حراك رفع العقوبات: مؤامرة أم بداية الخلاص؟

بقلم: هاني المصري

تَبايَنَ تعامل السلطة مع حراك "رفع العقوبات عن غزة" من السماح به، ثم قمعه بصورة غير مسبوقة، إلى حمايته وتوزيع العلم الفلسطيني والمياه على المتظاهرين في بيت لحم ورام الله، إلى العودة مرة أخرى للاحتواء والقمع كما حصل في طولكرم ونابلس.

جرت عملية شيطنة لهذا الحراك من خلال اتهامه بأنه يتساوق مع مؤامرة "صفقة ترامب" تارة، ومع "حماس" تارة أخرى، وطرح أسئلة من نوع: لماذا الآن والرئيس محمود عباس يقاوم صفقة ترامب؟ ومن يقف وراء الحراك؟ ولماذا لم يرتبط بإنهاء الانقسام أو تحميل المسؤولية لـ"حماس" لقيامها بـ"الانقلاب" وعدم موافقتها على تمكين الحكومة؟

ووصل الأمر إلى حد اعتبار الحراك جزءًا من المؤامرة الخارجية على القيادة لإخضاعها أو استبدالها، والدليل ترديد شعارات ضد الرئيس والسلطة، ما يعني أن المنظّمين مندسون وينفذون أجندات خارجية. كما وصل إلى درجة التشكيك بالفصائل المشاركة ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والشبابية المشهود لها بتاريخها المشرف ونضالها المستمر.

لماذا الحراك الآن؟

كان من الممكن أن يبدأ الحراك بُعيد فرض العقوبات، ولكنه تأخّر لأسباب كثيرة، منها اعتقاد الكثيرين أن العقوبات رغم خطئها من حيث المبدأ مجرد تكتيك مؤقت يهدف إلى تحسين شروط المصالحة، أو الأصح شروط تمكين الحكومة أولًا في غزة.

ما يعزز هذا التقدير أن مصادر فتحاوية وحكومية كانت تتناقل أخبارًا مفادها أن العقوبات سترفع بعد مدة قصيرة، ومضى أكثر من عام ولم ترفع العقوبات، بل ازدادت، ما أدى إلى تفاقم الأحوال المعيشية والإنسانية إلى حد ينذر بالانهيار والانفجار، لدرجة أن إسرائيل المسؤولة عما يعانيه القطاع بدأت ومعها الإدارة الأميركية بذرف دموع التماسيح لابسة ثوب الحرص على إنقاذ غزة، وهددت جديًا بخصم فاتورة الكهرباء والرواتب وغيرهما من أموال المقاصة التي تجمعها للفلسطينيين وتحولها للسلطة.

كما عُقدت اجتماعات ومؤتمرات - حتى في واشنطن -  للبحث في تشكيل هيئات وآليات صرف للمساعدات الإنسانية، في حين أن الهدفَ المبطّنَ منعُ تجسيد الدولة الفلسطينية عبر تعميق فصل القطاع عن الضفة، وتحويله إلى انفصال دائم في سياق السعي لتصفية القضية الفلسطينية.

ساهم في اندلاع الحراك في هذا التوقيت مسيراتُ العودة الملهمة للشباب الفلسطيني أينما كان، في ظل زيادة التساؤلات حول عدم تحرك الضفة لتنظيم مسيرات عودة مناظرة ولا تجسيد حقيقي للمقاومة الشعبية السلمية مع تبنيها منذ سنوات عديدة.

كما ساهم في هذا التوقيت تعمّق حالة الغياب وتغييب مؤسسات السلطة والمنظمة بالرغم من عقد المجلس الوطني وسط خلاف كبير بين المشاركين والمقاطعين، الذي لم ينجح في مواجهة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، وفي ظل مرض الرئيس وتداعياته وغموض المستقبل حول الخلافة والتنافس المتصاعد عليها.

ومن دون شك أيضًا، فإن تسارع الجهود الأميركية والإسرائيلية لتنفيذ صفقة ترامب، وتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، حفّز قطاعات متزايدة من الشعب الفلسطيني إلى ضرورة التحرك قبل فوات الأوان، على أساس أن رفع العقوبات هو المدخل المناسب لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة القادرة على قبر الصفقة قبل أن تولد.

