ربما الفائدة الوحيدة من اصدار (الكنيست الاسرائيلى) لقانون "القومية اليهودية" شديد العنصرية، هو انه سيرحمنا من المناقشات البيزنطية مع "بعض" رفاقنا من اليسار المصرى والعربى، الذين صدعونا جيلا وراء جيل منذ صدور قرار التقسيم عام 1947 بأطروحة "الدولة المدنية الديمقراطية الواحدة لكل مواطنيها".
وكانوا يهاجمون بعنف ثوابتنا الوطنية والمنهجية التى تنطلق من أن فلسطين عربية من البحر الى النهر، وان غايتنا هى تحرير كامل التراب الفلسطينى، وان على اليهود من غير العرب ان يعودوا من حيث أتت بهم المنظمة الصهيونية العالمية، اما اليهودى الفلسطينى والعربى فمكانه معنا جنبا لجنب مع باقى مواطنيه من المسلمين والمسيحيين العرب...الخ
فكانوا يعتبرونها أفكار وأطروحات ومواقف شوفينية عنصرية، تتجاهل الاجيال اليهودية الجديدة التى ولدت على ارض فلسطين، كما انها تفرق بين الناس على اساس الدين والهوية الوطنية وهو ما يتناقض مع مبادئ المساواة بين البشر كافة. كما يتناقض، وهو الاخطر، مع حقيقة أن المجتمعات البشرية ليست سوى تكوينات طبقية بالأساس، تتحرك وتتطور وفقا لقانون الصراع الطبقى. هكذا كانوا يُنَّظرون.
وحين كنا نٍسألهم: كيف ستفعلونها؟ كيف ستحققون الدولة المدنية الديمقراطية لكل مواطنيها على ارض فلسطين؟ كانوا يجيبون ان استراتيجيتهم فى ذلك هى النضال من أجل الغاء الطابع العنصرى لدولة (اسرائيل)!!
***
لقد عانينا كثيرا اثناء تواصلنا ومناقشتنا مع هذا البعض من اليسار، وبذلنا جهودا مضنية لتفكيك هذه الاخطاء المنهجية الجسيمة التى عجزت عن فهم طبيعة الحركة الصهيونية، وطبيعة (اسرائيل) ككيان اصطناعي غير طبيعى، كيان استعمارى استيطانى احلالى، ينتزع العامل الفلسطينى ليحل محله عاملا صهيونيا روسيا او بولنديا او امريكيا، وينتزع ملايين من المواطنين الفلسطينيين اصحاب الارض ليحل محلهم مواطنين مستجلبين من بلاد واوطان اخرى. وكل ذلك فى سبيل بناء وتأسيس قاعدة عسكرية استراتيجية متقدمة للاستعمار الغربى فى القلب من وطننا العربى تستكمل ما بدأته الجيوش الاستعمارية الكلاسيكية منذ القرن التاسع عشر.
كما ان قضية فلسطين هى قضية وطنية وعربية بامتياز، يدور الصراع الرئيسى فيها بين اصحاب الارض من الفلسطينيين والعرب ضد الكيان الصهيونى بكافة مستوطنيه وحماته وداعميه من الامريكان والاوروبيين، وليست باى حال صراعا طبقيا بين العمال من العرب واليهود ضد الراسماليين من العرب واليهود. انه صراع على الارض والوطن وليس صراعا على أدوات الانتاج، ولا صراعا على الحريات وحقوق الانسان وحقوق المواطنة.
***
ولقد دخلت معنا على الخط قطاعات واسعة من المفكرين والمناضلين الماركسيين الوطنيين الذين رفضوا منذ البداية اطروحة رفاقهم عن "الدولة المدنية الديمقراطية"، وتبنوا معنا ثوابت المشروع الوطنى العربى والفلسطينى كما بلورها أجدادنا منذ بدايات القرن العشرين.
ورويد رويدا على امتداد السنوات الماضية، ضاقت الدوائر العربية التى تجرؤ على ترديد أطروحة "دولة مدنية واحدة"، متأثرة بحالة الاجماع العربى والفلسطينى على رفض الفكرة، مع وجود اجماع صهيونى مماثل وأكثر تطرفا، تتصاعد سياساته العدوانية والعنصرية كل يوم ضد كل ما هو عربى.
***
ولكن بعد أن أطلق ترامب رصاصة الرحمة على عملية السلام الزائف، واعترف بالقدس الموحدة عاصمة لاسرائيل، عادت بعض الاصوات العربية والفلسطينية لتطرح على استحياء حل "الدولة الواحدة ثنائية القومية"، وانه لم يعد هناك سواه، بعد انتهى حل الدولتين الى غير رجعة.
وقبل أن يستفيضوا ويستطردوا ويتعمقوا فى اوهامهم واحلامهم، أصدر الكيان الصهيوني ممثلا فى الكنيست قانونه المذكور، ليعلنها صراحة "انها بالفعل دولة واحدة ولكن لليهود فقط."
فقطعت جهيزة الصهيونية حديث كل الواهمين أو المغرضين من العرب أو الفلسطينيين.
*****
محمد سيف الدولة
القاهرة فى 20 يوليو 2018