يتوافق الفلسطينيون على الثرثرة ويلوكون الشعارات المستهلكة عن الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام ويعودون إلى تبادل الشتائم والاتهامات. هناك حقيقة يرونها بأمهات أعينهم ساطعة في وضوحها لكنهم يصرون على إنكارها والتعامي عنها: موضوع الوحدة الوطنية ليس سوى وهم خرافي يجري تداوله خارج سياقه وشروطه ولا أحد يريد له التحقق لأنه ببساطة لا يريد أن يتنازل عن أسباب الانقسام لأنها تخدم مصالحه.
مهما قيل عن مبادرات أو وساطات ومهما ظن البعض منا أن "خطورة المرحلة" ستنجح في فرض استعادة الوحدة فهو واهم: من فصلوا غزة عن السلطة بانقلاب دموي لم يفعلوا ذلك ليتنازلوا بعد ذلك عن حكم القطاع البائس مهما اشتد بؤس أهله.
هم ببساطة يعضون بالأسنان والنواجذ على حلم الإخوان المسلمين الأخير، على جزيرة الشقاء التي يريدونها مشيخة لهم وهم في سبيل ذلك يواظبون بكلل وبكل ما في جعبتهم من أضاليل ومناورات لكسب الوقت وتفريغ أية مبادرات من محتواها ولديهم دائماً حججهم وذرائعهم التي تسعفهم في الأوقات التي يظن الآخرون أنها حرجة فيخرجون من "جراب الحاوي" عدّة الخلاف بعناوينها المعروفة وحتى المبتذلة والشائنة. المفاوضات خيانة حين تقوم بها السلطة لكنها مشروعة حين تكون بقيادتهم بوساطة قطرية، وهم في تنقلهم بين تخوين تفاوض السلطة وتعظيم تفاوضهم لا يرف لهم جفن، وهم سبق أن أفتوا بتأثيم الانتخابات وحين دخلوها بعد ذلك لم يتورع أحد أبرز قياداتهم في غزة عن تبرير ذلك بالقول لقناة "الجزيرة": لقد كنا قادمين للسلطة إما بالانتخاب أو بالانقلاب.
هي حال تجعلنا نرى في كل جهود استعادة الوحدة وتجاوز الانقسام جهوداً عبثية لن تكون نتيجتها إلا إهدار الوقت وإيقاع المجموع الفلسطيني في البلبلة والضياع المزيد من فقدان الأمل. البحث عن استعادة الترابط مع قطاع غزة المختطف يظل مهمة وطنية لكن طريقها لا يمر بالتفاوض العبثي مع حركة حماس المسدود والذي أوصل القطاع المـــحاصر إلى بؤس غير مسبوق بسبب الحصار والأزمة الافتــــصادية الخانقة والبطالة. ما تعيشه غزة اليوم خلق ظواهر اجتماعية شاذة بالغة الخطورة أبرزها ظاهرة انتحار الشبان العاطلين من العمل وظاهرة انتشار المخدرات وغيرها الكثير، ما يجعلنا ندعو إلى اعتبار قطاع غزة منطقة منكوبة تحتاج قبل أي شيء إلى تخليصها من قبضة حماس وإعادتها إلى الحياة الإنسانية العادية التي يعشها الفلسطينيون الآخرون كي لا نقول الشعوب الأخرى.
تخليص غزة من ورطتها التاريخية مهمة وطنية كبرى نعتقد أنها تستحق أن تكون هدفاً وشعاراً لمنظمة التحرير الفلسطينية وللسلطة الفلسطينية كما للفصائل والأحزاب والقوى السياسية وقوى المجتمع المدني، وتحقيقها يبدأ من مقاطعة حماس ووقف الحوار معها إلى أن تستجيب لخطوة تسليم السلطة كاملة وإعتاق مليوني فلسطيني من هول حياتهم البائسة.
دعوة كهذه نعرف أنها ستلاقي من يهاجمها باعتبارها ضد الوحدة الوطنية وسيزايد عليها بالحديث المعاد والفارغ من أي مضمون عن الأخوة والمصير الواحد وغير ذلك مما بات أناشيد حماسية لم تحقق سوى الفراغ والعدم. ذلك يحتاج بالضرورة إلى إخراج قضية استعادة غزة من غرف السلطة والفصائل الضيقة إلى فضاء شعبي أوسع يستدرج مبادرات شعبية ذات مضامين واقعية تستطيع أن تراكم فعلاً مجدياً على الأرض يمكنه أن يوصلنا إلى نتائج ناجحة تحقق الهدف المنشود الذي فشلت كل الوساطات في تحقيقه خلال عقد ونيف من السنوات.
ذلك يقطع الطريق على صفقة القرن وعلى مشاريع إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة.
* كاتب فلسطيني