تعد الكرامة الإنسانية أهم ما تبلور عنه نضال المجتمع الإنساني لانتزاع حقوقه الإنسانية عبر تاريخ طويل من أجل نيلها، بعدما رفضت العنصرية والعبودية والاسترقاق والظلم والاستبداد، كما كانت الكرامة الدافع نحو حق تقرير المصير في مواجهة الاحتلال، والكرامة اﻹنسانية قيمة تولد مع اﻹنسان وتتنامى عند من يحترمون أنفسهم، ولكن لا يغيرها منصب أو مال أو جاه أو سلطة، فكرامة الناس واحدة للفقير والغني أو للمسؤول والعامل أو للكبير والصغير على السواء، لذا فالكرامة لا تتجزأ ولا تمنح بل تنتزع ﻷنها حق، والكرامة عزة نفس وشموخ وطهر ونظافة، ولا يعطي الكرامة للناس إلا الكريم إبن الكريم.
ولقد فاقت رسالة الإسلام في التكريس والمعالجة بتعميق مبدأ الكرامة في قولة تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾، كما أن قوانين حقوق اﻹنسان المرعية كفلت الحياة والعيش الكريم لكل الناس دون مواربة أو تمييز، لذلك تكرس معظم الدساتير في العالم مبدأ احترام الكرامة الإنسانية سواء صراحة أو بشكل ضمني ومنها القانون الأساسي الفلسطيني، وهذا يدل على المكانة التي يحتلها هذا المبدأ عالمياً حتى بات يوصف بأنه مبدأ ذو بُعد عالمي، لأنه يمثل قيمةً عليا في المجتمع يضمنه القانون الطبيعي، وجميع الدساتير أقرت للإنسان بمجموعة من الحقوق الأساسية يمكن ربطها بفكرة الكرامة، ومن أهمها حق الأمن ويقصد به حق الفرد في الحياة في أمان واطمئنان دون رهبةً أو خوف، وعدم جواز القبض عليه أو اعتقاله أو حبسه، وعدم اتخاذ أي تصرف يمس بأمن الفرد الشخصي إلا طبقا للقانون، وفي الحدود التي بينها ومع مراعاة الضمانات والإجراءات التي حددها، كما للإنسان الحق في الدفاع عن نفسه إزاء أي تهمة توجه إليه، وأن يعامل باعتباره بريئاً إلى أن تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، ويعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية، وعدم إلزامه بالشهادة ضد نفسه أو الاعتراف بأنه مذنب، حيث يقع باطلا كل قول أو اعتراف صدر بإخضاع المتهم إلى الإكراه أو التعذيب، وانتقل التعذيب من دائرة الإباحة الى دائرة التجريم، والصراع الحقوقي المرير الذي جعل الأمم تنادى إلى تكريس الاعتراف بها كجريمةٍ عالمية ضد آدمية وكرامة الإنسان في المواثيق الدولية والدساتير.
ووقف القرآن الكريم من التعذيب موقفاً رائقاً دقيقاً متجاوزاً تحريم التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة إلى تأثيم وتجريم الأذية وذلك في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾. وقد ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم كثيراً من الأحاديث تحرم تعذيب الإنسان، فقد روى أبو داود وآخرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تعذبوا خلق الله". ونهيه عن التعذيب بالنار فقال: "ولا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار".
لذلك فإن صفة التكريم تظل ملازمةً للوجود الإنساني، وأي مساس أو أي اعتداء على كرامة الإنسان يعد تعذيباً، وهو مجرمٌ فضلاً عن أنه محرم، فالتعذيب إنكار كرامة الإنسان الأصيلة، وانتهاك سافر لحقوق الإنسان وهذه هي أساس وعله تجريمه، كما أن كل ما يمس جوهر الإنسان ويمس كرامته وسلامته البدنية والنفسية والروحية وحقوقه المشروعة جريمة لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن ويعاقب عليها كل من يمارسها لمخالفتها حقوق الإنسان التي اقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية .
بصراحة وتأسيسا على ما سبق؛ فالكرامة اﻹنسانية تقتضي أن نحترم بعضنا ونتعامل بنفس السوية، والكرامة اﻹنسانية يدخل فيها منظومتي اﻷخلاق والضمير من جهة ومنظومة القانون والعدل من جهة أخرى، ومطلوب المواءمة بين لغتي الضمير والقانون، فالكرامة فطرية لا تجمل فيها، ولا يجوز إستغلال فقر الناس لتدنيس كراماتهم على سبيل منحهم دريهمات معدودة لقاء عيشهم الكريم، كما أن كرامة الموظف من كرامة المسؤول، وكرامة اﻹبن من كرامة والديه، وكرامة الصغير من كرامة الكبير، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ومسؤول عن كرامتهم وحقوقهم وواجباتهم، فالمطلوب المحافظة على كرامة المستضعفين في اﻷرض وتعظيم إحترام الناس لهم دون تجبر أو تكبر أو منة، مطلوب صون كرامة الناس من خلال القانون العادل والقضاء النزيه هو أساس منظومة النزاهة الوطنية.
بقلم/ د. رمزي النجار