قد يشهد سيل الكتابات حول مصادقة الكنيست على قانون أساس: "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي" على وقوع حدث كبير ومختلف؛ رغم عدم الاتفاق على دواعي تشريعه، وعلى تشخيص مخاطره الحقيقية أو تبعاته المستقبلية.
تعدّدت الآراء وانفرجت التقييمات على قوس من المواقف، تبدأ بفرح البعض لأنّ إسرائيل قد "بقّت البحصة" رسميًا، وتعرّت ككيان لا تصلح المواطنة المأمولة فيه ومعه – كما كان يدّعي أصحاب هذا الفرح – وتنتهي بنداءات الإهابة والاستنفار من قبل جهات عديدة، استشعر أصحابها بدنوّ اشتعال "أم المعارك"، في حين ما زالت خيارات مواجهتها الشعبية والجماهيرية ملتبسة وغير ناجزة.
أتاح الإعلان عن القانون لمفكري المعسكرات السياسية الراديكالية والدينية القائمة بين المواطنين العرب في إسرائيل، فرصةً لتأكيد صحة معتقداتهم وتبريرها، متعكزين، كل من رصيفه، على تفسيرهم الخاص لتوقيت نجاح التشريع وإشهاره لمبادئ وحقائق كانت قائمة في الممارسة والفضاء الإسرائيليين، وشرعنتها بهذا السفور العنصري المستفز .
حاول الكثيرون تصفير أهمية الحدث؛ فستبقى اسرائيل بعده، حسب هؤلاء، كما كانت قبله؛ وهي عندهم ليست أكثر من كيان "ذاهب إلى حتفه" إما بقوة الدعاء أو بغزارة البصاق! واذا لم تصدّقوهم فانتظروا الفرج لأنه قريب، والغدَ لأنه كالأمس شفيف.
في المقابل، يتذرّع بتشريع القانون جميع من نادوا بضرورة مقاطعة الكنيست، ويعلنون مجددًا، بسببه، أن ساعة القطيعة، هذه المرة قد أزفت، وأن على أعضاء القائمة المشتركة تقديم استقالاتهم فورًا إلى غير رجعة؛ فالكنيست ليست في نظرهم منصةً مناسبة وكافيةً للنضال ضد سياسات القمع والعنصرية، علاوةً على تأكيد أصحاب مبدأ المقاطعة على أنّ القانون قضى نهائيًا على حلّ الدولتين، وأنّ على الجماهير العربية في إسرائيل أن تستعد للمواجهة الكبرى وللبدء في مراسم الكفاح المرّ، كما يليق بمن ينشدون العيش في وطنهم كرامًا وفي دولتهم أحرارًا.
أما أتباع الحركات الإسلامية، فقد وجدوا بهذه المناسبة تعزيزًا لما يؤمنون به، وتسويغًا لكونهم حركة تغمس الدين في مفاصل الحياة اليومية، وتربطه بشؤون الدولة والأمة، كما كتب، على سبيل المثال، الشيخ كمال الخطيب بعيد إقرار القانون مصرحًا: "مع إقرار برلمان اسرائيل لقانون يهودية الدولة، فقد تبيّن لكل عاقل أن الدين منغمس في حياة الإسرائيليين، وأنه التوافق بين الكنيس والكنيست، فالسياسة حاضرة في الكنيس والدين حاضر في الكنيست. فلماذا يصر العلمانيون منّا على قوقعة الإسلام في المسجد والفصل بين الدين والحكم والسياسة؟ وإلا فإنه "الاسلام السياسي" يناصبونه العداء". الى جانب تلك المواقف سنجد مَن أكّد أن القانون يؤسس لمرحلة جديدة في الحياة السياسية الاسرائيلية، وسيؤثر على مكانة المواطنين العرب، لما سيخلقه من ديناميكية طبيعية ترافق العملية التشريعية، خاصة إذا كانت تحظى بمكانة دستورية عليا، كما هو الحال في قوانين الأساس الإسرائيلية. للجميع حق بالتعبير عن موقفه والدفاع عن قناعته وعقيدته وتحمّل مسؤولية ذلك تباعًا.