لماذا رفع العقوبات أولًا؟

بات رفع العقوبات أولًا خطوة تزداد إلحاحيتها في ظل تزايد المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية، ولأنها توفر الظروف المناسبة لإنجاز الوحدة، ولأن مسؤولية السلطة توفير حقوق المواطنين، وليس استخدام العقوبات كذريعة لتحقيق أهداف سياسية، مثل خضوع "حماس" لشروط الرئيس، أو ثورة المواطنين عليها، وهذا ولا ذاك تحققا، بل على العكس من ذلك، جرى تحميل السلطة المسؤولية عما يعانيه القطاع بصورة أكبر بكثير مما كان قبل فرض العقوبات.

لا ينفع هنا ربط رفع العقوبات بإنهاء الانقسام و"الانقلاب"، لأنه لا يمكن قبول أن يدفع شعبنا في قطاع غزة جريرة جريمة لم يرتكبها، وخصوصًا أن الرواتب التي خفضت بشكل كبير وأن الذين أحيلوا إلى التقاعد المبكر والذين تضرروا من انقطاع الكهرباء والحرمان من العلاج هم أولًا الموظفون الذين طلبت منهم السلطة الاستنكاف في بيوتهم ومعظمهم ينتمون إلى "فتح"، ثم عاقبتهم الآن بدلًا من معاقبة من اتخذ القرار، الذي كان هدية مجانية مكّنت "حماس" من تحقيق السيطرة على السلطة في غزة بسرعة قياسية.

هل من المعقول أن نترك شعبنا جائعًا، ويعاني من البطالة والفقر وانتشار المخدرات، وارتفاع معدلات الجريمة والأمراض إلى حين إنهاء الانقسام؟ من يطالب بذلك ليضع نفسه مكان ابن غزة وهل يقبل أن يعيش في هذا الجحيم إلى حين إنجاز الوحدة أو خضوع "حماس" الذي لا يستطيع أحد أن يحدد موعدًا قريبًا لتحقيقه.

هنا يبرز سؤال: لماذا لم يَثُر القطاع على سلطة "حماس"؟

أولًا، لأن "حماس" رغم مأزقها العميق بسبب عدم القدرة على الجمع بين السلطة والمقاومة، وعدم تقديم نموذج إيجابي لحكمها، ما زالت قوية لتعدد مصادر دعمها.

وثانيًا، لأن شعبنا في غزة، بما فيه "حماس"، ضحية الحصار والعدوان الإسرائيلي المستمر، رغم كل الذي يقال بحق أو من دون حق حول السياسة التي اتبعتها.

وثالثًا، لأن السلطة كانت مرتبكة، تتحدث عن الخلل الفني تارة، وعن ضرورة تمكين الحكومة أولًا تارة أخرى، وعن قرارها بحل أزمة الرواتب قريبًا، ما أفقد روايتها لأي مصداقية، ولأن السلطة أيضًا مسؤولة، والتزمت كما جاء في بيان الموازنة الذي ألقاه رئيس الحكومة رامي الحمدالله، وجاء فيه أن الحكومة خصصت 100 مليون دولار شهريًا للقطاع، تشمل الرواتب من دون ربط ذلك بتمكين الحكومة، مضيفًا أنه في حال مُكِّنت الحكومة ستصرِف رواتب 20 ألف موظف مدني من الذين عينتهم "حماس".

تتعرض القضية الفلسطينية، وأداة تجسيدها الشعب الفلسطيني، لمخاطر شديدة تستهدف تصفيتها من مختلف أبعادها، في حين يجري المبالغة في تصوير الأمر وكأن المؤامرة تستهدف القيادة بشكل أساسي، وبالتالي يجب أن يعلو الدفاع عن القيادة على أي شيء آخر.

لنأخذ العبرة مما حصل سابقًا لكي لا نحافظ على القيادة وتضيع القضية، إذ اعترفت إسرائيل في اتفاق أوسلو بالمنظمة ودور القيادة، ولم توافق على أي حق من الحقوق الفلسطينية، ما ساهم في وصولنا إلى ما نحن فيه.

