أو زمان أو ظرف آخر.

 

واستناداً إلى القوانين السابقة فإن مطابقة قراءة واقع النضال الفلسطيني وعملية الصراع في وقتها الراهن، فالإستراتيجية الأمثل التي يمكن للشعب الفلسطيني اعتمادها في الظرف الراهن هي المقاومة الشعبية.

 فما هي المقاومة الشعبية؟ وما هي متطلباتها؟ وما هي معطيات اعتمادها في فلسطين؟ وما هي الركائز الأساسية للمقاومة الشعبية وأساليبها؟ وهل هي حقيقة مناسبة للشعب الفلسطيني؟ وما هي ممكنات تكتيك مسيرات العودة حالياً ومستقبلاً؟ وما هو تأثيرها في حال اعتماد التكتيك في إطار إستراتيجية شاملة مبنية على إصلاح الواقع السياسي والمصالحة الفلسطينية وإعادة جمع الشتات الفلسطيني بل وعلى مستقبل العملية السياسية برمتها؟ وباعتبارها رداً على صفقة القرن التي تعمل الإدارة الأمريكية على تمريرها.

 

يعتبر مفهوم المقاومة الشعبية من المفاهيم الملتبسة في الوقت الراهن ذلك لأن تعريفاتها وتأويلاتها مختلفة ولكن ما هو أمر واقع أنها :إستراتيجية نضالية يعتمدها الطرف الضعيف في مواجهة الطرف الأقوى في الصراع أو الحروب أو الثورات، ومنها مثلاً: ما أخذ شكل الانتفاضة (كانتفاضة الخميني" في إيران 1979 الثورة الإسلامية، والانتفاضة الفلسطينية 1987)، والثورة ضد المحتل التي حملت تكتيكات واستراتيجيات وشعارات سياسية وقد اعتبرها معظم المفكرين العسكريين جزءاً من الاستراتيجيات العسكرية في الحروب والثورات وفي مواجهة قوة فاشية، ويطلق عليها أسماء مختلفة من قبيل المقاومة السلمية، المقاومة اللاعنيفة، المقاومة المدنية، النضال الاعنفي، العصيان، التمرد،,, الخ، وتعني عدم الاستسلام والانهيار أمام التهديدات، وعدم الهروب، فالمرء لا يغادر وطنه وان كان خارجه فعليه العودة*1، بمعنى الثبات على الأرض مهما غلت التضحيات، وهي متعارضة مع الاستسلام وتقوم على الصمود حتى الاستشهاد*2.

وبهذا المعنى فان المقاومة الشعبية لا تعني بأي حال من الأحوال عدم لجوء الطرف الآخر للقوة وإنما الهدف من استخدامها، هو إضعاف الروح المعنوية للعدو وضعضعة رؤيته الأخلاقية وتحطيم تحالفاته الدولية والسياسية، وفي هذا الشأن قد عرَّف المفكر الفرنسي "جان مولر" ظاهرة اللاعنف أنها (ضرب من ضروب الوعي الاجتماعي والثقافي الذي يجعل الفرد يعترف بحقه وحق الآخرين عليه والتي تضع حدا للنزاع والحرب)*3، وأكد "مولر" أن هدف العمل أو المقاومة الشعبية هو ممارسة الضغط الأخلاقي على الخصم، من خلال فضح ظلمه علانية وإعطاءه بعداً دراماتيكياً، ويتوجب التنبه إلى قضية ملحة وهي أن لا يعتمد الخصم ذات الإستراتيجية*4، وهو أمر ملح في القضية الفلسطينية وصراعها ضد العدو الصهيوني، الذي يجابهه الفلسطينيين عبر نضالاتهم بقضية شرعية الحق التاريخي أولاً، وشرعية وجود إسرائيل كملاذ آمن لليهود في مواجهة اللاسامية خاصة في القرن الماضي ثانياً، وثالثاً الاستناد للاعتراف بشرعية دولة الاحتلال ذاتها، وعليه فان المقاومة الشعبية عليها أن تأخذ بعداً أكثر دراماتيكية فمثلاً فيما يخص مسيرات العودة فقد تم اللجوء إلى تكبيل المتظاهرين ورفع أيديهم بالهواء وهو أمر يخلق إرباكاً لدى مواجهتهم بالقوة من قبل الخصم.

