ليست "صفقة القرن" أكثر من عملية أمريكية لطهي الحصى، ومحاولة إسرائيلية لاستنبات البذور في الهواء، وهناك من عرب الخليج – للأسف - من يدفع سراً وعلانية لتسويقها والترويج لها!!
لم تكن أمريكا يوماً وسيطاً نزيهاً في الصراع العربي الإسرائيلي، كما أنها كانت منحازة إلى جانب الحكومات اليمينية المتطرفة، خلال فترة المفاوضات التي سبقت أو أعقبت اتفاق أوسلو، وهي التي وفَّرت الغطاء للتمدد الاستيطاني في الضفة الغربية، وسمحت للمتطرفين اليهود بالتعدي على الأماكن الإسلامية المقدسة، والتجاوز عن الانتهاكات التي كانت تجري على قدم وساق في تهويد تلك الأماكن وفرض سياسة الأمر الواقع، وجعلت من الفيتو الأمريكي درعاً واقياً لحماية إسرائيل من الاتهام بارتكاب "جرائم حرب" وانتهاكات بحق الإنسانية، خلال حروبها العدوانية واعتداءاتها المتكرر على قطاع غزة.
أمريكا - للأسف - لم يكن لها يوماً رؤية منصفة للسلام وإنهاء الصراع، وكل ما أنجزته في اتفاق كامب ديفيد (1978) واتفاقية وادي عربة (1994) كان لصالح إسرائيل بالدرجة الأولى، بهدف إخراج دول الجوار من حلبة الصراع!!
لذلك، عندما يأتي الحديث عن صفقة أمريكية لحلِّ الصراع بعيداً عن مشاركة عربية وإسلامية أو دولية تتعاظم شكوك الفلسطينيين وتوجساتهم، وخاصة أن الجهة الوحيدة المطلعة والمتابعة لمجريات تلك الطبخة الأمريكية هي إسرائيل وحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة!! بل يقال إن الحبكة التي تدور حولها تلك الصفقة هي بالدرجة الأولى إسرائيلية، والدول العربية التي يتم الجلوس معها وإحاطتها ببعض الأفكار المتعلقة بتلك الصفقة، والتي يجري تداولها بين حكومة نتنياهو وإدارة الرئيس ترامب، إنما هي لبحث إمكانية تسويقها على الفلسطينيين!! ربما كانت الخطوط العريضة لتلك الصفقة هي ما يتم تداوله على ألسنة بعض السياسيين والإعلاميين، ولكنَّ بنودها التفصيلية ما تزال حتى اللحظة يكتنفها الغموض.
تحدث الأستاذ تيسير محيسن، الباحث والمفكر الفلسطيني، حول موضوع "صفقة القرن"، وأشار بأن مواقف الفلسطينيين تجاهها تراوحت بين الإعلان عن رفضها ورفض التعاطي معها، وبين الادعاء بأنها أُسقطت فعلاً. وأضاف: إن هناك من أقسم أنها لن تمر، وهناك من رفض مقابلة ممثلي الإدارة الأمريكية، وتساءل مستنكراً: لكن ماذا أعدَّ الفلسطينيون غير ذلك؟ وعلى ماذا يراهنون؟ ما هي بدائلهم وخياراتهم؟ للأسف؛ ما من أحد هناك يعطي إجابة!!
ولمن لا يعرف، فإن "صفقة القرن" هي تصور أمريكي لحل المسألة الفلسطينية طبقاً للرؤية الإسرائيلية، وهي عبارة عن دينامية أطلقت، وعملية تتدحرج وليست موقفاً مجرداً. والعجب كل العجب، أن مقتضى الرفض وامتلاك القدرة على الإسقاط والإفشال، يتطلب قبل أي شيء آخر، أن يجتمع الفلسطينيون على هدف الرفض وبرنامج الإفشال بجميع أطيافهم، ومن بين شروط ذلك تجاوز "كل" خلافاتهم الداخلية. ومن ثمَّ التوجه مجمعين ومجتمعين إلى العرب والإقليم والعالم بموقفهم الموحد والواضح، مطالبين بالدعم والإسناد.
ويضيف الأستاذ محيسن قائلاً: للأسف؛ فبدلا من أن يفعلوا ذلك، اختاروا "الانتظار" ودفن الرؤوس في الرمال!! ثم أدخلوا الموقف من الصفقة ضمن منطق انقسامهم، حيث إن كل واحد منهما يتهم الطرف الآخر بالتواطؤ مع الصفقة!!
