إعتاد الرئيس الفلسطيني محمود عباس على الإصطياد في الماء العكر، حيث أنه كلما وجد أزمة تفتح له طريق العودة للمشهد الدولي من جديد ، لا يتوقف عن اللعب على التناقضات وإذكاء نار الفتن لتعميق الأزمات وإستغلالها لصالحه ومحاولة تسخيرها لعودته كرقم مهم في الساحة الدولية بعد أن بات المجتمع الدولي يبحث عن البديل له لقيادة المشهد الفلسطيني المستقبلي.
في موضوعنا اليوم لن أقلل من شأن الأزمة الديبلوماسية بين كندا والمملكة العربية السعودية واسباب غضب الأخيرة مما إعتبرته تدخل كندا في شؤونها الداخلية. لكن قبل الدخول بحيثيات ذلك لابد من معرفة أن العلاقات الكندية السعودية هي علاقات طبيعية وممتدة عبر سنوات طويلة ، كان نتاجها فتح أبواب الجامعات الكندية أمام آلاف الطلاب السعوديين ليتلقوا أرقى تعليمهم في الجامعات الكندية ، هذا عوضاً عن مساهمة الشركات الكندية في البنية التحتية السعودية بالإضافة إلى التبادل التجاري والنمو الإستثماري لمتصاعد طردياً بينهما بما يعود على موطني البلدين بمنافع إقتصادية مهمة.
كما أن لكندا تعاقدات مع المملكة العربية السعودية في عدة مجالات أخرى تؤكد على أن ما حصل من أزمة ديبلوماسية بينهما ، ما هي إلا سحابة صيف عابرة ممكن أن تحصل بين أي دولتين ذات سيادة ولديها الأجهزة القيادية القادرة على إحتواء أي أزمات، وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يضمن سيادة كل دولة ومصالحها بدون التدخل في شؤونها الداخلية.
أما ما حصل من موقف كندي عبرت عنه السفارة الكندية في الرياض حينما عبرت في تغريدة لها على التوتير وقالت فيها " أن كندا تشعر بقلق بالغ إزاء الإعتقالات الإضافية لنشطاء حقوق المرأة في السعودية ، بما في ذلك سمر بدوي ، وأنها تحث السلطات السعودية على الإفراج عنهم فوراً وعن جميع النشطاء الآخرين في مجال حقوق الإنسان"، مما اثار حفيظة المملكة العربية السعودية وجعلها تُقدِم على خطوات تصعيدىة غير مسبوقة وغير ملاءمة لحجم الحدث ، حيث كان بالإمكان إتخاذ خطوات ديبلوماسية أكثر إنفتاحاً من خلال تقديم إحتجاج رسمي على ذلك عبر القنوات الرسمية.
الموقف السعودي المتوتر الذي نجم بالظاهر كردة فعل عن حالة الإستفزاز التي تسببت بها التغريدة المذكورة وهذا أمر بالإمكان تفهمه جيداً ، فتح شهية الكثير من اللاعبين في العالم سواء على المستويات الشعبية أو الرسمية ، وإنقسم الرأي العام حول تفسير حدة الموقف السعودي المتصاعد والصادم في نفس الوقت ، كما تطرق المحللين لعدة أمور ذهبت بعيداً بالتحليل حينما أوضحت بأن هذه الأزمة لم تكن وليدة اللحظة أو بسبب تلك التغريدة المذكورة فقط وإنما هناك أبعاد أكثر خطورة وعمق مما ذُكِر عبر وسائل الإعلام المختلفة ، وهذا أمر يتثير تساؤلات مشروعة أيضاً!.
من المواقف الغريبة والمستهجنة التي رُصِدَت حول هذه الأزمة على سبيل المثال كان موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي جاء موقفه سريعاً وغريباً ، حيث كان داعياً لدعم الموقف السعودي بقوة ومندداً بالموقف الكندي بل داعياً الدول العربية لإدانة كندا ، بالمقابل كان الموقف الإماراتي والموقف البحريني غير مستهجناً بالمطلق حيث أن كلاهما حليفتان للمملكة العربية السعودية وعضوان أساسيان في مجلس التعاون الخليجي وتحدثا بلغة ديبلوماسية متوازنة عبرت فيها الدولتين عن دعمهما للموقف السعودي وإستنكارهما لتدخل كندا فيما إعتبرتاه الشأن الداخلي السعودي ولكن بدون اللجوء للتحريض ضد كندا، وهذه مفارقة بين موقف هذه الدول ذات السيادة والتي تملك إمكانيات ضخمة وبين موقف الرئيس عباس الذي يفتقر لكل ذلكوليس بحاجة غلى المزيد من التعقديات والمشاكل التي قد تخلق تحديات جديدة أمام القضية الفلسطينية!.