تتطلب المقاومة الشعبية قيم ومفاهيم تربوية واجتماعية وثورية خاصة، فهي تقوم على التحرر من المكتسبات المادية الفردية التي تكبل الإفراد والجماهير خوفاً من فقدانها*5، كما أنها تتطلب رباطة الجأش والوعي وقدراً عالياً من الالتزام والانضباط شبه العسكريين واعتماد الجهد المشترك من كل الجمهور والمثابرة الجماهيرية وتنوع الأساليب وتعدد الوسائل النضالية*6، ويلاحظ في هذا الإطار قوة ونجاعة إبداعية الأساليب التي اعتمدها الجمهور في تكتيك مسيرات العودة والتشكيلات المتنوعة والانتشار واستخدام الطائرات الورقية المشتعلة واستخدام الإطارات المشتعلة والمرايا في مواجهة القناصة، وهو الأمر الذي أدى إلى إكساب الجمهور القوة المعنوية واحترام الذات والثقة بالجموع، وهو أمر يفتقده المتظاهرين في الضفة الغربية ولا يسعون إلى تعزيز الإبداع لديهم، مثلاً: كالخروج في مسيرات متفرقة في كل المدن بهدف المحاصرة السلمية للمتظاهرين مكبلين على حواجز عسكرية أو نقاط عسكرية أو استيطانية أو معسكرات، أو محاصرة مستوطنة محددة في كل تاريخ محدد في شهر معين، أو اللجوء لإعادة السيطرة على القدس شعبياً وإقامة مخيمات عودة على غرار مخيمات العودة في غزة بكل ما فيها من خدمات وتسهيلات للإقامة الدائمة وذلك بالتنسيق مع الجمعيات والمؤسسات الدولية والإنسانية والمدنية العاملة في فلسطين .

وتستجلب المقاومة الشعبية عملية تربوية ثقافية اجتماعية، حيث يسود بين الجماهير الخير والمحبة وقيم العمل التضامني والجماعي والتآخي والتكافل وتتضاعف العزيمة الكفاحية*7، ويلاحظ أن هذا الأمر قد ترسخ بشكل واضح وجلي في الانتفاضة الأولى 1987 وهو أمر يستدعى دراسات عديدة.

وفيما يتعلق بالركائز التي تقوم عليها المقاومة الشعبية وضرورات استخدامها وحقيقة ملائمتها للنضال الفلسطيني في الظرف الراهن، فالمقاومة الشعبية تستند إلى ركيزة القوة الشعبية المختزنة لدى الجمهور والشعب في مواجهة العدو، وكذلك قوة مؤسساته السياسية والحزبية والمدنية والتي يفترض بها التكامل مع هدف مشترك ومشروع موحد عبر استخدام أساليب وتكتيكات متنوعة لجعل الشعب أكثر حصانة وصمود وقوة.

من خلال التعريفات للمقاومة اللاعنيفة يعتبر اللاعنف سلاح فعال وقوي ضد الخصم، فإن هذا الخصم الاحتلالي القمعي مستمر في استخدام إستراتيجيته القمعية قدر استطاعته بالوجود العسكري المباشر والقتل والاعتقال والتعذيب وهدم البيوت، وهو أمر يهز القيم الأخلاقية أو الصورة الأخلاقية التي يحاول الاحتلال الظهور بها داخلياً وخارجياً، كما ويصيب قناعات العسكري الخصم في العمق (كمثال جندي قناص مسلح ومدرب على مستوى عالي في مواجهة فتاة مكبلة غير مسلحة في الطرف الآخر أو فتى أو عجوز.. إلخ)، ولكن هذه الإستراتيجية تتطلب الصمود والنفس الطويل والاستعداد العالي للتضحية حد الشهادة كما حدث ويحدث في مسيرات العودة.

حيث فحوى المقاومة الشعبية الصمود والتشبث بالحق حد الشهادة، حسب "أديب مفلح"، تكمن في الانتصار على الخوف من العذاب أو انتصار الدم على السيف بحسب الأدبيات الشيعية الإسلامية، أي ردع الخصم – الاحتلال عن استخدام العنف حيث فقدان العنف لوظيفته الأساسية، فهذا الشعب الذي لم يعد خائفاً ولا يسعى لامتلاك ما قد يخاف عليه، ولأن الشعب ومؤسساته تؤمنان الاحتياجات للجميع في عملية تضامن كاملة.

 

 قوانين المقاومة وأُسسها*8:

1.    أنها تقوم على فكرة العصيان والتمرد وليس الخنوع والانضباط لقوانين والإذعان والامتثال بحيث يسند هذا العصيان بالمقاومة وليس الاحتجاج فقط، والفرق بين المقاومة والاحتجاج من حيث أن الاحتجاج تعبير عن موقف إزاء حدث ما، أما المقاومة فهي تسعى لإلغاء أو تحدي مسببات حدوث هذا الموقف.

2.    تقوم على الشمولية والوحدة من حيث تعبئة كل مصادر وقوة الأمة والشعب ومؤسساته وهيئاته، وإعادة تشكيل المجتمع بمؤسساته واقتصاده وتشكيلاته وأفراده خدمةً للمقاومة الشعبية.

3.    أنها تكتيكات علنية خدمةً لإستراتيجية تقوم على تحقيق هدف واضح من خلال برنامج سياسي علني، ذلك لأن الإعلام أحد أهم ركائز المقاومة الشعبية.

4.    تستخدم تكتيكات الصدام غير المباشر من خلال التعبئة والتحشيد والتجييش لعناصر القوة في مواجهة عناصر الضعف لدى العدو الخصم، وخلخلة بنيانه ومعتقداته وأفكاره وعقيدته والرأي العام، وذلك ببناء إستراتيجية وتكتيك مباشر، بناءً على تلمس عناصر الضعف التي تظهر أثناء الصدام الغير مباشر.

5.    تقوم على قوة الصدام والجلد والصمود فهي إرادة ضد إرادة، إرادة الشعب المقموع ضد إرادة بطش الاحتلال، تلتزم بلا عنف بشكل دائم وبطول نفس وتحمل وجلد.

6.    العمل على المراجعة التقييم وإعادة التدقيق بالموقف في كل مرحلة، تماماً كما في المعارك الإستراتيجية والحربية.

 

ما هي أساليب المقاومة الشعبية:

يقع في أول السلم الاحتجاج وهو التعبير عن موقف معين تجاه قضية ما، ثم يُدعى لإضراب ولا تعاون، ثم المقاطعة فالعصيان المدني.. إلخ، حيث يجب اللجوء إلى كل هذه الأشكال تصاعدياً وعدم الارتهان إلى شكل أو شكلين فقط، وعدم الخلط بين الأشكال أو التراجع من شكل لآخر بمعنى عدم استخدام سلاح المقاطعة ثم العودة للاحتجاج، لأن ذلك يعتبر تراجعاً وكذلك يجب الابتكار والإبداع في أشكال المقاومة.

