الرزمة الشاملة طريق إنجاز الوحدة

بقلم: هاني المصري

وجهت مصر الدعوات للقاء الفصائل منفردة، بدأت بحركة فتح، ومن ثم حركة حماس وبقية الفصائل، في جولة لاستكشاف إمكانية إحياء عملية المصالحة التي دخلت غرفة العناية المشددة منذ عملية التفجير التي تعرض لها موكب رئيس الحكومة رامي الحمد الله، وذهبت المسؤولية عنها بين الطرفين اللذين أرادا على ما يبدو طي هذه الصفحة رغم الاتهامات المتبادلة .

الأصح أن الجولة الأخيرة ماتت ولكن لا أحد يريد إعلان موتها حتى لا يتحمل المسؤولية، إضافة إلى عدم وجود بدائل عنها، فهي فشلت قبل عملية التفجير، بل أكثر من ذلك كان مكتوب لها الفشل كما توقعت ومعي عدد من المتابعين والمحللين، لأنها حُشِرت في بدعة تمكين الحكومة، وكانت عرضة لتفسيرات متناقضة بين طرف يرى بعودة كل الموظفين المستنكفين فورًا، وآخر بعودة عدد صغير لمساعدة الوزراء إلى حين الاتفاق على كيفية الدمج بينهم وبين الذين عينتهم سلطة "حماس"، فضلًا عن الخلاف حول هل يشمل ذلك الموظفين في الأجهزة الأمنية أم في المؤسسات المدنية، وهل ستدفع السلطة سلفة على الراتب كما جاء في اتفاق القاهرة الجديد إلى حين الانتهاء من دراسة الملف.

إذا دارت المحاولة الجديدة في نفس دوامة بدعة تمكين الحكومة ستفشل مثل سابقاتها، فحركة حماس لا يمكن أن تمكن الحكومة بالكامل من الباب إلى المحراب و"تخرج من المولد بلا حُمُّص".

الانقسام له جذور وأسباب وتجليات كثيرة وتفرعت منها فروع وتداعيات، فعندما يتم الأخذ بفرع صغير مثل الحكومة التي هي مجرد أداة تنفيذية، فهذا يقود إلى إعادة إنتاج رهان خاسر. فجذور الانقسام وأسبابه كثيرة وممتدة تبدأ أولًا من السعي للتفرد والإقصاء والهيمنة وفرض كل طرف لشروطه على الطرف الآخر، وتمر بالخلافات السياسية والبرامجية والعقائدية وتدخلات الاحتلال الذي يلعب دورًا رئيسيًا، إلى جانب صراعات المحاور العربية التي ازدادت بعد الأزمة الخليجية، ولا تنتهي بتنافس المحاور الإقليمية (إيران وتركيا)، وأطراف اللجنة الرباعية الدولية.

إن الاتفاق أو عدمه على الشراكة يلعب دورًا محوريًا في إنجاز الوحدة أو عدمها، لا سيما بعد أن تراجعت التدخلات العربية بحكم انشغالها بما يجري في البلدان العربية من حروب داخلية وفتن، وجراء تراجع الخلافات السياسية والبرامجية بعد تبني وثيقة "حماس" السياسية، والتأكيد على الهدنة، وأهمية المقاومة الشعبية السلمية ضمن أشكال النضال في المرحلة الحالية.

لقد ازدادت أهمية الاتفاق على الشراكة لتصبح كلمة السر القادرة على إنجاح الوحدة في ظل تعمق الانقسام عموديًا وأفقيًا، وتبلور بنية كاملة سياسية أمنية ثقافية اقتصادية اجتماعية، نمت داخلها مصالح لجماعات وأفراد هنا وهناك، وحصلت على نفوذ وثروة في ظل واقع الانقسام الذي ترافق مع نمو الفردية والتفرد والفئوية الفصائلية، وسيطرة السلطة التنفيذية على السلطات كافة، وانتهاك حقوق الإنسان وحرياته، وانتشار الفساد، مع غياب مؤسسات الإجماع الوطنية ومؤسسات الرقابة والمحاسبة، ومع عدم إجراء الانتخابات في مواعيدها الدورية، وتغييب المجلس التشريعي، وعدم عقد المجلس الوطني إلا لغاية تجديد شرعية القيادة، وبصورة هزت مكانة المجلس الوطني كمؤسسة وطنية جامعة، تضمن بقاء المنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في كل مكان بكل قواه وأطيافه المؤمنة والمستعدة للشراكة.

