كثيرة هي الدراسات والبرامج الوثائقية وبالطبع المقالات والتدوينات التي تتناول سيرة وأعمال الكاتب والأديب الفلسطيني المغدور من الموساد غسان كنفاني، الذي اغتيل بتفجير سيارته في حي الحازمية في بيروت في مثل هذه الأيام وتحديدا في 8 تموز/يوليو 1972.
لقد قرأت تقريبا جميع أعمال غسان كنفاني، والتي على صغر سنه (كان عمر 36 عاما حين اغتالوه) كثيرة الكم والنوع، في مراحل مختلفة من حياتي، وأعدت قراءة بعضها أيضا في مراحل مختلفة، ومع أنني لست منتميا ولا مناصرا للمدرسة الفكرية التي انتمى إليها كنفاني، ولكن دوما شعرت برباط وثيق بكنفاني الإنسان مثل الرباط الخاص مع أعماله...ربما هذا ليس خاصا بي، فغسان تناول وخاض بقلمه السيّال في الوضع الفلسطيني بمآسيه ومقاومته وحيثياته بعيدا عن الانتماء السياسي، ولهذا السبب ولغيره كنت وما زلت أرى ضرورة تدريس وقراءة أعماله وتحويلها إلى أعمال درامية عالية الجودة، وأعرف أن هذا تم جزئيا.
وأحد الأصدقاء من ذوي الاهتمامات الأدبية، بعد حوار جاء فيه ذكر كنفاني، أعارني كتابا صغير الحجم قليل الصفحات (140ص)، لكنه كثيف المادة، واضح الحميمية، وقد كتب بلغة سهلة ممتنعة وأسلوب نادر قديما وحديثا، موسوما بـ((هكذا تنتهي القصص،هكذا تبدأ..انطباعات شخصية عن حياة غسان كنفاني وباسل الكبيسي)) من تأليف (فضل النقيب) والمؤلف للتنويه ليس الأديب والسياسي اليمني الذي يحمل نفس الاسم بل خبير اقتصادي فلسطيني يدرِّس في الجامعات الكندية، وفور أول قراءة لي للكتاب قررت شراءه (النسخة التي استعرتها كانت الطبعة الثانية سنة 1988) ولكن للأسف ليس موجودا في مكتباتنا.
فلجأت إلى الإنترنت لعل وعسى أجد نسخة إلكترونية، وللأسف الشديد وبعكس الانطباع العام أن أي كتاب خاصة القديم نسبيا قد تمت معالجته ونشره بصيغة PDF أو غيرها، لم أعثر على الكتاب، فأخذت إذن صديقي وصورت النسخة، لأعيد قراءة الكتاب مرة تلو الأخرى... وسأعرف لاحقا أن فضل النقيب قد كتب كتابه الصغير الكثيف بعنوان: باسل وغسان.. انطباعات شخصية، وأن التغيير هو فعل دور النشر.
يجمع الكتاب بين الحميمية والانطباع الشخصي –كما عنوانه- وبين فكرة وملابسات ذهاب مثقفي تلك الحقبة من القرن الماضي نحو الخيارات الحاسمة. ولم أكن قد سمعت عن (باسل الكبيسي) وهو عراقي من أسرة ميسورة الحال، اختار ترك التدريس في كندا وهو الحاصل على دكتوراه من الولايات المتحدة، وعاد ليلتحق بالجبهة الشعبية، واغتيل برصاص عملاء الموساد في 1973، ولم تنتهي القصة هنا فقد كانت زوجته في رحلة بالطائرة من دمشق إلى أوروبا الشرقية لزيارة والدتها المريضة برفقة أولاده لتتحطم الطائرة ولا ينجو أحد من ركابها!
تقصّد النقيب الحديث عن رجلين من بيئتين مختلفتين اجتماعيا، اجتمعا على ذات الفكر وذات الطريق، وكان التوجه للخيار الحاسم والنهاية المتشابهة! وعبقرية غسان كنفاني ليست محكومة بالنكبة الفلسطينية، أو ناتجة عنها، مع أن النكبة كانت العامل الموجه لتجليات العبقرية، فحين قال فضل النقيب-على سبيل الدعابة- لغسان كنفاني أنه لو لم تحدث النكبة، لكان يعمل في عكا مرشدا سياحيا يجول بالسائحين معرّفا إياهم بمعالم عكا، وشارحا لهم اندحار نابليون عن أسوارها، كي يكون الرد القاطع الجازم من غسان كنفاني على صديقه: أنت مخطئ كنت سأكتب القصص من عكا بدل أن أكتبها من هنا...هكذا تنتهي القصص هكذا تبدأ.