وتعتبر مسيرات العودة من حيث الشكل قديمة تعود للعام 2011 وما قبل ذلك، ولكن استخدام هذه المسيرات كتكتيك في مطلب استراتيجي وأداة نضالية لها بنية تقودها وتعمل على تحقيق أو ممارسة حق العودة حسب القرار الأممي 149 إبداعاً يجب تطويره وتوسيعه ليشمل كافة أبناء الشعب الفلسطيني وفي كافة أماكن تواجده مصحوباً بإبداعات نضالية مختلفة، مثلاً في الأراضي المحتلة عام 1948 يمكن ممارسة هذا التكتيك بشكل ضاغط في اللحظة الراهنة وهو أمر يخدم مسيرات العودة وخلخلة الرأي العام والمجتمع الصهيوني بشكل كبير جداً، وفي حال تم اللجوء للتنسيق مع أبناء الشعب في الداخل ودمجهم في العملية النضالية أو تسلمهم زمام النضال في هذا الوقت، وهو أمر ملح لإعادة الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني ومؤسساته.

فالمقاومة الشعبية تستخدم اللاعنف كسلاح نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي، وكذلك تعمل على قطع وإضعاف مصادر قوة وشرعية الاحتلال التي يمكن للفلسطينيين في الداخل المحتل والقدس والضفة الغربية أن يلعبوا دوراً مهماً وضاغطاً في هذا الإطار، بالإضافة إلى ممارسة هذا التكتيك لخلق ضغطاً عسكرياً وأمنياً على مؤسسات الاحتلال، يحمله كلفة أعلى خاصةً في الوقت الراهن الذي تخضه فيه دولة الاحتلال لتحديات أمنية عالية على الجبهة السورية اللبنانية الإيرانية.

فحركات الاحتجاج والمقاومة توجد ويتضاعف عملها حين تكون السلطة (الاحتلال) في موقف ضعيف أو مهدد، وكذلك يجب التأكيد على نقطة إضعاف التحالفات الدولية وتحطيمها من خلال النضال اللاعنيف لتحطيم شرعية وأخلاقية الخصم، وهو أمر تعمل عليه حركة "BDS" بشكل مبدع ولكنها لوحدها دون فعل مقاوم سليم على الأرض ينتج ويراكم ويبدع لا يمكن أن ينجح أو يستمر في تحقيق نجاحاته*9، إن القراءة للواقع الفلسطيني وواقع الصراع مع العدو على الأرض ضمن صراع الإرادة والاستراتيجيات والاستخدام الأمثل لعناصر قوة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وكذلك الأمر قراءة الواقع الإقليمي والدولي وخاصة تحت تهديد صفقة القرن الأمريكية التي تأتي في إطار ترتيب المنطقة إقليمياً، تفرض بأن الحصان الرابح في المعركة هو الشعب الفلسطيني من حيث تحصين وتأمين عناصر الصمود والوحدة الوطنية وبناء اقتصاد مقاوم، فالمؤسسات السياسية كي تؤمن الشكل السياسي للنضال الفلسطيني يجب عليها إصلاح منظمة التحرير والسلطة واعتماد سياسات مغايرة تقوم على الثقة بالشعب والمجموع، ورفع هدف واحد وهو ممارسة حق العودة باعتباره القاسم المشترك للشعب الفلسطيني وهو محور وأساس كل القرارات الدولية التي سعت وتسعى لإيجاد حل سياسي للقضية الفلسطينية*10، خاصة أن قضية اللاجئين وحق العودة هي محور الفكر السياسي الفلسطيني منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة*11، خاصة بعد العام 1974، لقد سقطت فكرة التحرير وخيار مشروع التحرير في ذلك العام، ورفع بشكل لافت الحديث عن تنشئة سياسية محورها حل قضية اللاجئين وصولا إلى صفقة ترامب 2018 التي تتحدث عن إسقاط القدس وربما الخليل من المفاوضات وإسقاط اللاجئين عن طاولة الحوار*12، وصولاً لإقامة حكم محدد للفلسطينيين في إطار حدود 1967 وليس على أساس الانسحاب إلى حدود 1967 وفي ظل واقع فلسطيني مشتت ومحاصر وغير قادر على تقديم حل وخاصة أن إستراتيجية الدولة الفلسطينية على أراضي 1967 هي إستراتيجية عربية أساسا تستند إلى إيجاد حل للصراع الذي نشأ اثر هزيمة 1967 وعليه فان إيجاد حل للفلسطينيين كدويلة تأتي في إطار حل الصراع العربي الإسرائيلي وليس الصراع ببعده الفلسطيني وعليه جاءت اتفاقية كامب ديفيد بإيجاد حكم ذاتي للفلسطينيين بدون صيغ واضحة لماهية الحكم إضافة لأن ممارسات الاحتلال أجهضت أي جهود لحل الدولتين، فالحل الأمثل هو ممارسة حق العودة عبر تكتيكات مسيرة العودة المستمرة والتي يجب أن يؤمن لها الصمود والبقاء والاستمرارية وذلك عبر عملية تخطيط استراتيجي للمقاومة الشعبية لمسيرات العودة بحيث ترمي لتحقيق ثورة سياسية واجتماعية معاً في آن واحد، بمعنى بناء إستراتيجية تطمح لإعادة بناء المؤسسات السياسية للشعب الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطيني والسلطة) وغيرها من بنا مجتمعية بديلة تقدم الحلول عبر ممارسة حق العودة وتعطي رداً مقاوماً شعبياً وإرساء قواعد واقعية للمجتمع تقوم على التضامن والتكافل وتنهي إستراتيجية التنازلات المتبادلة عبر المفاوضات بحيث يجب تحديد الهدف السياسي والمطالب المراد تحقيقها والتمسك بها طيلة عملية الصراع (ممارسة حق العودة دون تقديم أي تنازلات)، فقد أكد غاندي قائلا لشرح المقاومة السلمية وإستراتيجيتها أنها في النضال اللاعنفي (المقاومة الشعبية) الأدنى هو الأقصى وبمعنى أن الأدنى لا يمكن اختزاله فلا مجال للتراجع وان الحركة الوحيدة هي التقدم*13.