اللافت للنظر أيضاً كان في سرعة الإعلان عن الموقف الفلسطيني الذي عبر عنه رئيس السلطة محمود عباس ، والذي اراد من خلاله على ما يبدو بيع موقف للمملكة العربية السعودية على حساب الموقف الكندي، متجاهلاً بذلك التطور الطردي الإيجابي في موقف الحكومة الكندية إتجاه القضية الفلسطينية ، خاصة من ناحية قضايا أساسية مثل الموقف من مدينة القدس وإدانة عنف الإحتلال على حدود غزة ، وإرسال وفد برلماني مؤلف من 20 نائباً لزيارة الضفة الغربية للوقوف عن كثب حول الأوضاع غير الإنسانية التي تواجه المواطنيين الفلسطينيين بسبب الممارسات والإجراءات التعسفية التي يقوم بها الإحتلال الإسرائيلي، هذا عوضاً عن أن كندا لا زالت داعم رئيسي ومنتظم للأنروا التي لا تزال تقوم بتقديم خدمات حيوية ومهمة للاجئين الفلسطينيين ، هذا بجانب تقديم كندا ملايين الدولارات الأخرى لدعم الجانب القضائي لبناء مؤسسات السلطة الفلسطينية والدولة الفلسطينية الموعودة.
كما أن قنوات حوار مهمة باتت مفتوحة ما بين الحكومة الكندية وبين أبناء الجالية الفلسطينية في كندا لمحاولة جعل الموقف الكندي أكثر تقدماً وإنفتاحاً حيال بعض القضايا التي تهم الشأن الفلسطيني ومنها رفع التمثيل الفلسطيني وضرورة إعتماد الحيادية والإنحياز للعدالة في المواقف التي تهم القضية الفلسطينية وهذه أمور ناتجدة عن جهود كبيرة تُبذل في هذا السياق.
لذلك أجد في موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس هذا ، بأنه لربما يخلق رد فعل قد يؤدي إلى أجراءات حيث أن الموقف الكندي من الممكن أن يكون أكثر إمتعاظاً من موقف الرئيس عباس وبالتالي لن يكون مرحباً بهذه اللغة التحريضية التي إعتمدها الرئيس محمود عباس للتقرب من جديد من المملكة العربية السعودية على حساب كندا من ناحية ولربما يكون ذلك متماهياً مع رغبة بعض الدول للمساس بهيبة الحكومة الكندية قبل الإنتخابات العامة القادمة!.
أخيراً ، في تقديري أنه مع خروج محمود عباس عن الديبلوماسية البديهية وإقحام الجانب الفلسطيني في معركة ليست معركته ولا له ناقة ولا بعير من ورائها ، كونها تمثل أزمة ديبلوماسية عابرة ستجد طريقها للحل قريباًعبر القنوات الديبلوماسة الرسمية ، كون أن الجانب الكندي يتمتع بحكمة كبيرة بالتعاطي مع مثل هذه الأزمات كما أن كندا تعتمد في سياساتها الخارجية الحفاظ على العلاقات مع دول العالم الأخرى ، فإن عباس سيكون هو الخاسر الوحيد ، والشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده قد تنبه لموقفه هذا ، وإستنكر موقفه الذي تسرع بالتعبير عنه بأنه لا يمثله .
يبقى السؤال هنا هو، ما هو الموقف الذي ستتخذه الحكومة الكندية من تحريض محمود عباس ضدها ؟!، هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة ، ولكن في تقديري أن الكثيرين يرون أنه من حق كندا في هذه الحالة أن تلجأ لكل الخطوات الكفيلة بلجم مثل هذه التصرفات التحريضية ضدها وغير المسؤولة حتى لو كان ذلك إلى اللجوء لإقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الكندية أوتاوا وطرد ممثلها، من كندا وهو الذي كان قد حرض ايضاً في وقت سابق على شاشة تلفزيون فلسطين عندما دعى الجالية الفلسطينية لممارسة الضغط على الحكومة الكندية بطريقة خارجة عن العرف الديبلوماسي المعروف والمعمول به في دول العالم ، حتى يعرف محمود عباس والآخرين بأن مكانة كندا محفوظة وليست للمزايدة!.
م. زهير الشاعر