كان غسان كنفاني -بتعبير فضل النقيب- فلسطينيا وأراد التعبير عن نفسه بالكتابة لا بالرسم، وكما هو معروف كانت له رسومات، بل هو مصمم شعار الجبهة الشعبية. ويحمل أدب غسان كنفاني عموميات وكثيرا من تفصيلات الألم والأمل والواقع والماضي الفلسطيني واستشعاره المعروف للمستقبل، ما جعل أعماله حيّة متحركة في مختلف مراحل القضية الفلسطينية. فهناك في أعمال غسان كنفاني فلسطيني مقاتل ذكي واع، وفلسطيني مقاتل بالفطرة والنخوة، وفلسطيني خائن، وفلسطيني يراقب ويتفرج، فقد ابتعد غسان كنفاني عن الأسطرة التي عادة تصبغ أدب الثورة والمقاومة، وتجنب الشيطنة التي تلازم تقريبا ما يوصف بالواقعية. لقد شعر بطبيعة الأوضاع وانعكاساتها النفسية والأخلاقية التي نتجت عن النكبة واللجوء والعيش في المخيمات بحيث يصبح العيش والبقاء، أولوية وضرورة بحد ذاتها كما في (زمن الاشتباك) وغيرها من القصص التي كانت مرآة للحالة الفلسطينية.
وفي(رجال في الشمس) التي يقول النقيب أن كنفاني قال له أنها قصة حقيقة، يشرح جانبا آخر من جوانب الألم الفلسطيني المتواصل، فالظروف تضطر الفلسطينيين جرّاء النكبة إلى الذهاب تهريبا إلى الكويت بحثا عن الرزق، ولكن حظ ثلاثة منهم -ولكل واحد ظرفه المأساوي الخاص- كان سيئا حين صعدوا في شاحنة فلسطيني فقد رجولته بقنبلة بعد عمله مع الفدائيين (أبو الخيزران) فينقلهم (مقابل مبلغ مالي) بشاحنته الموصولة بصهريج ماء تهريبا ولكن يصر الجنود العراقيون في نقطة التفتيش الحدودية عليه أن يحدثهم عن راقصة (كوكب) وفي هذا الوقت يموت الثلاثة من الحرّ والاختناق في الصهريج، ويطرح سؤال ما زال متداولا (لماذا لم يقرعوا جدران الخزّان؟!) هذا بعد أن رمى الجثث في مقلب قمامة وانتزع ساعة أحدهم (مروان) والنقود من جيوبهم.. كون القصة حقيقية لا يخرجها عن الرمزية العالية للحالة والوضع الفلسطيني المشوب بالأحزان والآلام والآمال الضائعة كما نعرف.
لم يغفل فضل النقيب عن ملاحظة ما عرف به غسان كنفاني من امتلاك طاقة عمل رهيبة، فقد كان يحرر الصحف ويكتب المقالات، هذا غير ما يخطه بأسماء مستعارة، وهذا النشاط لا يتلاءم مع حالته الصحية وهو المصاب بنوع من أمراض السكر يسبب له الإغماء.. وهذه الطاقة التي تظهر نتاجا غزيرا مكتوبا أو مرسوما لا تلهي كنفاني عن واجباته في العمل السياسي والتنظيمي.
لكن فضل النقيب لم يناقش مسألة شخصية وهي زواج غسان كنفاني من امرأة دنماركية وحبه العاصف لغادة السمان التي نشرت رسائله لها لاحقا، وزواج أدباء عرب لهم إبداعات وبصمات واضحة من أجنبيات لطالما استوقفني، ولم أجد له جوابا غير حالة ضعف إنساني، لا سيما في حالة فلسطيني ثائر مثل غسان كنفاني، والطيب صالح الأديب السوداني المعروف تزوج من امرأة اسكتلندية، وليس من سودانية، مع أن المرأة السودانية واسعة الحضور في رواياته إجمالا وتفصيلا.
لكن في ذكرى غسان كنفاني التي كل عام نستحضر فيها لمحات من حياته وأعماله، هناك سؤال عن غياب الأديب والمثقف الثائر، واكتفاء المثقف والأديب بالتنظير المكرر، هذا إذا شغلته قضايا الأمة أو الوطن أصلا، وهذا النموذج حاليا شبه مفقود، وتتشوق له الأجيال الجديدة، وربما كانت تلك الحالة من التعلق بشخصية (باسل الأعرج) الذي استشهد برصاص وقذائف قوات الاحتلال في رام الله في آذار/مارس 2017 وإطلاق لقب أو وسم (المثقف المشتبك) عليه تعبر عن حالة التعطّش لهذا النموذج من المثقفين -المقاومين أو المقاومين- المثقفين مع أن باسل لم تطل مدة عمله المقاوم لتمثل حالة ناضجة تعيد لهذا النموذج الذي عاشته الأجيال السابقة مع أمثال غسان كنفاني وباسل الكبيسي وناجي العلي وغيرهم. المثقف سواء أكان أديبا أو فنانا أو كاتبا ليس مطلوبا منه بالجملة والمطلق أن يكون مشتبكا وناشطا ثوريا، ولكن فراغ الساحة الواضح من هذا النوع يطرح أسئلة أو تصف حالة ليست على ما يرام.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني