أثبتت الأحداث الجارية في قطاع غزة خصوصاً وفي فلسطين عموماً، سواءً في هذه الأيام حيث يجري الحديث عن هدنةٍ مع العدو الإسرائيلي، أو في الأيام والسنين التي سبقتها خلال الحروب الثلاثة الماضية وما بعدها، وأثناء الحصار الظالم والتجويع المقصود، وفي ظل سياسة الاغتيالات وعمليات التصفية والاستهداف، أن قوى المقاومة الفلسطينية متجانسة ومتناغمة، ومتعاونة ومتفاهمة، وديناميكية ومرنة، وأنها تعي المرحلة وتدرك خطورتها، وتقدر الأزمة وتسعى للخروج منها، وأنها تتأقلم مع الظروف وتنسجم مع الواقع، وتنتصر بوحدتها على ظروفها الصعبة وتتحدى أزماتها الخانقة، وأن حالة التنسيق فيما بينها هي في أعلى درجاتها، وأن تفاهماتها البينية قوية ومتينة، وحواراتها الثنائية والعامة دائمة ومستمرة، وهي تتبادل المعلومات، وتنسق المواقف، وتوزع الأدوار، تصغي لنفسها وتعذر بعضها، وتتجاوز فيما بينها الهفوات والسقطات، والهنات والزلات، وهي تأخذ بيد بعضها وتتعاون فيما بينها.
قد يرى البعض أن ما ذكرت ليس حقيقةً ولا واقعاً، وإنما هو خيالٌ وأوهامٌ وسرابٌ، أو هو ضحكٌ على العقول وذرٌ للرماد في العيون، أو هو من باب الأماني والأحلام، والآمال والتطلعات، فالقوى الفلسطينية متنافسة سلبياً، ومتناقضة فكرياً، وغير منسجمة سياسياً، ومتصادمة عسكرياً، وأن حالة التنافر بينها كبيرة، وفرص اللقاء بينها قليلة، وأنها لا تتحد في موقفٍ، ولا تلتقي في سياسة، وأن الخلافات فيما بينها قد تنفجر في أي لحظة، فما يوجد بينها من تناقضاتٍ خفيةٍ كفيلٌ بأن يدمر مشروعهم، ويفسد نضالهم، ويمكن العدو منهم، ولا يوجد من يتوسط بينهم، ويسيطر على خلافاتهم أو يضبطها أو يحكمها، كما لا يوجد من يسعى للتوفيق فيما بينها، وجمع صفها وتوحيد كلماتها، أو التقريب بين وجهات نظرها.
قد يكون ما ذكرتُه آنفاً من تخوف البعض حقيقة، وأن الخلافات الفلسطينية الداخلية عميقة، وأنها الهوات بينها أكبر بكثيرٍ من أن تردم، وأصعب من أن تسوى، ولكن واقع الحال اليوم خاصةً في قطاع غزة يؤكد أن القوى الفلسطينية متفقة في الهدف والغاية، وراضية عن السبل والأشكال، وهي تنسق على الأرض وفي الميدان، فهي قد اتحدت في مسيرةٍ وطنيةٍ شعبيةٍ كبرى، امتدت لأكثر من عشرين جمعةٍ وما زالت، قدم فيها شعبنا المطر فصائلياً، والمنظم حزبياً، عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، وما زالت هيئاتها التنسيقية تجتمع وتلتقي، وتضع الخطط والتصورات، وتقود الجموع والمسيرات، وتوزع الجهد وتنسق بين القلب والأطراف.
أما خلال أيام التوتر الشديد والاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المتوالية على قطاع غزة، فقد شكلت القوى الفلسطينية وألويتها العسكرية غرفة عملياتٍ مشتركةٍ، خاضوا من خلالها معركتهم مع العدو الصهيوني، وردوا من خلالها عبر قراراتٍ موحدة على القصف الإسرائيلي، وصنعوا بوحدتهم وأدائهم المشترك معادلةً جديدةً، فرضوها على العدو وأخضعوه لها، وهي معادلة أجبرته على القبول على شروط الفلسطينيين والخضوع لها، بعد أن فشل في فرض معادلته الخاصة، التي تقوم على القصف والاعتداء، والاجتياح والاغتيال، دونٍ توقع ردٍ من المقاومة، أو تخوفٍ من انتقامٍ وردود فعلٍ قاسية.
وقد فرضت القوى الفلسطينية من خلال غرفة عملياتها العسكرية المشتركة معادلة القصف بالقصف، والقنص بالقنص، والحرق بالحرق، إلى جانب الهدوء مقابل الهدوء، وما كان لهذه المعادلة أن تفرض، ولهذه السياسة أن تحترم وتقدر، ويخضع لا العدو ويقبل، لولا تفاهم القوى الفلسطينية فيما بينها، وتنسيقها لأدوارها، وترفعها على مشاكلها، ووعيها التام بأن قضيتهم في خطر، وأن شعبهم يعاني ويقاسي، وهو يتوقع منهم إحساساً بمشاكله وهمومه، وحاجاته ومستلزماته للعيش الحر الآمن الكريم.
يراقب العدو الإسرائيلي غرفة العمليات العسكرية الفلسطينية المشتركة، ويتابع عمليات التنسيق فيما بين القوى الفلسطينية مجتمعة، خلال مسيرة العودة وأثناء عملياته العسكرية المختلفة على القطاع، فيصاب بالإحباط والفشل، ويصيبه الغيظ والكمد، ويتخبط في أدائه ويتعثر في سياسته، إذ كان يأمل كثيراً في أن يدب لخلاف بين القوى الفلسطينية، وأن تتعمق الأزمات بينهم فلا يلتقون، أو تزداد الاختلافات فلا يتفقون، وحينها يسهل ليه فرض ما يريد عليهم، وتنفيذ ما يأمل من مشاريع على أرضهم وعلى حساب حقوقهم ومقدساتهم.
ولعل العدو بأجهزته الأمنية والعسكرية، والإعلامية والسياسية، ومعه الإدارة الأمريكية يتطلع إلى تعميق الخلافات الفلسطينية البينية ليستفيد منها، فنراه يعمد إلى إبراز الاختلافات وتسليط الضوء عليها، ويعمل على تحليلها وإجراء الحوارات على أساسها، ويستضيف من يشعلها ويزيد من لهيبها ويصب المزيد من البنزين عليها، ويشغل الفلسطينيين بها ويحرف اهتمامهم عنه وعن مواجهة سياسته العنصرية والتصدي لمخططاته العدوانية، في الوقت الذي يستغل فيه هذه الاختلافات في تشوية صورة الفلسطينيين، وتبرير سياسته ضدهم، بأنهم غير متفقين وغير مسؤولين، وأنهم غير مستعدين وغير جادين، ولا يصلحون أن يكونوا شركاء لهم في المفاوضات، أو أمناء على المستقبل معهم.
لا يعني توافق القوى الفلسطينية في مواجهة ما يجري في قطاع غزة، وما يحضر له من مشاريع دولية وأممية، وفي التصدي لما يسمى بصفقة القرن ومخططات الإدارة الأمريكية، وفي تحدي الإجراءات والقوانين العنصرية الإسرائيلية، سواء تلك المتعلقة بمدينة القدس أو بمصادرة الأراضي والاستيطان، أو تلك الأخيرة التي تتناول قومية الدولة ويهودية كيانه، لا يعني هذا أنها متطابقة في مواقفها السياسية، وأنها موحدة في برامجها النضالية والكفاحية، أو تصوراتها السياسية ورؤاها الاستراتيجية، بل لكلٍ منها سياستها الخاصة المستقلة، وبرنامجها السياسي المرحلي والاستراتيجي، كما أن لكلٍ منها أيديولوجيتها الفكرية وتصوراتها الاجتماعية.
ولكن هذا التمايز لا يعني التصادم، وهذا الاختلاف لا يعني التناقض، وإنما هو اختلافٌ وتمايزٌ يشي بالقوة، ويعبر عن التكامل والإغناء، وقد باتت تدرك أن الشعب يتطلع إلى وحدتها، وأن العدو يراهن على اختلافها، وأن مصالح شعبها ومستقبل قضيتها، وتقدير الأمة لها واعترافه بها وخضوعه لإرادتها، رهنٌ بوحدتها فيما بينها، واتفاقها على الأرض وفي الميدان، في السياسة وعلى الجبهات.
بقلم/ د. مصطفى اللداوي