عجوز الثورة

بقلم: أسامه الفرا

أخذت تسرد بشيء من التفصيل الأنشطة التي تقوم بها المؤسسة الخيرية التي تشرف عليها، كان طموحها يسابق إمكانيات وقدرات المؤسسة ولا يتوقف عند شكل محدد من النشاط بل تريد للمؤسسة أن تتوسع بنشاطاتها الانتاجية، آمنت بأن العلاج الحقيقي لمشكلة الفقر تكمن في تشجيع المواطن الفلسطيني لأن يصبح مواطناً منتجاً مدعمة رؤيتها بتجارب دول شرق آسيا التي حققت نمواً اقتصادياً كبيراً بفعل ثقافة الانتاج التي تتمتع بها مجتمعاتها، لم تكتف يومها بمحصلة ما انتجته المؤسسة من الكنزات الشتوية التي تم توزيعها مجاناً على الآلاف من طلبة المدارس، بل كان تطلعها أن تغطي كافة مدارس قطاع غزة، بجانب ذلك راحت تسرد مشروعها الآخر القائم على صناعة الأحذية، المدهش في الأمر أنها كما كانت تتحدث عن أدق التفاصيل المتعلقة بالتريكو تناولت أيضاً تجربتها الجديدة في صناعة الأحذية من مرحلة استيراد الجلود من مصر حتى يخرج المنتج بالشكل الذي ينافس المصانع ذات الخبرة والشهرة.
خلال اللقاء الأول الذي جمعني بالحاجة خديجة شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات أخذت أنصت بإعجاب إلى عجوز الثورة وهي تسرد ما تقوم بعمله بروح عطاء لم يتراجع بفعل العمر، كانت تحرص على أن يكون نشاط المؤسسة بمعزل عن كونها شقيقة الرئيس، لعلها في ذلك استمدت تجربة شقيقها المرحوم د. فتحي عرفات الذي استطاع أن يجعل من الهلال الأحمر الفلسطيني مؤسسة لها حضورها المميز داخل الوطن وخارجه معتمداً على نشاطه وقدرته على نسج علاقة مميزة مع الجهات المانحة، بينما كنت اتجول برفقتها في أروقة المؤسسة التي شيدتها في مدينة غزة عدت بالذاكرة إلى يوم افتتاح مقر الهلال الأحمر في مدينة خان يونس والذي بات أحد معالم المدينة المهمة، راح الحضور يومها ينصت بإعجاب إلى د. فتحي عرفات وهو يسرد مراحل تشييد هذا الصرح وأنشطته المختلفة، كانت الحاجة خديجة وهي تتحدث عن أنشطة المؤسسة التي تديرها كثيراً ما تتوقف عند الفرص التي وفرتها المؤسسة لسيدات بات عملهن في المؤسسة يوفر لهن مصدراً لإعالة أسر فقدت معيلها، مع الاشادة بقدرة المرأة الفلسطينية على الابداع في المجال الانتاجي كما ابدعت في المجال النضالي.
كان بإمكان الحاجة خديجة أن تركن في حياتها إلى مكانتها الاجتماعية "شقيقة الرئيس" وأن تنعم بحياة تلبي رغباتها بكل يسر، أو على الأقل أن تذهب كحال الكثير إلى الاعتماد على راتب تقاعدي بعد سنوات عمل طويلة في الثورة الفلسطينية أكسبتها صفة "عجوز الثورة"، لكنها اختارت أن تواصل رحلة العمل والعطاء دون أن يثبط تقدم العمر من عزيمتها وإرادتها، حتى وهي ترقد في مستشفى فلسطين بالقاهرة بعد أن توغل الكبر في جسمها الصغير واصلت الحديث بذات الروح المؤمنة بأن الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
رحلت الحاجة خديجة بصمت كما كانت تعمل بصمت، رحلت دون ضجيج لتكتب بذلك الصفحة الأخيرة من حياة اتسمت بالبساطة والتواضع والتقشف لشقيقة الرئيس، ما زلت أذكر لها يوم جاءت لمنزلي بعد انتهاء اعتقال حماس لي، عرفت يومها أنها استقلت سيارة أجرة لتقلها من غزة إلى خان يونس، وحين همت بالمغادرة طلبت من صديقي أن يقلها بسيارته إلى مكان سكناها وهو ما رفضته بشدة، الشيء الوحيد الذي قبلته هو أن يوصلها إلى أقرب موقف سيارات أجرة، وافق صديقي حينها بنية أن يواصل طريقه إلى مدينة غزة حيث تقيم، وما أن وصل إلى الطريق العام حتى أجبرته على التوقف لتستقل بعدها سيارة أجرة، وما أن علم سائقها أن السيدة العجوز هي شقيقة الرئيس الراحل أبو عمار حتى تطوع بايصالها معتبراً أن ما يفعله ليس سوى القيام بالقليل من الواجب حيال الرئيس الذي حرص دوماً على تلمس هموم شعبه، رحلت عجوز الثورة بعد حياة تقاطعت ببساطتها وتواضعها مع حياة الرئيس الذي استحوذ على

د. أسامه الفرا