الإنسان حين يفقد الأمل تتحول حياته في هذه الدنيا إلى حالة من العبث واللاجدوى؛ ونستحضر قول الطغرائي المشهور من شعره:-
أعلل النفس بالآمال أرقبها**ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
الأمل في مقالتي هذه يتعلق بمسألة أو أمر شغل العالم عموما، والعربي خصوصا في الأيام القليلة الماضية، وأعني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا.
رأينا ونرى سيلا عارما من التحليلات والتعليقات والمدح والقدح والتحفظ وغير ذلك مما فاضت به مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بشتى توجهاتها.
بديهة هذا السيل من التفاعل والمتابعة لتلك الانتخابات دلالة واضحة على أهميتها في أعين الناس عامتهم وخاصتهم، ولقد كُتب وسيكتب كثير من الكلام، وقيل وسيقال كثير من الأقوال، عن هذه الانتخابات ونتائجها، وإذا تناولت الأمر من هذه الزاوية فلا جديد لدي كي أضيفه تقريبا، بل مجرد تأكيد أو موافقة على آراء مطروحة.
ولكن كما قلت أعلاه فإن حديثي عن الأمل؛ فشعوب منطقتنا تقريبا فقدت الأمل، وصار اليأس والإحباط رفيقا لها في كل حيثيات الحياة، وازداد هذا الشعور عمقا، بعد انتكاسات وهزائم متلاحقة، كان آخرها نجاح الثورة المضادة في تثبيط مسار الثورات العربية.
ولكن الشعوب وإن فقدت الأمل، فإنها لم تترك البحث عنه والتمسك به؛ فهذه شعوب تطلعت بشغف إلى إنجاز أو انتصار ولو حتى في لعبة كرة قدم...فهي شعوب عطشى لنيل أي مكسب ولو معنوي، يمنحها الأمل الضروري للاستمرار.
والأمل باعث على الشفاء والنهوض والنشاط وعلوّ الهمة، خاصة حيت تدلهم الخطوب وتكثر المحن والابتلاءات والمصائب، وما أكثر ما حلّ بالأمة منها خلال المئة سنة الأخيرة.
ولعل أغلبنا قد قرأ أو سمع أو شاهد تجسيدا فنيا لقصة مريض في المشفى انطبع في ذهنه أن حياته ستنتهي حين تسقط آخر ورقة عن شجرة مقابلة لغرفته، فراح يراقبها، فكان من حنكة بعض الأطباء أن ثبتوا الورقة الأخيرة على الشجرة صناعيا كي يأخذ المريض اليائس دفعة معنوية ويشعر بالتحسن والشفاء، فكان أثر ذلك عليه أفضل من الأدوية والعقاقير.
وبالتالي فإن الرئيس رجب طيب أردوغان والدولة التركية حاليا، يجسدون الأمل لشعوب مقهورة محبطة ممزقة، يتناوب بل يتشاطر نهشها القريب والبعيد، وتداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على القصعة.
وأدرك أن أردوغان لا يملك عصا سحرية، ولم يؤت ما أوتي زعماء آخرون عبر التاريخ من إمكانيات وظروف وبيئة مساعدة على نهضة سريعة سلسلة، فدون الرجل عقبات كأداء، وألغام في الطريق، لا نملك إلا أن ندعو الله -جل وعلا- أن يتخطاها بسلام.
ولكن أردوغان مع صعوبة ظروفه قد منح الأمل، ورفع الروح المعنوية لكثير من أبناء وبنات شعوب هذه الأمة، في أكثر من موقف أو أزمة...أصاب الرجل وأخطأ، تقدم وتراجع، نجح وأخفق في مسيرة عمل وحكم معقد التركيب، أبحر فيه وواجه أمواجه العاتية منذ 15 عاما.
ولكن أي منصف ولو اختلف مع أردوغان أو أبغضه، لن ينكر أنه استطاع بثّ حالة من الأمل في نفوس نسبة كبيرة من المسلمين عامة والعرب خاصة، وهي حالة غير مسبوقة منذ زمن طويل.
وحين صرخ أردوغان في وجه شمعون بيرس في مؤتمر دافوس إبان العدوان على قطاع غزة في حرب الكوانين 2008/2009 وغادر الجلسة، تعلقت به القلوب، ربما هذا الموقف لم يوقف القصف على بيوت غزة ومدارسها، ولكن انتاب الناس أمل جميل قوّى عزيمتهم وشدّ عضدهم.
ومن مرّ بالتجربة الاعتقالية يدرك ما يعتري الأسير من حالة نفسية جيدة حين يزوره محام، أو مندوبين عن الصليب الأحمر، هم لن يخرجوه من سجنه، ولكنه سيأخذ منهم دفعة معنوية يدركها من جرّب الاعتقال.
أردوغان أمل ملايين السوريين الذين راحوا ضحية نظام طائفي، ومعارضة غير حكيمة ولا ناضجة، ومعادلات دولية متوحشة ومعقدة...وفي ليلة الانقلاب الفاشل صيف 2016 لك أن تتخيل شعورهم وقلقهم على مستقبلهم، لو نجح الانقلاب، كيف سيتحولون ضحايا من جديد لحسابات باردة لعواصم لا تقيم للإنسان وكرامته أي وزن أو اعتبار، إلا وفق مصالح مادية بحتة.
وحين قتل جيش الاحتلال الصهيوني عدة مواطنين أتراك على متن سفينة(مافي مرمرة) التي كانت تبحر نحو شواطئ غزة زاود بعض من يحترفون التجريح على أردوغان وسخروا منه وقالوا:فليحرك أساطيل تركيا وجيوشها، كي يثأر لمواطنيه الذين سفكت دماؤهم...وكأن أردوغان يعيش عصر محمد الفاتح أو سليمان القانوني، وكأن له حكم نافذ وقتها على العسكر...والأهم أن من أطلقوا تلك المزايدات السخيفة، ينتسبون إلى كيانات قتل الصهاينة منها أضعافا مضاعفة، قبل أن يمسوا أي مواطن تركي، ولمّا تأخذ تلك الكيانات بثأرها، كما أن من ينتقد أردوغان بأن خطابه عال وصاخب دون تنفيذ واقعي، فإن الرد عليه:أنت تنتسب غالبا إلى جماعة(تجوّع يا سمك) و(الظافر والقاهر) والشعارات الرنانة وتوعد الصهاينة بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولم يتفوّه أردوغان بأي من هذه الشعارات.
ومن الإجحاف والبخس أن ننسى أنه استغل ما جرى للحصول على ما يمكن وفق الظرف الإقليمي والدولي، ووفق المعطيات التركية الداخلية، واتصل بحسني مبارك وطلب منه فتح معبر رفح، واستجاب مبارك، فالمعبر كان مفتوحا منذ ما بعد مجزرة السفينة وليس بعد خلع مبارك.
دبلوماسيا وقف أردوغان مع الجهود والنشاط السياسي الفلسطيني في الأمم المتحدة بكل قوة ودعم وحشد بوضوح وتقدم على الدول العربية في هذا الأمر، ومن السخافة مطالبة أردوغان أن يكون عربيا أكثر من العرب أو فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين، وينسى من يزاود أو يتناسى أن المنظومة العربية والإسلامية في مؤتمرها في دكار قبل 27 سنة أسقطت الجهاد من قاموسها، فلماذا يطلب من أردوغان الذي كان وقتها في بداية حياته السياسية، رفع راية الجهاد وتحرير فلسطين؟! ولماذا نقوّل(بكسر الواو المشددة) الرجل ما لم يقل، ونحمله ما لم يحمله لنفسه، ولم يطرحه لا برنامجا ولا شعارا.
أما دعاة ضرورة إعلان أردوغان الخلافة، كي يثبت لهم حسن نواياه، فلا أدري أي نمط من الخلافة يقصدون، ولكن مع تهافت الطرح فإن أردوغان لم يطرح نفسه خليفة للمسلمين، ولا حتى سلطانا للأتراك، بل خاض انتخابات حصل فيها على نسبة لا تشبه بل بعيدة عن نسبة ما يحصل عليه الزعماء في بلاد المزاودين(99% وأحيانا 100%)، وللرجل برنامج انتخابي معلن يحكم عليه من خلاله، لا من خلال رغبات وأمنيات ومزايدات لا تمت إلى المنطق السياسي السليم بصلة.
ماذا يجني من يريدون قتل الأمل بأردوغان؟ما الفائدة إذا حققتم مرادكم ولم تعد الأمة تتأمل بأردوغان أي خير، هل ستحل مشكلات الأمة وتتحرر القدس وتعم الحرية وينتهي الفساد والاستبداد وتزول البطالة وينحصر الفقر؟بالله عليكم ماذا ستربحون من محاولة قتل الأمل؟دعوا الناس يعيشون الأمل، وهو أمل له بواعثه، فخلال 15 عاما صارت تركيا بحالة أفضل من حالة حكم العسكر البغيض، وبالتأكيد حالتها بعد فشل الانقلاب خير ألف مرة من حالتها فيما لو نجح الانقلاب العسكري.
وإذا كنا نفرح ونتفاءل حين تنهض دول مثل البرازيل وتشيلي وتتحرر ولو جزئيا من قبضة الولايات المتحدة ومن جحيم العسكر، فكيف لا يكون هذا حالنا إذا تعلق الأمر بشعب مسلم تربطنا به علاقات وأواصر تمتد قرونا من الزمن، فقط هذه وحدها تكفي لنفرح بأردوغان، حتى لو لم يقدم شيئا خارج حدود تركيا...ولكن الأمر ليس كذلك، فأردوغان ينشط في الداخل والخارج، والأمل بنجاحه كبير، ومن يريد قتل الأمل لا يفعل خيرا للأمة.
ومما يثير الدهشة المضحكة؛ أن مهاجمي أردوغان على خلاف مشاربهم الأيديولوجية والسياسية، قد تركوا كل المستبدين والفاسدين والفاشلين والقتلة والمجرمين والمطبعين مع الصهاينة في بلاد العرب والمسلمين، وصار أردوغان هو الشر المطلق الذي تجتمع فيه صفات لو نظر كل منهم أمامه لوجد من عنده وقرب أنفه من هو أولى بالهجوم أو النقد أو الاتهام...ولكن يبدو أن القوم يستسهلون شتم أردوغان والمزايدة عليه واتهامه، لأسباب معروف أغلبها.
إن أردوغان حاليا يمثل أملا كبيرا، وفي غمرة انشغاله بنهضة شعبه ودولته وتطوير بناها التحتية، وتحسين ظروفها الاقتصادية، بالتوازي مع مساعدة العرب والمسلمين بما تسمح به إمكانيات دولته مع هامش المناورة الذي حاول وسيظل يحاول تجاوزه وسينجح أحيانا وقد لا ينجح أحيانا أخرى، حتى يأتي أمرالله...ومن يريد ويسعى بلسانه أو قلمه أن يقتل هذا الأمل، ليعلم أنه سيفشل، وإذا كان فعلا يحرص على أمته فليعلم أنه بمحاولة قتل الأمل فإنه يضرّ أمته ولا ينفعها البتة.
كان الله في عون أردوغان ووفقه لخدمة تركيا وسائر المسلمين.
بقلم/ سري سمّور