في الحقيقة، لقد قلنا - كما قال غيرنا في الساحة الفلسطينية - إن شرط إسقاط الصفقة يكمن في وحدة حالهم "على قلب رجل واحد"، وتخليهم عن منظومة الوهم التي كبلت طويلاً إرادتهم وقدرتهم على الفعل والتأثير!!
ربما هذا الرأي لا يختلف عليه اثنان في وطننا المحتل، ولكن من يقنع طرفي الأزمة بأن تحدي الرئيس ترامب ووقف إدارته عند حدِّها يستلزم اجتماع "الكل الفلسطيني" على موقف واحد، وخلف قيادة واحدة تحققها المصالحة وإنهاء الانقسام.
نأمل أن يصدق ما يتم تداوله إعلامياً حول حكومة وحدة وطنية جديدة قائمة على الشراكة السياسية، وبمهمة لتصويب البوصلة واستعادة الرؤية والمسار السياسي، وبهدف قطع الطريق أمام ما تحمله "صفقة القرن" من مخاوف وسلبيات. حيث إن "صفقة القرن" التي تعتزم الولايات المتحدة تقديمها تستند على افتراض أن الفلسطينيين ليس لديهم الإرادة أو القدرة على المقاومة. وهذه الفرضية قد تكون صحيحة في ظل الانقسام، ويمكن تفهمها إذا ما استمرت حالة المراوحة في المكان والاكتفاء بتبادل الاتهام!!
صفقة القرن.. قراءة من منظور فكري
أورد د. عبد الستار قاسم؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة النجاح، رأياً توضيحياً لا يمكننا إنكار ما فيه من الوجاهة حول فرص النجاح والفشل بالنسبة لصفقة القرن، حيث أشار إلى أن المنطق الجدلي يقول: إن الحلول الجزئية لمشكلة كلية لا يمكن أن تنجح، وإن ثقل التاريخ بأبعاده الدينية والسياسية والوطنية والثقافية والحضارية عموماً أقوى من كل الأسلحة. فالقضية الفلسطينية كل متكامل لا يتجزأ، ومهزوم كل من يحاول تجزئتها، والدليل على ذلك هو فشل الكيان الصهيوني والدول الغربية والحكام العرب وقادة فلسطين إلى الآن في التوصل إلى أية حلول جزئية لها، وسيفشلون. إن ترامب يقارب القضية الفلسطينية بجزئيات منعزلة، ويفكر بالشعب الفلسطيني على أنهم أفراد منعزلون. منطقياً، المشاكل العضوية التي تشكل كلاً عضوياً متكاملاً لا يمكن معالجتها بمقاربات جزئية عددية. فقضية فلسطين هي قضية شعب متكامل لا يتجزأ ولا ينفصل أبناؤه، فلا حل دولتين سينهي القصة، ولا تجميد الاستيطان. ودعهم يحاولون. لقد حاولوا مراراً وتكراراً وفشلوا. في النهاية، يجب أن تكون المقاربة من جنس المشكلة، وما دام الغرب لا يريد الاعتراف بالمشكلة كما هي ويريد فقط الدوران حولها، فإنه لا حل إلا الحل الذي يفرضه الذين يعانون المشكلة.
الناشط الأمريكي من أصول فلسطينية د. رمزي بارود أشار في مقال له على موقع "فورين بوليسي جورنال"، قائلاً: إن ما يسمى "صفقة القرن" إنما هي مجرد إعادة صياغة للمقترحات الأمريكية السابقة، التي تلبي احتياجات إسرائيل ومصالحها.
لعلنا لا نختلف ولا نبتعد كثيراً عن هذه الرؤية، فكل ما يتم عرضه حتى اللحظة هي حلول جزئية ترقيعية لا تصمد طويلاً، إذ سرعان ما يدرك شعبنا حجم التضليل والأوهام التي يجري تسويقها عليه، فتتحرك ردَّات فعله بعفوية أو بتحريض نضالي لإفشال محاولات فرض صيغ استسلاميه لا تلبي مطالبه بحقه في تقرير المصير، ولا تحافظ على ثوابته الوطنية.
كلمة عن صفقة القرن!!
