لقد أدركت الطليعة النضالية الأولى لحركة "فتح" ضرورة تلازم الفكر والممارسة، كي لا تكون مجرد حركة سياسية فكرية بعيدة عن الواقع، فمن خلال التجربة النضالية للنواة الأولى لحركة "فتح" أواخر خمسينات القرن الماضي ممثلة في ياسر عرفات وخليل الوزير وسليم الزعنون وصلاح خلف وفاروق القدومي ومحمود عباس ومحمد غنيم وعبد الفتاح عيسى حمود ومحمد يوسف النجار وأبو صبري وأبو علي إياد ... والقائمة تطول، أدركت هذه الطليعة النضالية أن الممارسة العملية هي التي تعطي الفكرة مصداقيتها، ولذا صاغت هذه الطليعة مبادئها وأهدافها وأفكارها بشكل بسيط وواضح وغير معقد وبعيداً عن القوالب الأيديولوجية، مستفيدة من خبراتها السابقة في الحركات والأحزاب السياسية سواء منها القومية أو اليسارية أو الإسلامية، التي أغرقت نفسها في التنظير والفكرانية ولم تقم بعملية الموائمة الواقعية لها، التي تعطي فكرها بعداً عملياً تصدقه الممارسة، بل في كثير من الأحيان كانت تأتي ممارسة هذه الأحزاب والحركات متناقضة مع فكرانيتها، وكأن فكرها مطلوب من الآخرين أن يقوموا بممارسته، وهي ما عليها سوى التفكير والتنظير ..!
لذا تميزت حركة "فتح" عن غيرها من هذه القوى في الإنتقال من مستوى التفكير إلى مستوى الممارسة العملية للفكرة التي إستندت عليها، وقدمت تجربة نضالية عملية نوعية في المزاوجة بين الفكر والممارسة، فكانت الطليعة النضالية القيادية تضرب المثل في ممارستها لفكر الحركة وشعاراتها، وتتصدر الممارسة العملية.
فمنذ إنطلاقتها تقدمت قياداتها صفوف العمل المسلح إعداداً وتدريباً وقتالاً، وقدمت العديد من قادتها الأوائل شهداء وجرحى وأسرى في معاركها وعملياتها المسلحة ضد العدو الصهيوني، فلا غرابة أن تشاهد الجماهير الفلسطينية اليوم قيادات حركة "فتح" من أعضاء المركزية أو الثوري وأمناء سر الأقاليم يتقدمون صفوف المقاومة الشعبية في نقاط الإحتكاك والتماس مع قوات الإحتلال وفي البؤر الأكثر سخونة في مواجهة إجراءات الإحتلال العنصرية وغيرها الهادفة إلى توسيع رقعة الإستيطان والإستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الفلسطينية، لن ننسى مشهد الشهيد المناضل القائد زياد أبو عين عضو المجلس الثوري الذي إرتقى شهيداً إثر مواجهة مع قوات الإحتلال في الدفاع عن الأرض في بلدة ترمسعيا في 10/12/2014م، كما نشاهد اليوم أعضاء القيادة في كفر قدوم وفي الخليل وفي الخان الأحمر وفي القدس، وفي غزة وفي أي نقطة إحتكاك أو تماس نجد هذه العناصر القيادية الفتحاوية في مقدمة الجماهير، بهذا السلوك والممارسة تثبت قيادة حركة "فتح" من جديد أن قيادة الجماهير والحراك الشعبي لا تأتي من خلال المكاتب والتنظير عن بعد وإنما من خلال المشاركة الفعلية في أرض الواقع، لذا عقد العشرات من أعضاء المجلس الثوري لحركة "فتح" جلساتهم في نقاط الإحتكاك سواء في الخان الأحمر أو في كفر قدوم وغيرها، فهذا السلوك هو نهج حركة "فتح"، أن تقدم القيادة في كل مستوياتها النموذج العملي والممارسة للشعار وللسياسة التي تقرها أطرها المرجعية، وهنا تظهر مصداقية الحركة في قيادة جماهير شعبها في مختلف مراحل الكفاح وفي مختلف أشكالها وأساليبها، ليقترن فكر الحركة بممارساتها ...
ومن هنا إستحقت حركة "فتح" قيادة الجماهير دائماً، وقيادة الشعب الفلسطيني من خلال الممارسة العملية لتفكيرها ولشعاراتها، فقيادة الجماهير لا تفرض من خارجها إنما تصنع وتأتي من داخلها لتكون معبرة عنها ومنسجمة مع تطلعاتها وتقدم لها النموذج الحي والعملي في الممارسة النضالية وتطبيق فكرها وشعاراتها.
ذلك ما يعطي لهذه القيادة مصداقيتها مع نفسها أولاً ومع شعبها ثانياً، ومع فكرها وما تؤمن به ثالثاً، لذا تلتف الجماهير حول القيادة النضالية التي تعيش معاناتها لحظة بلحظة، وخطوة بخطوة، على طريق الحرية والإستقلال.
في هذه المرحلة بالذات تتجلى أهمية هذه الرؤيا التي تؤمن بها حركة "فتح" (وهي الممارسة هي معيار مصداقية الشعار والفكرة) ...
ففتح اليوم تبني مؤسسات الدولة لبنة لبنة، وترعى السلطة الوطنية وتوفر لها الغطاء السياسي، وتقود الحراك الشعبي والمقاومة السلمية ليس بشعاراتها فقط وإنما بقياداتها من كافة المستويات الوطنية والمناطقية فتجد أعضاء المركزية والثوري والأقاليم جنباً إلى جنب مع مختلف الكادرات والقوى والمنظمات الشعبية في مختلف المواجهات والنشاطات النضالية المختلفة التي تشهدها فلسطين المحتلة.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس