حين ترفد اللهجات الفلسطينية اللغة العربية

بقلم: تحسين يقين

فلسطين!

أي غنى!

تسألني عن بلادي، فأذكر كل ما هو جميل وإبداعي؛ تلك الحضارة التي حملناها من هنا إلى قرطاج، والتي ما زلنا نحملها إلى أبعد مدى..

-       اللهجات الفلسطينية وأثرها في رفد وتغذية اللغة العربية؟

-       سؤال ذكيّ وجاد، وإجابة نجتهد فيها، لعل السؤال أكثر ذكاء أحيانا من الإجابة..!

-       .....................؟

-       لأنه يستفز أجمل ما فينا للتفكير والشعور..

تتجلى خارطة اللهجات الفلسطينية تبعا للجغرافيا على الأرض، فهناك إذن ما يعرف بجغرافيا اللهجات، وهي على شكلين، داخلي وعلى الحدود، وهما مرتبطان ببعضهما بعضا على النحو:

-       حسب الأقاليم المناخية، فإن لكل إقليم لهجة خاصة، وفي الوقت نفسه، فإن داخل الإقليم الواحد نفسه توجد عدة لهجات؛ فمثلا في الجبال الداخلية على طول غرب نهر الأردن، من جبال النقب جنوبا حتى الجليل الأعلى شمالا، فإن للجبل الفلسطيني لهجة مميزة، يتخلله عدة لهجات، فلو أخذنا مثلا منطقة القدس، سنجد أن هناك لهجة مدينية خاصة بأهل مدينة القدس، وهناك لهجة للقرويين، لكن الغريب أن لكل منطقة من القرى حسب الجهات، سنجد عدة لهجات، حيث تختلف لهجة غرب القدس المتوسطة بين الساحل والبرية عن شرقها الأقرب للبرية وغور الأردن. والأكثر غرابة، أن هناك تباينا واضحا بين القرى المنضوية في المنطقة الواحدة، فلهجة قرية قطنة مثلا تختلف عن لهجة القبيبة اللصيقة بها. بقي أن نقول، وهذا من غنى اللهجة في فلسطين، أن داخل القرية الصغيرة عدة لهجات، واستخدامات لغوية مختلفة من عائلة لأخرى، قد لا يميزها إلا القريب من البلد.

كذلك، فإن البيئة الطبيعية والعلمية تلعب دورا في تشكيل اللهجات، والمفردات، تماما كأية لغة وأية لهجة في العالم.

-       حسب حدود فلسطين، ونقصد بذلك أن اللهجات في الأقاليم الفلسطينية الحدودية تقترب من الأقاليم العربية القريبة واللصيقة؛ فمن الطبيعي تأثر لهجة غزة مثلا بلهجة سيناء وما حولها وصولا إلى الإسماعيلية. في حين أن لهجة شمال فلسطين تقترب من لهجة جنوب لبنان وهكذا.

وهما يتداخلان، من حيث الموقع الداخلي وبعده أو قربه من الحدود، وهكذا فإن أية بقعة فلسطينية تحمل لهجة خاصة بها، تختلف عن البعيد وتقترب من القريب.

وإقليم فلسطين المعروف اليوم هو جزء من إقليم الشام، وله سمات تطور اللغة العربية هنا، خصوصا حين أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، بعد الفتوحات.

وقد تعايشت اللهجات المحلية مع اللغة العربية، لسبب بسيط، وهو أن اللغة العربية أصلا تعايشت مع اللغات المستخدمة هنا، ومعروف أن الدولة العربية استخدمت لغات غير عربية في دواوين الدولة، وصولا إلى تعريبها، فكان الأولى أن تتعايش اللغة مع اللهجات، والتي خلال هذا التعايش كونت تفاعلا مدهشا، حيث تعربت اللهجات الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، فقد دخلت اللغة العربية الكثير من المفردات والأسماء.

وفلسطين التي توصف بمهد الأبجدية الأولى، وما مرّ عليها من حضارات وغزاة، فقد تأثرت ثقافيا ولغويا، منذ تكون المدينة الأولى في العالم في أريحا، حتى وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما بينهما من حضارات ودول مرت من هنا، أطالت في مكوثها أم قصرت.

لقد شكلت اللهجات الفلسطينية الناتجة أصلا من لغة الفلسطينيين على مر العصور واللغة العربية منبعا للغة العربية، حيث زادت من مفرداتها من جهة، ونشرت اللغة العربية من جهة أخرى، كون أن الكثير من المفردات في اللهجات هي أصلا قادمة من اللغة العربية، مع تحويرات بسيطة.

واليوم في ظل تنوع جغرافيا اللهجات الفلسطينية، من لهجات مدينية وقروية وبدوية، وفي ظل خصوصيته الجميلة، في إضفاء الحيوية على المجتمع، للتعريف بمكان المنشأ، وفي ظل انتشار التعليم والوسائل التكنولوجية، فإن الجيل الجديد اليوم صار يتقارب في اللهجة، بل نجد أن هناك سمات جديدة تدخل الحياة الفلسطينية:

-       ميل فئة الشباب لاستخدام اللهجة المدينية، ساهم في ذلك تحولات المجتمع الفلسطيني، وتغير الوظائف والمهن.

-       ميل فئة الشباب لاستخدام اللهجة السورية واللبنانية تأثرا بالمسلسلات، خصوصا الفتيات.