في تغريدة له حول "صفقة القرن"، أشار د. رياض العيلة؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر، قائلاً: إن ما لفت انتباهي عندما كنت أبحث عن أصل المصطلح، هو أن أصله جاء من اسم فيلم كوميدي أمريكي عام 1983، بعنوان (صفقة القرن - Deal of the century) بإدارة ويليام تريدين.. وتدور أحداث الفيلم حول مغامرات العديد من تجار ومهربي الأسلحة الذين يتنافسون على بيع الأسلحة لديكتاتور أمريكي من جنوب الولايات المتحدة.
ويتساءل د. العيلة، قائلاً: من يا ترى الذي تذكر هذا الفيلم ليعيد أحداثه على القضية الفلسطينية؟ تساؤل يحتاج إلى إجابة؟
لا شك أن الكثيرين حذروا من الإغراءات التي تلوح مصاحبة لعملية تسويق الصفقة، حيث إن من يقومون عليها هم في الأصل رجال أعمال سابقين ومتمرسين في أساليب الكذب والخداع!!
من الجدير ذكره، إن أكثر الوسائل خداعاً لإقناع الناس بالقبول بمشاريع التسوية، هي التسويق لمقولة إن حياتهم الصعبة ومعاناتهم القاسية ستتحول إلى حياة أفضل وأكثر رخاءً، وينسى أو يتناسى القائمون على تسويق هذا الطرح أن السبب الحقيقي لكل معاناتنا هو الاحتلال وكل من يدور في فلكه ويرضخ لطروحاته في سياقات غير وطنية أحياناً. إن أمامنا شواهد تاريخية تؤكد أن كل وعود الرخاء والازدهار التي قدمتها أمريكا لكل من مصر والأردن لم تؤتِ أُكلها!! ويتساءل البعض باستنكار: هل حسَّنت اتفاقيات التسوية المصرية والأردنية حياة الشعبين؟ وهل جلبت اتفاقية أوسلو لشعبنا الراحة والرخاء؟!
باختصار: إن "صفقة القرن" وما سبقها من صفقات مشابهة هي التعبير الصارخ عن حجم الذل والهوان الذي وصلت إليه أمتنا، الأمر الذي دفع الكاتب البريطاني المعروف روبرت فيسك في مقالة له بصحيفة (الإندبندنت) للتساؤل: كيف يمكن لكوشنر؛ صهر ترامب ومستشاره، أن يهين العرب بمطالبتهم مقايضة حريتهم واستقلالهم وكرامتهم مقابل المال والخدمات؟
ويضيف إن ما طرح سابقاً، وما يُطرح اليوم من مشاريع تسوية سلمية هنا وهناك هي في الحقيقة سلام أسوأ من الحرب، ولا عزاء لمن يريد أن يُلدغ من جديد! ويختم فيسك قراءته لشكل الصفقة النهائية بالعناوين التالية: لا للقدس الشرقية، لا نهاية للاستعمار، لا اعتراف بالحق في العودة، لا دولة، ولا مستقبل. فقط هناك أموال نقدية ستقدمها دول خليجية لتسويق الصفقة!!
الانقسام والبكاء على اللبن المسكوب!!
في القراءة التاريخية لجدلية الحكم والسياسة أن الدول تستخدم سياسة العصا والجزرة لتطويع خصومها، وهي أحد أدوات التحكم في الشعوب والأمم. لقد مارست إسرائيل هذا الأسلوب سابقاً، وخاصة بعد احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، ونجحت لقرابة عشرين عاماً أن تُشغل الفلسطينيين بأمور حياتهم وتنسيهم الهمَّ الوطني، إلى أن جاءت الانتفاضة عام 1987، وشكَّلت حالة وعي وصحوة وجدان في مقارعة الاحتلال، وهذا ما أدى إلى تحرك الماكينة الاستعمارية لتهدئة الأمور جزئياً في المناطق المحتلة لعشرين سنة أخرى، من خلال إشغال الفلسطينيين بخلافاتهم وصراعاتهم الداخلية، وهي الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو، وكانت حصيلتها على مستوى الإنجاز الوطني "صفر كبير"، كما قال السياسي المخضرم والقيادي الفتحاوي أحمد قريع (أبو علاء) في تصريح له على إحدى الفضائيات العربية.