لقد أرعبت مسيرات العودة وأربكت الحسابات الأمريكية والإسرائيلية لذلك نرى "جريملاند" يحاول تقديم حلولا لغزة والتقرب من حماس على قاعدة فصلها عن الضفة أي تجزئة القضية الفلسطينية وإعطاء كل مركز فلسطيني حقوقه، ونرى ردة الفعل الهستيرية للاحتلال على تضامن بعض عشرات الفلسطينيين مع غزة في حيفا*14، وعليه فإن المقاومة الشعبية ومسيرات العودة وتوسيع دائرة المشاركة والفعل فيها إلى الداخل 1948 والضفة الغربية والقدس والشتات واستخدام الشعب الفلسطيني في عملية صراع استراتيجي تؤدي إلى تحييد عناصر القوة لدى العدو وكشف وجهه الحقيقي أمام العالم وأمام نهجه أساساً مما يخلق حالة تصدع في جبهته الداخلية وفي تحالفاته الدولية ويفشل مخططات هذا التحالف الأمريكي الصهيوني والصمود أمام الهجمة الشرسة للعدو ومحاولاته المتكررة لعسكرة الفعل المقاوم وإحباط المشاريع التصفوية، يتم عبر ممارسة حق العودة (مسيرات العودة وتفعيل العمل السياسي والإعلامي والدولي وبناء المجتمع على قاعدة الصمود)، وهو أمر يستدعي فوراً تحقيق الوحدة الوطنية لكل مكونات الشعب الفلسطيني وأساساً 1948 والشتات وتجاوز حالة الانقسام (فتح وحماس) كإستراتيجيتين منقسمتين على نفسيهما فالمصالحة إستراتيجية مقاومة وليس مجرد مطلب، حيث أن الانقسام أساساً هو بين فتح وحماس والمطلوب لإيجاد إستراتيجية وطنية وجود قيادة عليا موحدة تمتلك برنامج سياسي واضح وهدف سياسي محدد ومطالب تكتيكية تخدم الهدف الاستراتيجي وعليه يتم صياغة الإستراتيجية لتشمل التخطيط الاستراتيجي بعناصره (المرونة، ورفع مستوى المهام) بحسب تبلور عوامل الثقة بالنفس وبين الجمهور والقيادة واختيار قضية العودة كأساس وكمطلب رئيسي باعتبارها قاسما مشتركا اكبر وتحقيق انتصارات محددة عبر رفع أو فتح معارك تكتيكية الخ من عناصر التخطيط الأخرى والأخذ بالحسبان الاستخدام الأمثل لعناصر القوة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني والوحدة والصمود والعامل الدولي والاستعداد العالي للتضحية لدى الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وفي مواجهة المخططات الأمريكية المتحالفة مع الاحتلال وعزله، حيث استطاعت القيادة الفلسطينية تحقيق انتصار جزئي عبر رفض "اعتراف ترامب" بالقدس عاصمة الاحتلال ونقل السفارة لها بما عزلها تقريباً وهو أمر يجب البناء عليه، فقد وضع الدكتور "جيد شارد" إطاراً للتحرر باستخدام المقاومة الشعبية قائلاً: إذا أردنا التحرر وبأقل التكاليف علينا القيام بما يلي*15 :-