أكثر من قانون، الإعلان عن مملكة إسرائيل الجديدة
لا خلاف على كون المواطنين العرب، بجميع فئاتهم ودياناتهم، الضحايا المباشرين لهذا التشريع؛ مع ذلك يستهدف وجهه الآخر قطاعات صهيونية واسعة، علمانية ومتدينة، لا تتساوق تعاليمها مع تلك القوى الصهيونية المتدينة، التي أصرت على تمريره بالنصوص التي توافقت عليها؛ ولهذا سيشكّل يوم تشريع القانون حدّاً فاصلًا بين مفهوم الدولة التي اعلنت عام 1948 وفقًا للمضامين "البن غوريونية" – خاصة في ما يتعلق بعلاقة الدين ومكانته في الدولة، ومكانة الجيش، ومكانة التعليم الرسمي، والنظرة للعلمانية، وللحقوق المدنية، ومكانة المواطنين غير اليهود، وغيرها من ركائز الدولة والمجتمع – وبين جميع هذه المضامين والمفاهيم في الدولة " البينيتية" التي يعكس ملامحها بصرامة قانون القومية الجديد.
لم تتردّد القوى السياسية اليمينية المسيطرة بالتعبير عن أهدافها، وعن إصرارها على إتمام مهامها وتدعيمها بتشريعات مناسبة، من أهمها وآخرها القانون الذي نحن بصدده؛ فجميع المتحدّثين الرسميّين باسم هذه القوى الصهيونية الدينية المسيحانية، أوضحوا أنهم يسعون لإحكام سيطرتهم على رقاب الأجهزة القضائية، وفي مقدمتها المحكمة العليا، بدون أن يغفلوا تمكنهم من أجهزة الأمن والجيش وجميع الوزارات السيادية وما يتفرّع عنها.
في موازاة هذا التطوّر، بدأنا نلاحظ في السنوات الاخيرة كيف استشعرت جهات صهيونية عديدة مخاطر ما ينمو في أروقة حكم الدولة؛ ومع تصورها بأن العرب سيشكّلون الضحايا المباشرين لذلك التوحش العنصري الفاشي، أحسّت بأنهم ليسوا بعيدين عن فم التنين وعن نيرانه الحارقة، لأنهم في الواقع "غرباء" وخارج فقه قانون الأساس "إسرائيلنا التي فوق الجميع ".
لماذا الآن؟
لقد استعان اليمين الاسرائيلي بقفزاته في السنوات الأخيرة بعتبات مدّتها أمامه بعض القوى السياسية والدينية الناشطة بين الجماهير العربية، خاصة تلك التي تؤمن بان إسرائيل ما زالت، كما قامت، كيانًا مزعومًا وباطلًا أقيم على باطل. إلى جانب ذلك سنجد، بالطبع، عوامل خارجية كثيرة ساعدته على إحكام سيطرته في الدولة وعلى إنجاز القانون بعد سبعة أعوام من النقاشات حوله ومحاولات تمريره الفاشلة؛ ومن بينها تعاظم قوة اليمين المتطرف في معظم الدول الأوروبية وغيرها، وتهالك وحدة الدول العربية وتهتك أنسجة الدول الاسلامية، وضعف حالة الشعب الفلسطيني.
أعرف أن القوى العنصرية المتطرفة لم تكن بحاجة إلى مدعّمات ومنشّطات كي تمارس نهمها وجشعها وبطشها؛ لكنها نجحت بتجنيد بعض المواقف العربية وبرّرت بطشها بادّعائها ضرورة الدفاع عن مستقبل الشعب اليهودي ودولته، في وجه العرب الساعين من داخل الدولة إلى القضاء عليها وإقامة دولتهم القومية مكانها، أو امارتهم الاسلامية، كما يؤمنون ويصرحون ويكتبون.