اليوم مطلوب "ملهاة جديدة"، ينشغل بها الفلسطينيون لعشرين سنة قادمة، كي يتسنى ترتيب أوضاع المنطقة لتنسجم مع التحولات الجديدة، والتي تهدف إلى إخراج إسرائيل من دائرة الصراع كعدو إلى حليف!! وإعادة صياغة الأوضاع السياسية والأمنية والاستراتيجية في المنطقة بناء على ذلك؛ أي أن إيران هي "العدو البديل"؛ القائم والقادم لدول المنطقة، وخاصة الخليجية منها، وليس دولة الاحتلال الإسرائيلي!!
في الحقيقة، تأتي "صفقة القرن" في توقيت زمني يتناغم مع ما تريده أمريكا وإسرائيل، بعدما أُنهكت دول المنطقة في حروبها وصراعاتها الداخلية، وغدت في حالة من الضعف والخضوع والهوان لا تملك معها أن تقول لا!!
إن قراءتي لمشروع "صفقة القرن" من خلال واقعنا الفلسطيني المتردي والبائس بسبب الانقسام بين حركتي "فتح "و"حماس"، هو صعوبة تبلور "عقبة كأداة" في وجهها، حتى وإن كانت التصريحات التي تصدر عن "الكل الفلسطيني" هي الرفض والتنديد بالصفقة.
للأسف، بعض النظام العربي متواطئ وعرَّاب بجرأة لصفقة القرن، وكل ما يبحث عنه الكثير من الملوك والرؤساء هو تأمين كراسي الحكم، الذي قد توفره أمريكا، وهذا يتطلب كسب رضى ربيبتها إسرائيل!!
إن "صفقة القرن" بما تُمني به الفلسطينيين من حالة خلاص وطني، إنما هي رؤية قائمة على حلٍّ جزئي وليس جذري، بهدف تلهية الفلسطينيين بانفراج اقتصادي يخرجهم من مسغبة الجوع والفاقة إلى أحلام الأمنيات بسنغافورة من جديد!!
من خلال متابعتي لما يُكتب أو يخرج من تسريبات حول الصفقة، يتبدى لي أن هناك حراكاً يجري لتسويقها، والتوقع أن تكون هناك أساليب لممارسة الضغط على السلطة لتهميشها، إذا ما استمرت في تمنعها الحقيقي أو الظاهري بالرفض.
إن "صفقة القرن" هي طبخة أمريكية برغبات إسرائيلية وقبول عربي رسمي، مع رفض فلسطيني، قد يبدو – كما يقول البعض - غير قوي حتى اللحظة.
إن التجليات الإنسانية لإغاثة قطاع غزة في ظل الأوضاع المعيشية البائسة، والتي يتم التلويح بها مع عروض هذه الصفقة، ستدفع البعض للسكوت وغض الطرف عما يجري الحديث عنه، وذلك لما للاعتراض من كلفة ومخاطر، وخشية من سياسة العقاب، التي قد توجهها لها أمريكا وإسرائيل ودول عربية أخرى.
ختاماً.. إن الإجراءات العقابية التي تمارس ضد قطاع غزة بشكل خاص والفلسطينيين عموماً، والتقليص في الميزانيات الأممية، تهدف في النهاية لعصر الفلسطينيين وزلزلة استقرار حياتهم كي تبلغ القلوب الحناجر، وتتهيأ الأجواء للاستسلام في ظل غياب البدائل الأخرى!!
إن من المحزن والمبكي كذلك، أننا ما زلنا غير مدركين للخطر الداهم الذي يتهددنا جميعاً، وأنه إذا ما استمرت حالة التشظي والقطيعة بين "الكل الفلسطيني"، فسوف يدفع الجميع ثمناً باهظاً، ولن يُجدي البكاء ولا العويل إذا ما ظلت حالة الانقسام هي ديدن واقعنا السياسي، وستمرر هذه الصفقة من خلال فرض سياسات الأمر الواقع وتثبيت حقائق جديدة على الأرض رغم أنوفنا، كما أنها ستعطي لإسرائيل كل الذرائع لابتلاع الضفة الغربية عبر التهجير والاستيطان، وأن ما يتبقى من كيانية فلسطينية في قطاع غزة ستعيش وتتعايش كـ"حالة إنسانية" تعتمد على المساعدات الخارجية، وربما يتم تصفيتها سياسياً لعقود قادمة؛ باعتبارها كيان "حكم ذاتي" خاضع - أمنياً - لدول الجوار.
بقلم: الدكتور أحمد يوسف