-       ميل الفئة نفسها لاستخدام اللغة الانجليزية.

-       ميلها لاستخدام الحروف اللاتينية.

وعليه، تشكل اللهجات الفلسطينية والعربية تحصينا للغة العربية، بدلا من الذوبان في اللغات الأخرى، بحيث تصبح اللهجة دافعا قويا للحرص على اللغة الأم.

للهجات الفلسطينية إذن دور يرفع من اللغة العربية، من خلال استمرار حالة التفاعل اللغوي، ومنها:

-       استخدام القوالب اللحنية في الغناء الفولكلوري وغيره، حيث يتم هنا التشجيع على العربية كون اللهجة الفلسطينية هي لهجة عربية مفهومة.

-       استخدام اللهجات القريبة من الشام ومصر، والتي تزيد من حالة التفاعل العروبي، وبالتالي يكون لها دور إيجابي على الثقافة واللغة العربية.

-       إدخال اللهجات من خلال الحوار في القصص والروايات، مما يجذب الأجيال الجديدة.

-       إدخال اللهجة في الأفلام والمسلسلات الفلسطينية يمنح الفنون حيوية، وبالتالي يقرّب الجمهور من ثقافته العربية، باعتبار أن الثقافة الفلسطينية والفنون إنما هي عربية.

ان التخاطب باللهجة الفلسطينية كلهة عربية اصيلة يوفر بديلا حيا عن استخدام اللغات الأخرى؛ خصوصا أنه في ظل جغرافيا اللهجات الفلسطينية هنا، فإنه من الأهمية بمكان الانتباه إلى أن الفلسطينيين أينما كانوا يفهمون بعضهم بعضا بسهولة، كون هذه الهجات لا تبعد عن اللغة العربية إلا لتقترب منها.

ولعل من المفيد تأمل ظاهرة لهجات اللاجئين الفلسطينين في الأردن وسوريا ولبنان، وداخل فلسطين نفسها، حيث استطاع اللاجئون الاحتفاظ بخصوصياتهم الفنية واللغوية، وفي الأزياء، والطعام والشراب، حيث شكل اللهجة الفلسطينية المتوارثة قوة لعروبة اللاجئ أينما حل، خصوصا في ظل الشتات والتشتت والفقر.

إن الأدب الفلسطيني والفنون الفلسطينية بما تحتويه من لهجات فلسطينية تساهم في النهوض الثقافي، ةتجعله حيويا، خصوصا ان ذلك كله يتم في النطاق العام للغة العربية.

من ذلك مثلا يمكن عقد مقاربات ومقارنات بين الشعر الشعبي وأوزانه وموسيقاه مع الشعر التقليدي، مما يعني أنه ليس هناك تناقضا بين العربية ولهجاتها، بل هناك تكامل وانسجام وحيوية.

من جهة أخرى، فإن اللهجة الفلسطينية المستخدمة في الفضاء الافتراضي ساهمت في الوحدة الشعورية، كما قربت بين الفلسطينيين في أماكن إقامتهم الدائمة والمؤقتة، كذلك كانت مجالا للتفاعل مع الشباب العربي.

وأخيرا نختتم بهذه القصيدة الشهيرة في الأدب الشعبي، والتي تم غناؤها من قبل فرقة العاشقين، وهي من تأليف شاعر الثورة نوح إبراهيم، ألفها بعد إعدام الشهداء الثلاثة في عكا يوم الثلاثاء 17 يونيو 1930، وقد اشتهرت القصيدة فلسطينيا وعربيا أكثر من قصيدة شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان التي حملت اسم "الثلاثاء الحمراء".

كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت

أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد

وصاروا مثل يا خال وصاروا مثل يا خال

طول وعرض لبلاد…

يا عين…..

نهوا ظلام السجن يا أرض كرمالك

يا أرض يوم تندهي بتبين رجالك

يوم الثلاثا وثلاث يا أرض ناطرينك

من اللي يسبق يقدم روحه من شأنك

يا عين….

***

من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي

جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه عموما

محمد جمجوم ومع عطا الزير فؤاد الحجازي عز الدخيرة

أنظر المقدم والتقاديري بحْكام الظالم تيعدمونا

ويقول محمد أن أولكم خوفي يا عطا أشرب حصرتكم

ويقول حجازي أنا أولكم ما نهاب الردى ولا المنونا

أمي الحنونة بالصوت تنادي ضاقت عليها كل البلادي

نادوا فؤاد مهجة فؤادِ قبل نتفرق تيودعونا

بنده ع عطا من وراء البابِ أختو تستنظر منو الجوابِ

عطا يا عطا زين الشبابِ تهجم عالعسكر ولا يهابونَ

خيي يا يوسف وصاتك أمي أوعي يا أختي بعدي تنهمي

لأجل هالوطن ضحيت بدمي كُلو لعيونك يا فلسطينا

ثلاثة ماتوا موت الأسودِ جودي يا أمةبالعطاجودي

علشان هالوطن بالروح جودي كرمل حريتو يعلقونا

نادى المنادي يا ناس إضرابِ يوم الثلاثة شنق الشبابِ

أهل الشجاعة عطا وفؤادِ ما يهابوا الردى ولا المنونا

إنها قصيدة باللهجة الفلسطينية، وقد أثرت بثقافتنا العربية المقاومة للاستعمار حتى الآن.

وللحديث بقية!

تحسين يقين