لم تقتصر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، خلال العامين الماضيين، على قتل عشرات آلاف المدنيين وتسوية الأحياء السكنية بالأرض، بل امتدت لتطال الذاكرة الجمعية للفلسطينيين عبر استهداف مباشر لمواقعهم الأثرية، وفي مقدمتها قصر الباشا في البلدة القديمة بمدينة غزة، أحد أهم المعالم التاريخية في فلسطين، الذي تحوّل إلى ركام بعد نهب مقتنياته.
ويؤكد مختصون ومسؤولون محليون أن القصر، الذي يعود للعصر المملوكي ويُقدّر عمره بنحو ثمانية قرون، تعرّض لتدمير واسع النطاق وسرقة ممنهجة لما يزيد على 20 ألف قطعة أثرية نادرة، في ما يصفونه بـ"جريمة ثقافية مكتملة الأركان" تستهدف طمس هوية غزة التاريخية.
دمار يطاول أكثر من 70% من القصر
حمودة الدهدار، خبير التراث الثقافي في مركز حفظ التراث بمدينة بيت لحم، يصف ما جرى لقصر الباشا بأنه "خراب عام" أصاب المكان ومعناه الرمزي.
يقول في حديثه: "قصر الباشا واحد من أبرز المعالم التاريخية الباقية في غزة. يعود للعصر المملوكي، وعمره يناهز ثمانية قرون، لكن العدوان الأخير دمّر أكثر من 70 في المئة من مساحته وألحق أضرارًا جسيمة ببنيانه".
ويضيف أن القصر كان يحتضن مجموعة واسعة من اللقى الأثرية التي تمثل تعاقب حضارات متعددة على غزة، من البيزنطية والرومانية إلى العثمانية، مشيرًا إلى أنه تعرّض أيضًا لأضرار سابقة خلال عمليات عسكرية إسرائيلية قبل الانسحاب من القطاع عام 1994.
بعد ذلك، أعادت السلطة الفلسطينية ترميم القصر وحوّلته إلى متحف أثري مفتوح للجمهور، قبل أن يعود مرة أخرى هدفًا للاجتياح والتدمير خلال الحرب الأخيرة، حيث "تعرض لنسف ممنهج وسرقة محتوياته من الداخل"، وفق الدهدار.
ويشير الخبير إلى أن فرق التراث تعمل اليوم، بالتعاون مع مؤسسات محلية ومركز حفظ التراث في بيت لحم، على تنفيذ ما يصفه بـ"مشروع إنقاذ عاجل" يقوم على استخراج ما أمكن من القطع الأثرية المدفونة تحت الركام، وتأمين الأجزاء المعمارية القابلة للترميم مستقبلًا.
أكثر من 316 موقعًا ومبنى أثريًا تحت القصف
من جانبه، يؤكد مدير المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إسماعيل الثوابتة، أن استهداف قصر الباشا ليس حالة استثنائية بل جزء من "سياسة ممنهجة" طالت عشرات المواقع الأثرية في القطاع.
ويقول: "المعطيات الرسمية تشير إلى أن جيش الاحتلال دمّر كليًا أو جزئيًا أكثر من 316 موقعًا ومبنى أثريًا في قطاع غزة، معظمها يعود للعصرين المملوكي والعثماني، إضافة إلى مواقع أقدم ترتبط بالقرون الأولى للهجرة والحقبة البيزنطية".
ويضيف أن ما جرى "لم يكن مجرد تدمير عشوائي بفعل القصف، بل نهب منظم للآثار، وهو سلوك يجرّمه القانون الدولي ويُعد اعتداءً مباشرًا على التراث الإنساني، وليس الفلسطيني فقط".
وبحسب الثوابتة، فإن متحف قصر الباشا كان يضم قبل اجتياحه أكثر من 20 ألف قطعة أثرية نادرة، تمتد زمنياً من عصور ما قبل الميلاد وحتى الفترة العثمانية. ويقول:"بعد اقتحام المبنى في البلدة القديمة وتدميره ونسفه من الداخل، اختفت جميع هذه المقتنيات. لم يُعثر على أي قطعة منها بعد انسحاب القوات، وهو ما يثبت تعرضها للسرقة والتهريب".