1.    وضع خطة تحرر إستراتيجية حكيمة وكبيرة وتنفيذها بمهارة.

2.    تعزيز قدرات الشعب وصموده في تصميمه وعزيمته وتعزيز ثقته بنفسه، وتعزيز مهارات المقاومة الشعبية وإبداعاتها.

3.    تعزيز المؤسسات المدنية والسياسية.

4.    خلق مقاومة داخلية قوية تساهم في خلق ردود فعل دولية كي تمارس الضغوطات على الاحتلال وذلك على عكس حالة الهدوء التي أدت بالإدارة الأمريكية لإدارة الوجه وتوجيه صفعة للقيادة الفلسطينية التي استندت إلى إستراتيجية النضال المطلبي والنضال السلبي والتعاون الأمني بدل من سياسة التمرد والعصيان والرفض للاحتلال.

لقد أمن تكتيك مسيرات العودة جزءَ مهماً من هذه الأهداف، ووضع سكة النضال على مسار سليم وحقق الوحدة الشعبية، الذي يتطلب أن يتحول إلى وحدة في رأس الهرم الفلسطيني وتأمين عوامل الصمود والاستمرارية والتوسع لتشمل هذه الإستراتيجية والتكتيكات سواءً باستخدام كافة القوى التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وإعادة توحيده (غزة، الضفة، الشتات، الداخل المحتل) في إدارة عملية الصراع ضمن هذه الإستراتيجية الشاملة والتي تعتبر مسيرات العودة الدائمة والمستمرة لتحقيق قرارات الشرعية الدولية حتى إنجاز هذا الحق إحدى التكتيكات الرئيسية، بالإضافة لتفعيل العامل الإعلامي والدولي والسياسي وتوسيع دائرة العمل والفعل للتمثيل السياسي للشعب الفلسطيني بمنظمة التحرير الفلسطينية وإصلاح برنامجها السياسي ومؤسساتها خدمةً لهذا الهدف، لاعتبار أن العودة للاجئين حسب القرار 194 وحسب قانون الحق هو أحد ركائز الفكر السياسي الفلسطيني منذ العام 1947، وأحد القواسم المشتركة التي تجمع كافة تجمعات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده هذا من جهة، ومن جهة أخرى المقاومة السلمية وتكتيك مسيرات العودة ممكن، كتكتيك نضالي في كافة أماكن تواجد شعبنا وخاصة في الخارج وفي الأراضي المحتلة عام 1948 بحيث يعاد تحشيد وتجميع كافة أبناء الشعب الفلسطيني تحت راية واحدة وهو أن يتحول الشعار المرفوع عودة الفلسطينيين إلى أراضيه التي هجروا منها عام 1948 وقبل ذلك، وممارسة هذا الشعار كفعل نضالي عبر مسيرة العودة فإن هذه اللحظة هي اللحظة التاريخية المناسبة للقيادة الفلسطينية من أجل إنهاء أو قطع العلاقات الإشكالية مع الاحتلال التي خلفتها أوسلو وهي اللحظة المناسبة لتحويل السلطة من كيان سياسي وعبء ثقيل على أصحابه وشعبنا إلى إنهاء خيار أوسلو وإستراتيجية المطالبة بدولة على حدود 67، وهي الإستراتيجية التي فرضت على شعبنا من قبل الدول العربية بعد هزيمة 67 وتحويل الشعار نحو عودة اللاجئين الفلسطينيين وتطبيق القرار 194 وربما يمكن تطويره، أو التكتيك لشعار الدولة الواحدة، أما وإذا أرادت دولة الاحتلال الالتزام بقرارات الشرعية الدولية 242 أو 338 وغيرها فإن أهل الأرض وأصحابها جاهزون لبدء التطبيق وليس التفاوض، وهنا يتحول خيار المقاومة الشعبية بديلاً إبداعياً يقدم كنموذج للتكامل في أوجه النضال الفلسطيني.

