إبتدأت حكومة الرزاز حياتها بسقوط مدوي وهو أمر غير طبيعي ويبعث على الدهشة ضمن المعطيات التي رافقت عملية التكليف ، خصوصاً وأن رئيسها قد حصل على كل المقومات اللازمة للنجاح من دعم ملكي ، وتأييد شعبي ، وترحيب قطاعات المجتمع الأردني المختلفة ، ناهيك عن كون ما ورد في كتاب التكليف كان من شأنه أن يُزَوِّد الرزاز بما يحتاجه من ذخيرة لمقاومة كافة أشكال الضغوط عليه ، كما أنه أخذ من الوقت أكثر مما أخذه غيره لتشكيل الحكومة بحجة التجديد ، ومع ذلك فشل فشلاً ملحوظاً منذ اللحظة الأولى لإعلان التشكيل الوزاري .
وهنا يبقى السؤال الكبير ، هل فشل الرزاز أم تم إفشاله ؟ كيف ولمصلحة مَنْ ؟
هل فَشِلَ الرزاز نتيجة لضعفه وقلة خبرته ودرايته في شؤون الحكم مما أضعـف من قدرته على مقاومة أو رفض الضغوط الواقعة عليه من الدولة العميقة ورمـوز النظـام ، أم هل تم إفشاله عن عّمّدٍ بهدف تلقين الشعب درساً في وجوب عدم التدخل في الشؤون العامة مرة أخرى ، وأن ما قد يتمخض عن مثل ذلك التدخل لن يؤدي في نهاية المطاف إلى أية تغيير ملموس ؟
عقب الإعلان عن تشكيل حكومة الرزاز شعر العديد من الأردنيين بالإحباط والغضب كون ذلك التشكيل قد عَكَسَ إما الرغبة بعدم الإصلاح أو فقدان النية أو المقدرة على فعل ذلك ، أو ضعف الرئيس إلى حد عدم القدرة على فرض رؤيته لكيفية تشكيل الوزارة ، أو ربما ، وبكل بساطة ما حصل كان يُعَبِّر عن رؤيته وقناعاته الشخصية وجل الباقي أمنيات وأحلام لدى الآخرين .
من المتعارف عليه أنه كلما إرتفع سقف التوقعات كانت الصدمة الناجمة عن الفشل في الوصول إلى تلك التوقعات أكبر . ربما أخطأ الرزاز عندما لم يحاول تحجيم تلك التوقعات أصلاً ، أو ربما جانَبَهُ الحظ في عدم الإعلان وبصراحة عن كون الصعاب التي يجابهها أو الضغوط التي يتعرض لها أكبر من قدرته على مواجهتها أو تجاوزها . ومع الموافقة الكاملة على أن رضى الناس غايةٌ لا تُدْرَك ، إلا أن توقعات الشعب الأردني في الإصلاح والتغيير ، خصوصاً في نمط ونوعية الوزراء ، جاءت مختلفة تماماً عما قام رئيس الحكومة بفعله . ربما كانت آمال الشعب وتوقعاته أكبر من نوايا وقناعات وقدرات رئيس الحكومة نفسه ، وربما كانت تلك التوقعات تفوق مدى إستعداد الدولة العميقة للتنازل وفسح المجال أمام الرئيس المكلف لإختيار نمط جديد من الوزراء للبدء بعملية تغيير وإصلاح حقيقية .
من الواضح أن رئيس الوزراء المثقف وصاحب اليد النظيفة يفتقر إلى القوة والعزيمة اللازمين للإبحار في هذا المحيط الأردني المتلاطم والملئ بعواصف الفساد والمطامع والمصالح المتضاربة ، كما أنه يفتقر إلى الدهاء السياسي المطلوب لإدارة كفة الحكم وَسَطَ أنواء الدولة العميقة ومؤامراتها على أي نهج إصلاح حقيقي خصوصاً إذا ما كان ذلك النهج يفوق رغباتها أو إستعدادها للقبول به ، أو إذا ما كان مفروضاً عليها بطريقة أو بأخرى .
الهزيمة الأولى التي سبقت السقوط كانت في قبول رئيس الحكومة أصلاً بالتكليف دون أن يأخذ الضمانات الكافية والعلنية من الملك للولوج في نهج الإصلاح . والهزيمة الثانية كانت في موافقته على تشكيل حكومته بالشكل الذي خرجت به مما يشير إلى إستعداده للإنصياع لتعليمات وأوامر الدولة العميقة والتي تُوِّجَتْ بتعيين أحد أعمدتها كنائب لرئيس الوزراء بمهمة أساسية غامضة وهي الإشراف على رئيس الحكومة وسياساته ومدى إنضباطه بحيث لا يتعارض مساره مع رغبات الدولة العميقة ومصالحها . وهذه هي المرة الثانية التي يأتي فيها المعشر كأب روحي لرئيس جديد شاب ، وإن كانت الأسباب الموجبة مختلفة في كل حالة .
الخلاف الآن ليس بين الشعب والحكومة كما كان عليه الحال في أزمان حكومة هاني الملقي ، بل بين الشعب والدولة العميقة . لقد بات واضحاً بعد تشكيل حكومة الرزاز أن الإصلاح هو أمر لا تقوم به الحكومات بل تقوم به الدولة العميقة نفسها . فتشكيل الحكومات هو بيد الدولة العميقة والنهج الاقتصادي والنهج السياسي هما تجسيد لإرادة ومصالح الدولة العميقة بأطرافها المختلفة . والدولة العميقة هي من يَدَّعي الحق بتعريف وتحديد مصلحة النظام وأين تكمن تلك المصلحة ، وعلى الجميع من وجهة نظرها الطاعة والإنصياع .