ويصف ما جرى بأنه "جريمة سرقة ثقافية" تستهدف محو الشواهد المادية التي تؤكد الوجود التاريخي للفلسطينيين على هذه الأرض.
نموذج نادر لفلسفة العمارة الإسلامية
قبل تدميره، كان قصر الباشا يُعد، وفق دليل أثري أصدرته وزارة السياحة والآثار في غزة عام 2022، من أهم النماذج المعمارية الباقية التي تجسد تطور العمارة الإسلامية في فلسطين، وخاصة الطراز المملوكي.
يقع القصر في حي الدرج شرق البلدة القديمة، ويتكوّن من مبنيين يفصل بينهما فناء وحديقة داخلية، فيما يطل مدخله الرئيس على الواجهة الجنوبية للمبنى الشمالي، التي كانت تعد من أجمل واجهاته زخرفة وتكوينًا.
ويشير الدليل إلى أن القصر لا يحمل لوحة تأسيسية تحدد تاريخ بنائه، لكن الشواهد الأثرية الموجودة فيه، وعلى رأسها شعار الأسد المزدوج المنحوت على بوابته الرئيسية، تؤكد أنه يعود إلى الفترة المملوكية، إذ يُعد هذا الشعار رمزًا معروفًا لدولة المماليك، واستخدم آنذاك للدلالة على انتصار المسلمين على الغزوين المغولي والصليبي.
وتتزين واجهة القصر بزخارف حجرية معقدة تُعرف بـ"الأطباق النجمية"، إلى جانب عقود مدببة ونصف دائرية وعقود "حدوة الفرس" التي تُعد من أبرز سمات العمارة الإسلامية في تلك الحقبة، بما يعكس مستوىً رفيعًا من الحرفية والجمال المعماري.
وقد خضع قصر الباشا لثلاث مراحل ترميم رئيسية أعوام 2005 و2010 و2014، نفذتها وزارة السياحة والآثار بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بهدف تحويله إلى متحف حكومي مفتوح يروي تاريخ غزة وحضارتها لطلبة المدارس والزوار والباحثين.
تعدّد الأسماء... وثبات المعنى
عبر قرون من التاريخ، حمل قصر الباشا تسميات مختلفة عكست التحولات السياسية التي شهدتها غزة، لكن مكانته كأحد أهم معالمها ظل ثابتًا.
في العصر المملوكي كان يُعرف باسم "دار السعادة"، قبل أن يحمل لاحقًا اسم "قصر آل رضوان" نسبةً إلى العائلة التي حكمت غزة خلال العهد العثماني بين عامي 1556 و1690.
وأثناء حملة نابليون على غزة عام 1799، سيطرت القوات الفرنسية على القصر لفترة وجيزة واتخذته مقرًا لها، فبات السكان يطلقون على جزء منه اسم "قلعة نابليون".
وفي أواخر العهد العثماني، استمر القصر في أداء دوره كمقر لوالي غزة، ثم تحوّل مع دخول الانتداب البريطاني عام 1918 إلى مقر للشرطة، وعُرف آنذاك باسم "الديبويا".
ومع الإدارة المصرية لقطاع غزة (1959–1967)، استخدم المبنى مقرًا لمدرسة "الأميرة فريال"، قبل أن يُعاد تسميتها بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952 إلى مدرسة الزهراء الثانوية للبنات.
اليوم، وبعد أن تحوّل هذا الشاهد التاريخي إلى أكوام من الحجارة المهدمة، يرى المختصون أن المعركة على قصر الباشا تتجاوز حدود الجدران المنهارة، لتصبح معركة على الذاكرة نفسها؛ الذاكرة التي تحاول فرق التراث إنقاذ ما تبقّى منها من بين الركام، في مواجهة ما يصفونه بـ"حرب موازية" تستهدف الإنسان والمكان والتاريخ في آن واحد.