إذا نظرنا إلى الأجواء الحالية مع بدء جولة استكشاف إمكانية إحياء جهود المصالحة المصرية، نجد أن السلطة لا تزال متمسكة بالإجراءات العقابية على قطاع غزة رغم المعارضة الواسعة لها، إذ ردد عزام الأحمد، عضو اللجنتين التنفيذية للمنظمة والمركزية لفتح، ومسؤول ملف المصالحة المفوض من الرئيس، أن هناك خططًا لتقويض سلطة "حماس"، و أن غزة مختطفة ولا بد من تحريرها من الخاطفين. إذا كان التعامل معها على هذا الأساس، فلماذا الحوارات والاتفاقات وتشكيل حكومة وفاق وطني معها، فإذا كان الانطلاق من أنها سلطة انقلاب وخاطفين فلا تعامل معها بالحوار وإنما بالعمل على الإطاحة بها.

كما قال الأحمد أننا لسنا بحاجة إلى حوارات جديدة، متناسيًا أن القضية الفلسطينية تشهد تطورات عاصفة باستمرار تتطلب حوارًا لا ينقطع حتى في ظل الوحدة والمؤسسات الشرعية الواحدة، فكيف مع الانقسام، وكرر مقولة أطلقها الرئيس ورددها في اجتماع اللجنة المركزية الأخير "إما هم يشيلوا كل شيء أو نحن نشيل كل شيء"، متناسيًا أن السلطة سلطة الشعب وليست سلطة "فتح" أو "حماس"، ولا بد من إنهاء الهيمنة والمحاصصة الفصائلية، وخصوصًا في الأجهزة الأمنية، على السلطة لتكون سلطة الشعب لا سلطة "فتح" أو "حماس".

كما هدد الأحمد هذه المرة باللجوء إلى أشياء أخرى تهدف إلى تقويض سلطة "حماس"، أو إعلان القطاع إقليمًا متمردًا، وتخويل المجلس المركزي، الذي لم تشارك فيه الشعبية وحماس والجهاد وقطاعات كبيرة من المستقلين، بالحلول محل المجلسين الوطني والتشريعي، وهذه خطيئة سياسية كبرى نأمل ألا تحدث .

أما "حماس"، فقد أعلن خليل الحية وغيره من قياداتها أنهم متمسكون باتفاق القاهرة كرزمة واحدة، مشددًا على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وعقد مجلس وطني توحيدي في رسالة واضحة الدلالة إلى عدم التزام "حماس" باتفاق تمكين الحكومة أولًا، متناسيًا مسألة تخلي "حماس" عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة أمنيًا وإداريًا وقضائيًا، وأن الخطوات التي أقدمت عليها مثل حل اللجنة الإدارية وتسليم المعابر والوزارات لم تنه حكمها، تمامًا مثلما حصل بعد فوزها في الانتخابات، حين كلّف الرئيس محمود عباس إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة، ولكنها لم تتمكن من الحكم لأسباب داخلية وخارجية، أهمها إقدام سلطات الاحتلال على اعتقال عشرات النواب وبعض الوزراء ووقف تحويل أموال المقاصة الفلسطينية.

كما لم يتطرق الحية أيضًا إلى الأجنحة العسكرية للفصائل، أي لسلاح المقاومة، وهل "حماس" ملتزمة بما أعلنه سابقًا مسؤولها في القطاع يحيى السنوار، عن موافقتها على تشكيل جيش وطني يضم كل الأجنحة العسكرية ويخضع لمظلة وطنية.

