الوكالة قضية سياسية

بقلم: عاطف أبو سيف

تثير تقليصات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الكثير من السخط في الشارع الفلسطيني لما تشكله من مساس بالهيئة الدولية التي خصصها المجتمع الدولي لرعاية شؤون اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، وهي تقليصات رغم مظهرها المالي الخارجي إلا أنها ذات بعد سياسي بحت، إذ إنها جزء من تصفية أعمال الوكالة وبالتالي تصفية لقضية اللاجئين التي يجسدها وجودها، وبنتيجة حتمية يتم المساس بأهم مكون من مكونات القضية الوطنية الفلسطينية المتمثل بقضية اللاجئين.
فعمود القضية الوطنية قضية اللاجئين، والنكبة ليست إلا قضية أرض وإنسان، والسرقة التاريخية الكبرى التي تمت العام 1948 تمت للأرض كما تمت بنفي الإنسان عن الأرض، وعليه فالقضية برمتها قضية لجوء.
لم يكن وجود الوكالة منة ولا تفضلا من المجتمع الدولي ولا جاء برغبة ورجاء فلسطيني، بل عكست في الحقيقة وعلى مدار السنوات عجز المجتمع الدولي عن القيام بمهامه وواجباته تجاه الأزمة في فلسطين.
فالهيئة الدولية التي خلقت إسرائيل من الصفر وأعطتها شهادة ميلادها سواء عبر قرار التقسيم أو عبر منحها عضوية كاملة فيها، عجزت طوال سبعين سنة عن فرض قرار واحد من قراراتها على تل أبيب.
وليس القرار رقم 194 إلا حالة ماثلة على هذا العجز، بل إن قرار عضوية دولة الاحتلال في الجمعية العامة كان مشروطاً بشرطين: تنفيذ إسرائيل لقرار 194 وقيام الدولة العربية في فلسطين.
وتعهد بن غوريون برسالة خطية بذلك إلا أن هذا لم يحدث بالمطلق، وبقصد واضح تم تجاوز هذين الشرطين، بل إنهما لم يعودا شرطين بل باتا في الحقيقة مطلبين على تل أبيب تنفيذهما من أجل أن تصبح عضواً.
وبقدرة قادر تم إغماض العين عن حقيقة أن إسرائيل لم تنفذ أياً منهما، ومع الوقت تم نسيان الأمر.
في حالات أخرى كان سيصار إلى واحد من الخيارين، إما توقيف العمل بقرار منح إسرائيل العضوية لحين تنفيذها للمطلبين أو تتم إعادة النظر كل عام بالعضوية بسبب عدم الالتزام بالمطلبين.
لم يحدث شيء من هذا، بل إن إسرائيل تمتعت بالعضوية الكاملة فيما بقي الشعب الذي تمت سرقة بلاده بقرار أممي بلا دولة، وبعد قرابة سبعين عاماً وبعد نضال شاق تم منحه دولة غير كاملة العضوية.
وجود وكالة الغوث كان يجب أن يكون مؤقتاً، لكنه أيضاً بات دائماً؛ لأن هذا الوجود المؤقت كان يجب أن ينتهي بانتهاء أزمة اللاجئين، لكن ما لم تنه الأزمة ظل وجود الوكالة وصار يتم التجديد كل ثلاث سنوات لتفويضها.
هذا جزء من العجز الكبير الذي يمكن الاستدلال عليه في أداء المجتمع الدولي، حتى يمكن أن يخيل للمرء أن القرارات تنفذ على دول دون الأخرى.
وعليه فإن وجود الوكالة ليس إلا دليلا على الفشل، وليس علامة على صحة أداء المجتمع الدولي ومؤسساته المعتلة أصلاً.
الوكالة وجدت حتى تشرف على رعاية اللاجئين الفلسطينيين وعلى تشغيلهم إلى حين تمكنهم من العودة إلى ديارهم التي تم تهجيرهم منها، ولأن المجتمع الدولي هو من ساعد وساهم في حدوث نكبتهم عبر وعد بلفور قبل وقوع النكبة، وقرار التقسيم قبل النكبة بعام وبعدها عضوية إسرائيل غير القانونية في المنظمة الدولي، فإن المجتمع الدولي حين أوجد هذه الهيئة الدولية المتمثلة بـ"الأونروا" لم يكن يمن على الشعب الفلسطيني ولا كان يمارس عليه سخاءه غير الأصيل، بل كان يعبر بوضوح عن عجزه عن فرض الحق الذي قام هو بالمساعدة بانتهاكه.
وعليه فهذا ليس كرماً من المجتمع الدولي ولا هو تعبير عن تعاطف مع الفلسطينيين.
لم يرغب الفلسطينيون في أن يصبحوا لاجئين وهم لا يحبون أن يبقوا كذلك.
الفلسطينيون لا يحبون كرت التموين، ولا طوابير المؤن، ولا هم يحترفون انتظار الإعاشة ولا يتمسكون بها، بل إنهم لا يطيقون علم الأمم المتحدة التي تسببت بنكبتهم.
الفلسطينيون لا ينظرون عميقاً بمودة تجاه المجتمع الدولي وإن اضطروا إلى مجاراته أملاً في تصحيح الخطأ التاريخي الذي وقع عليهم جراء سياساته التعسفية، ولو جزئياً.
الفلسطينيون لا يحبون مقرات التغذية ولا رائحة الأدوية في عيادات الوكالة ولم يتمنوا يوماً دوامها، بل إن حلمهم هو زوالها، ولكن هذا الزوال الذي لا يتحقق إلا بعودتهم إلى قراهم ومدنهم، إلى مهاجع أحلامهم ومواطن آمالهم.
الفلسطينيون يريدون أن يعودا إلى بلادهم لا أن يظلوا لاجئين، هم من خرج منذ تأسيس الوكالة في مسيرات عارمة ضد كرت التموين، وربما أن الأدب الفلسطيني يحتشد بالقصائد والقصص والمشاهد الناقمة على كرت التموين وطوابير التطعيم.
والفلسطينيون كانوا يعيشون بكرامة وكبرياء في بلاد صنفت الأكثر تقدماً في المنطقة العربية عقب الحرب العالمية الأولى، كان لديهم صحف من الأكثر انتشاراً في المنطقة العربية، وكان لديهم نقابات لسكك الحديد، واتحادات عمال ومصانع للعطور والجلود وشركات طيران وكان برتقالهم ومنتجاتهم الأشهى والأكثر شهرة، وكانوا يسيرون بثقة نحو المستقبل لولا الهجمة الكولونيالية الشرسة التي شنتها عليهم الحركة الصهيونية بمساعدة المجتمع الدولي حتى وقعت بهم محرقة النكبة.
ولمفارقة غريبة ظلت الوكالة الشاهد الوحيد إلى جانب المخيمات على آثار الجريمة.
الوكالة التي وجدت كي تقبر قضية اللاجئين عبر إلهاء اللاجئين عبر إطعامهم وتعليمهم وتوظيفهم، صارت مع الزمن "شاهد ملك" على بشاعة ما حل بالفلسطينيين حين تمت سرقة بلادهم وإعمال التطهير العرقي بحقهم.
مفارقة أزعجت من قرروا إيجاد هذه الوكالة لإخماد قضية اللاجئين، لذا يسعون بكل السبل من أجل قتلها وتصفية أعمالها؛ لذلك فإن الحفاظ على وجود الوكالة مهما كلف الأمر من ثمن واجب وطني للحفاظ على الحق السياسي.
القصة ليست في توظيف ولا في عمال ولا في خدمات، بل في حق سياسي الوكالة شاهدة عليه.

عاطف أبو سيف
2018-07-30