الخلاف واضح بين ما يريده الشعب وما تريده الدولة العميقة . من الصعب ، إن لم يكن من المستحيل ، مطالبة الدولة العميقة أن تنقلب على نفسها . ومن الواضح الآن أن ما تمخض عن الأحداث الأخيرة من إجراآت كان يهدف إلى تنفيس أجواء الغضب والإحتقان والإنحناء أمام العاصفة عوضاً عن مجابهتها والمخاطرة بتحمل عواقبها . وهكذا جاء كتاب التكليف لعمرالرزاز مختلفاً تماماً عن طبيعة التشكيل الوزاري ، مما خلق شعوراً عاماً بالشك والصدمة بين أوساط الكثيرين خصوصاً أولئك الذين تَوَسَّموا خيراً من الايحاآت الواضحة في كتاب التكليف والتي جاء التشكيل بمثابة تجاهلاً أو نقضًا لها مما يعكس الموقف الحقيقي للدولة العميقة من مطالب الإصلاح .
إن الآمال العريضة التي رافقت التكليف وخيبة الأمل التي أعقبت التشكيل تعكس قصوراً واضحاً من قبل العديدين في فهم ديناميكية العلاقة بين السلطة وأصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية والتي تجعل من السذاجة مطالبة المستفيدين من الأمر الواقع ومن الفساد المالي والسياسي أن يقوموا بتغيير ذلك الواقع والدفع بنهج الإصلاح والذي يتعارض مع مصالحهم ونفوذهم السياسي والاقتصادي . ترى هل من المعقول مثلاً مطالبة الفاسدين بمكافحة الفساد ووضع حد له ومحاكمة الفاسدين ؟؟
بغض النظر عن شخصيات وخبرات وخلفيات الوزراء في حكومة الرزاز سواء الجدد أو العائدين ، فإن المؤشرات على تعيينهم قد تكون أهم من الشائعات وشخصنة الإعتراضات على ذلك التعيين . والمؤشرات هنا تؤكد على التوجه الخفي نحو إبقاء الأمور على ما كانت عليه ، مع إجراء بعض الإصلاحات من الوزن الخفيف والتي تهدف إلى خلق شعور شعبي بالإرتياح كونها تمس بعض الأمور الحياتية اليومية للمواطن العادي دون أن تؤثر على النهج الإقتصادي السائد أو على مصالح الدولة العميقة . وهذه الإصلاحات قد تشمل بالإضافة إلى إعادة النظر في التعديلات على قانون ضريبة الدخل ، تقليص ضريبة المبيعات على الأساسيات التي تهم المواطن ، وتخفيض أو وقف الزيادات في أسعار المشتقات النفطية إلى حدودها الدنيا وجعلها خاضعة لسوق العرض والطلب دون تدخل حكومي ، وإعادة النظر في الرواتب والمكافاآت الباهظة وإلغاء المؤسسات العامة ، ووضع ضوابط على رواتب التقاعد المبالغ بها ، والحد من الزيادات غير الطبيعية في أسعار الكهرباء والمياه ووسائل الإتصال . أما موضوع الفساد فيبقى أقوى من الحكومة ، وهذا الوضع قد يؤثر على مصداقية الأردن وعلى كفاءة أي برنامج للإصلاح الإقتصادي والذي سيبقى ينزف لصالح تمويل الفساد الكبير .
إن إصلاح النَّهجَيْنِ الإقتصادي والسياسي للدولة الأردنية يتطلب موافقة الدولة العميقة وهو أمر لن يأتي بسهولة . ومسار الأمور حتى الآن يشير بشكل شبه مؤكد على أن الدولة العميقة لا تنوي التخلي عن مواقعها ومكاسبها . وقد جاء إختيار أحد أهم رموزها الموثوقة كنائب لرئيس الوزراء ليؤكد ذلك بل ويؤكد رغبة الدولة العميقة في وجود شخصية قوية ومتمرسة لتعمل كصمام أمان ضد أي إحتمال لجموح الرئيس في إتجاه إصلاحات قد تمس بمصالح الدولة العميقة . وبغض النظر عن خلفية العلاقة بين رئيس الوزراء ونائبه . فإن دور نائب الرئيس الحالي يبقى ضمن إطار مصالح الدولة العميقة قبل أن يكون تكريساً لرابطة البنك الأهلي بين الرئيس ونائبه .
إذا كان هذا هو واقع الحال ، فماذا ينتظر الأردنيون من هذه الحكومة ؟ القليل ربما ولكن ومع ذلك فإن الحكمة تتطلب إعطاء هذه الحكومة الفرصة لإنجاز شئ ما مع إبقاء الأعين مفتوحة على أداء أؤلئك الوزراء الذين ثبت عدم كفاءتهم وكذلك على ممثلي الدولة العميقة ، وإبداء حسن النوايا اللازمة لمساعدة الحكومة على تجاوز أزمة تشكيلها المؤسف وواقعها المحزن .
بقلم/ د. لبيب قمحاوي