ومرة أُخرى فإن تكتيك مسيرات العودة الذي يخوضه أساساً أبناء غزة والضفة وتحديداً اللاجئين وبمشاركة بقية أبناء شعبنا خصوصاً لاجئي الخارج وعملهم على ممارسة ذات التكتيك وكذلك تفعيل حركة “BDS” والأهم مشاركة وفاعلية فلسطينيي الداخل المحتل بممارسة الصمود وحق العودة إلى أراضيهم وتثبيت الأراضي والقرى المهددة بالمصادرة، حيث تعتبر هذه الإستراتيجية ممارسة حق العودة بالمسيرات وصولاً بالنجاح بالوصول إلى أرضنا وإعادة التخييم فيها وإعمارها من جديد، إستراتيجية معكوسة ومضادة للإستراتيجية الصهيونية لاحتلال الأرض والاستيطان فيها وهي تمهيد للحيز الحيوي أو الحيز الدولي للأغلبية اليهودية التي تسعى إسرائيل للحفاظ والتمسك بها,

أما معطيات وجود هكذا حالة فاعلة وناجعة أو نجاحها في غزة وضعفها في الضفة وباقي مناطق تواجد الشعب الفلسطيني فهي:-

1.    التشتت الفلسطيني ونشوء أولويات واهتمامات لكل مجتمع فلسطيني (48، 67، غزة، الضفة، الشتات).

2.    الأُسلوب الحياتي المرفه في بعض مناطق تواجد الشعب الفلسطيني.

3.    الانقسام السياسي الفلسطيني.

4.    ترهل وضعف القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسات الحزبية والمدنية وانقسامها.

5.    أوسلو كمشروع تصفية لحالة المقاومة.

6.    الارتهان للدعم المالي الخارجي والتبعات السياسية والاجتماعية لذلك.

7.    لجوء السلطة لسياسات بناء المواطن والفردية الاستهلاكية والتنسيق الأمني وإخراج العدو من دائرة العداء ومحاولات تطبيقه في الحيز العام الفلسطيني.

وغير ذلك الكثير من المعيقات التي يجب تجاوزها عبر عملية بناء إستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي والبناء السياسي والمجتمعي، وبهذا فإن التصفيات الممكنة لبلورة تكتيكات أو إستراتيجية ممارسة حق العودة هي:-

1.    إصلاح أو إعادة إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسات والأحزاب السياسية.