في هذا السياق، تتطلب حماية القضية من التصفية دعم القيادة لمنع خضوعها أو بلورة "قيادة بديلة عميلة"، وإشراك الشعب ومختلف القوى في المعركة وليس التعامل معه كقطيع يسير وراء القيادة من دون مشاركته مشاركة حقيقية في القرارات والسياسات.

إن وضع خطة عملية ملموسة بمشاركة الكل الوطني تستند إلى رفض الرئيس الشجاع لصفقة ترامب وصموده، تتطلب من كل الأطراف، وخاصة الرئيس و"فتح" و"حماس"، دفع كل الأثمان المطلوبة لإنجاز وحدة وطنية حقيقية.

ليس من اللائق اتهام شركاء النضال والمصير الواحد من القوى والشخصيات والمؤسسات التي تساهم بفعالية في النضال ضد الاحتلال ومخططاته المعادية، وعدم الإشارة إلى المنظمات والأفراد الذين يتساوقون أو ممكن أن يتساوقوا مع صفقة ترامب، وهؤلاء لا تجدهم في الحراك، وعناوينهم معروفة.

نعم، هناك قلة في الحراك تطرح رؤية متطرفة عن جهل وقلة خبرة أو لأي سبب آخر، وهي لا ترى أهمية لإنهاء الانقسام، وتبالغ في انتقاد السلطة، وتعتبرها متساوقة مع "صفقة ترامب"، ورددت شعارات وهتافات ضد الرئيس والسلطة لا تنسجم مع هدف الحراك ورسالته، وهو رفع العقوبات عن غزة، وهذا الأمر لا يعطي للسلطة حق القمع، فمن حق أي شخص أو أي مجموعة من الأشخاص أن تعتقد بأي رأي وتدافع عنه شريطة عدم استخدام العنف لتحقيقه، وبالتالي من حق أصحاب هذه الآراء التظاهر مع أن ما تردده من شعارات يستخدم كذريعة لقمع الحراك واعتباره جزءًا من المؤامرة ضد الرئيس ومن أجل تمرير صفقة ترامب.

القمع الذي مورس في الضفة مرفوض مثلما مرفوض القمع الذي قامت به "حماس" في غزة وعليها أن تسمح بالتظاهر للجميع، وخصوصًا للمتضررين من العقوبات، فالإنسان أغلى ما نملك، وصون حرياته وحقوقه في كل الظروف والأحوال هي الضمانة لتحقيق الأهداف والحقوق والطموحات الفلسطينية.

ليس نهاية الدنيا، ومفترض ألا يصيب السلطة الذعر ويتحكم بها هاجس المؤامرة إذا ردد عشرات المتظاهرين شعارات متطرفة، ما دام الطابع الجوهري للحراك معروفًا وواضحًا وضوح الشمس، وهو رفع العقوبات عن غزة من أجل إنهاء الانقسام وإسقاط "صفقة ترامب". فحرية التعبير مقدسة والتظاهر حق وليس منة من أحد، والتعددية بكل أشكالها ميزت الشعب الفلسطيني منذ انطلاق حركته الوطنية، وهي أهم مصادر استمرار قضيته حية، ومناعته، وتطوره، والشرط الأول لانتصاره القادم حتمًا.

وأخيرًا، يذكرني ما يجري من تبني شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، بما شهدته المنطقة العربية أيام مرحلة النهوض والإنجازات الكبرى، حين رفع هذا الشعار بحجة أن وقت الحقوق والحريات والتنمية والديمقراطية والمشاركة بعد التحرير والاستقلال الوطني، أو زوال الخطر، لنصل إلى وقت لم تعد هناك معركة، وضاعت القضية على جثة الحقوق والحريات.

نعم للحرية واحترام الرأي والرأي الآخر بلا حدود، ولا حق لأحد في إصدار صكوك التخوين والتكفير واحتكار الوطنية والدين والحقيقة، فرأيي صواب يحتمل الخطأ والرأي المختلف معي خطأ يحتمل الصواب.

بقلم/ هاني المصري