يجب التصدي ولكن كيف؟
انشغلت، كما كان متوقعًا، مؤسسات المجتمع العربي في إسرائيل بتداعيات القانون، وبادرت جمعيات ومجموعات كثيرة، وفي طليعتها "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل"، لعقد لقاءات تشاورية حول طرق التصدي لتبعات هذا التشريع. كل هذه المبادرات مباركة ولكن.. لن يراهن عاقل على ما قد يحدث قريبًا، وسيبقى أقوى الاحتمالات الواردة ألا نلمس تحرّكات "ثورية" مؤثرة، وذلك ببساطة لأنّ معظم أحزابنا وهيئاتنا التمثيلية ومؤسساتنا السياسية بنيت في عصور دارسة؛ ورغم جميع التحوّلات في العالم وفي المنطقة وفي الدولة، لم تبادر معظمها إلى مواءمة برامجها وآليات عملها لمتطلبات معطيات العصر الجدّية. لقد بقي أكثرها كذلك الشخص الذي يشهر سيفًا في وجه صاروخ "التوماهوك" أو كمن يريد اسقاط طائرة "أف 35 بمقلاع.
لا أوافق على الدعوة للهجرة من الكنيست، وأخشى من فشل جميع المحاولات النضالية التقليدية، أو من عدم ارتقائها إلى خطورة الحدث؛ وأن يقتصر جدول "المقاومة" على بعض المبادرات القضائية، التي سيبقى سقفها "عدل" إسرائيل القوية، وإلى جانبها بعض الفعاليات "التحرشية" الحاصلة تحت ما يسمى مظلة الرأي العام الدولي ومؤسساته الغارقة عمليًا بما تمليه مصالح تلك الدول ومرابحات/ مقايضات قادتها الموسمية؛ وكما قلنا في الماضي نكرر أنه بدون كسر القوالب والخروج من فروض "القبيلة" لن ننجح في بناء "كواسر موج" قادرة على درء الهزائم والغرق. فقريبًا سوف نشعر، كمواطنين عرب، بنتائج هذا القانون على حياتنا اليومية وعلى مكانتنا السياسية. لن يقتصر تأثيره المباشر على مواقف الأجهزة القضائية التي ستنحني انصياعًا لروحه الجديدة، وتقتصّ بهدوء من لحم حقوقنا المدنية والسياسية – كحقنا في التأطر السياسي، وحقنا في التظاهر، وحقنا في السكن وفي الحركة وفي التعبير عن الرأي وغيرها- بل سينعكس أثره في علاقة الدولة معنا كأفراد ومجتمع ولن تبقى حياتنا عرجاء كما كانت، بل ستصير تفاصيلها أعقد وأصعب وهوامشها أضيق بكثير.
سيكون الآتي أفظع، وسيفرض علينا الواقع المتشكّل، إذا بقي تعاطينا معه بأنماط العمل القائمة، طريقًا من اثنين: فإما مواجهة طاحنة كبرى مع نظام جديد يؤمن بأن الرب حليفه، والأرض سجادته وأننا هنا، نحن العرب، نتحيّن الفرصة "لقتله"؛ وهم يتصرفون بواقع حكمة اجدادهم القاضية بان "من جاء ليقتلك قم واقتله أولًا"، ويعرفون أن العالم يعيش في عصر، تقوم فيه فضائيات "النظام العالمي الجديد" بتصوير موت الملايين من الأبرياء كما تصوّر هوليوود أفلام "الغرب المتوحش".
وإما نجاح من يؤمنون باقامة أطر مستحدثة وجبهات عريضة تعمل بأساليب ومفاهيم مبتكرة، وتنطلق من كوننا مواطنين في دولة يريد معظم قادتها التخلص منا، ولكن رغم ذلك يتطلب صراعنا في هذه المرحلة الحرجة، أن نجد فيها حلفاء ونحاول معهم الوقوف في وجه العاصفة وأمام نيران التنين. قد تكون مهمة ايجاد الحلفاء من العرب سهلة، أما من اليهود والصهاينة فصعبة أو عسيرة، ولكن عدم المحاولة، وهي أسهل، سيؤدي إلى ارتكابنا فشلًا خطيرًا، ستكون نتائجه أكبر من كابوس، لكنها، حتمًا، ليست أصغر من نكبة .
جواد بولس
كاتب فلسطيني