2.    اعتماد إستراتيجية المقاومة الشعبية وتكتيك مسيرات العودة المستمرة وتوسيع دائرة الفعل والعمل بشرياً وجغرافيا في الداخل المحتل والقدس والضفة وبحسب بعض التوصيات الواردة في نص المقال.

3.    تشكيل أو إعادة تفعيل اللجان الشعبية والمناطقية وباقتصاد المقاومة.

4.    إسناد المهام الخارجية والإعلامية لقطاعات الشعب الفلسطيني في الخارج كحركة “BDS” وكذلك في الداخل الفلسطيني.

5.    إعطاء حيز مشاركة قيادية وميدانية لشعبنا في الداخل المحتل وتحفيز في الإستراتيجية.

6.    سرعة نقل مسيرات العودة للقدس والضفة والداخل.

 

تعتبر المقاومة الشعبية (مسيرات العودة) الإبداع الفلسطيني الأكثر تأثيراً في ظل الواقع الراهن فلسطينياً وإقليمياً ودولياً ورداً على حالة استنفار الاحتلال وتوغله وإدارة الصفعة على الصفعة الأمريكية، واثبات وجود الشعب الفلسطيني كفاعل سياسي وميداني في المنطقة يمكنه قلب الطاولة على كل المخططات الأمريكية الصهيونية والإثبات للقاصي والداني من الإخوة العرب أننا مازلنا أصحاب فعل وقادرون على إبداع أشكال النضال، فهي أفضل إستراتيجية لتوحيد عناصر القوة لدى الشعب الفلسطيني قادرة على فرض الوحدة والمصالحة وإعادة دمج المجتمعات الفلسطينية تحت إطار المقاومة وممارسة حق العودة وقرار 194 وهي رداً فلسطينياً مبدعاً على الاحتلال وصفقة ترامب، حيث أكد الإعلام الإسرائيلي وصحيفته أن الفلسطينيين تفوقوا علينا وسجلوا هدفاً نظيفاً في المعركة الدائرة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال.

 

بقلم الأسير الصحفي منذر خلف مفلح

 

المراجع:

1.    جين شارب- المقاومة اللاعنفية – دراسات في النضال بوسائل اللاعنف (بيروت - مركز الدراسات الوحدة العربية 2011/ص16).

2.    أديب مفلح – السياسي والقديس "المهاتما غاندي" (بيروت – منشورات المكتبة البليسية 1992/ص478 ).

3.    جان ماري مولر – إستراتيجية العمل اللاعنفي – حركة حقوق الناس (بيروت – الدار الوطنية للنشر 1999/ص39).

4.    المصدر السابق ص 55.

5.    مصدر سابق/ مفلح – السياسي والقديس ص510.

6.    سعيد مصيفة - نضال اللاعنف – انسجام الوسيلة مع الهدف (مجلة الهيئة العامة للاستعلامات – غزة – 2004/ص191).

7.    المصدر السابق ص 189.

8.    أحمد عبد الحكيم وآخرون – حرب اللاعنف – الخيار الثالث ( بيروت – الدار العربية للعلوم – ناشرو وأكاديميو التغيير 2007/ص132 و152).

9.    مصدر سابق/ جين شارب - المقاومة اللاعنفية ص66.

10.                       سعيد يقين - التطبيع بين المفهوم والممارسة ( رام الله –المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي 2003/ص49).

11.                       علي أحمد فياض - مكانة حق العودة في الفكر السياسي الفلسطيني ( أبو ظبي – مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية 2001/ص93).

12.                       يدعوت احرنوت – الملحق السياسي - الحلم والضياع (2018/5/26/ص4).

13.                       مصدر سابق/ مولر – إستراتيجية العمل اللاعنفي ص144.

14.                       أليكس فيشمان – القناة الإخبارية الإسرائيلية – كان ( 2018/5/27).

15.                       مصدر سابق/ جين شارب- المقاومة اللاعنفية ص20.