على الرغم من بعض الإيجابية التي أظهرتها "حماس" في الجولة الأخيرة، إلا أنها لا تزال تعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها على قطاع غزة، ومراكمة مزيد من الإنجازات الفئوية إن أمكن، مثل دفع رواتب الموظفين الذين عينتهم، والمشاركة في لجنة تفعيل المنظمة (الإطار القيادي المؤقت)، والمشاركة في المجلس الوطني التوحيدي، وعليها أن تدرك أن هذا لن تقبله "فتح" قبل إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات التي تريد "فتح" أن تبقى تحت قيادتها.

أكبر دليل على حقيقة موقف "حماس" لجهة تفضيل استمرار سيطرتها على القطاع هو انفتاحها على إمكانية عقد هدنة طويلة الأمد اصطدمت حتى الآن بالأثمان السياسية الباهظة المطلوبة منها، والتي لم توافق عليها، ولكنها تغازلها من خلال طرح مسألة تشكيل اللجنة الإدارية بشكل جديد بموافقة قوى أخرى معها، وفكرة تشكيل مجلس وطني للإنقاذ التي جمّدت بعد تداولها لفترة من الوقت.

على الجميع أن يدرك وليس "فتح" و"حماس" فقط، أن الشرعية التي يتفاخر بها الطرفان تآكلت في ظل عدم تحقيق البرنامج الوطني، وصولًا إلى الكارثة التي نعيشها، ومع استمرار الانقسام وعدم إجراء الانتخابات لمدة طويلة، بدليل الهوة المتزايدة بين الشعب وقيادته وفصائله. فالشرعية إما شرعية تستمد من المقاومة والوفاق الوطني والنضال لتحقيق الحقوق المشروعة، أو من خلال الاحتكام إلى الشعب في انتخابات حرة ونزيهة تحترم نتائجها، وإما المسألتين معًا.

في كل الأحوال، الوفاق الوطني وتوحيد المؤسسات الأمنية والمدنية والقضائية ممر إجباري لإجراء الانتخابات. فمن دونه لا يمكن أن تكون الانتخابات حرة ونزيهه وتحترم نتائجها، والأهم أن الانتخابات في السياق الفلسطيني يجب أن تكون أحد أدوات الشعب في نضاله لإنهاء الاحتلال وإنجاز الحرية والعودة والاستقلال.

تأسيسًا على ما سبق، إذا أعادت الاجتماعات التي ستشهدها القاهرة إنتاج الاتفاق الأخير على أساس تمكين الحكومة أولًا، مع أنها لم تعد حكومة وفاق وطني بعد مرور سنوات كثيرة على تشكيلها وتعديلها وانحيازها لفريق، أو التوصل لاتفاقات جزئية جديدة تتجاهل جذور الانقسام وأسبابه، سيكون مصيرها الفشل مجددًا.

إنهاء الانقسام ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية، واعتمدت مقاربة شاملة مثل المبادرة التي أطلقها مركز مسارات مؤخرًا، وهي خلاصة جهود ومبادرات واجتماعات وندوات ومؤتمرات شارك فيها الآلاف داخل الوطن المحتل وخارجه، وتمثل رزمة شاملة يجب الاتفاق على تطبيقها بالتوازي وبجدول زمني متفق عليه، وعلى أن تشكل لجنة من الشخصيات الوطنية المشهود لها بالموضوعية للإشراف على التطبيق. رزمة تبدأ برفع العقوبات عن غزة وتشمل الاتفاق على أسس الشراكة وعلى برنامج الحد الأدنى الوطني الذي على رأس جدول أعماله إحباط "صفقة ترامب"، وإفشال صفقة فصل الضفة عن القطاع، والاتفاق على تشكيل جيش وطني، وأن قرار المفاوضات والمقاومة قرار وطني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، على أساس إعادة النظر بالسلطة لتصبح أداة بيد المنظمة سلطة تمثل الشعب بكل أطيافه، وليس سلطة "شيل

كل شيء أو أشيل كل شيء"، وعقد مجلس وطني توحيدي يعيد الاعتبار للمنظمة بوصفها الممثل الشرعي الوحيد وليست فريقًا من الفرقاء من خلال دفع المجلس المركزي للمساهمة في تعميق الانقسام بذريعة السعي لإنهائه.

بقلم/ هاني المصري