في وقت ينشغل الإسرائيليون في أبرز القضايا السياسية التي تهم نظامهم السياسي، ومشاكلهم المستعرة مع ائتلافهم الحكومي وخلافات أطرافه، وحتى بين أعضاء الكابينيت (حكومتهم المصغرة) وغياب الإجماع العام على قضايا تقضّ مضجعهم، وأبرزها الآن قضية التهدئة في غزة، لا يقل انشغال أطراف النظام السياسي الفلسطيني، ونخبته البيروقراطية بالعديد من القضايا الهامشية الخاصة بصراعات ورثة "السيد الرئيس"، ما يؤثر في مجمل قضايا الوضع الوطني العام بالمزيد من الانعكاسات السلبية، وقد ترك الميدان الفلسطيني مكشوفاً للعدو، وللشامتين بوضع النخبة البيروقراطية وهي تتّجه اتجاهات تصارعية، بعيداً من نهج الوحدة والتكامل الوطني الذي شهد انقسامات تفتيتية لم تعد تبدو أنها قابلة للتجسير.
وبعد هذه التـــجربة الطويلة التي أعقـــبت تجربة أوسلو طوال ربع قرن من الزمن، انفضحت خلالها كامل رهانـــاتها ومراهناتها الخاسرة على "حل الدولتين"، وكانت أبرز الخسارات العجز عن تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي، والمراوحة في حلقات التنسيق الأمني، وعدم القدرة على تحويل السلطة إلى دولة، على رغم نوايا طيبة وأحلام تقارب الأوهام، اصـــطدمت بالعديد من جدران الخيبة. وعلى رغم ذلك ما فتئت الرهانات مستمرة، لأن لا خيار ولا بديل عن هذا المــسار الذي قادت سلطة أوسلو إليه، وبعدها فقدت مكابحها قدرة الســـيطرة على الانزلاقات، وصولاً الى ما نشهده اليوم من مؤشرات التدهور العام ودلائله.
وما نشهده اليوم من تصارعات الورثة السلطويين، للاستيلاء على السلطة، في "الدولة المفقودة"، يؤكد اتجاهات التدهور نحو فقدان أي أمل بإصلاح الوضع القيادي، ووقف اختلالات واهتزازات السفينة الفلسطينية، طالما استمرت حال الانقسام وتقاسم السلطة وتبادل أدوار التسلط والاستبداد والقمع المتبادل، وطالما استمرت المناكفات وتغيير المواقع والأدوار، وفرض عقوبات أقسى من عقوبات العدو، واللعب على حبال الهيمنة بين حكومتين فقدتا شرعيتيهما، وأثبتتا ما يتجاوز فئويتيهما بامتياز، وبأنهما تعملان عند "رب عمل واحد" أو أرباب عمل متضامنين متكافلين مصلحياً وزبائنياً، عند ذاتهما، ولدى غيرهما من الشركاء المتغافلين عن صراعات سلطتي "الدولة المفقودة" في بقايا الوطن الفلسطيني المحتل كله، مباشرة ومداورة عبر قوى قمع احتلالية وقوى قمع وطنية، تربت في ظل "تنسيق أمني مقدس" قولاً وفعلاً، تطأطئ رؤوسها أمام قوات الاحتلال، ولا ترفعه إلا في مواجهة أبناء شعبها، قمعاً وتعذيباً واعتقالاً، تشفياً بهم كما فعلت وتفعل قوى قمع الاستبداد الرسمي العربي بشعوبها، لمصلحة السلطات الحاكمة، الناهبة للدولة ولكل حقوق مواطنيها، وهم يتحولون إلى عبيد لـ "أسياد" السلطة، وإن تمردوا وثاروا تحولهم السلطة إلى مطاريد ينبغي قتلهم. وهذا لا علاقة له بالإرهاب والإرهابيين، كما جرى خلط الأمور في سورية، وعلى رغم كل ما جرى لم يفرق النظام حتى الآن بين معارضة سياسية وطنية أطلقت شرارة الثورة، وبين قوى "إسلام سياسي" احترفت وتحترف الإرهاب وصولاً الى غاياتها المرصودة، لمصلحتها ومصالح مشغّليها ومموليها وداعميها.
وفي هذا الصدد، لا تختلف الحال الفلسطينية عن الحال العربية، فكلاهما يصدر عن بنية ذهنية سلطوية وتسلطية واحدة، على رغم اختلافات معطيات العيش والتفكير والسياسات المتباينة وطبيعة القضايا والمجتمعات، وما يصدر عنها من ذهنيات تقليدية أو حداثية، أو بين بين، في ظل لا أدرية قتلت السياسة وانتصرت للاستبداد، حين تماهت السياسة بالدين، وأخذ الدين مكان "الحاكم السياسي" الذي خلط بدوره السماوي بالدنيوي، واختبأت السلطة في ثنايا كل منهما، فانتصرت السلطة على الدولة وعلى ما يُسمى "الأمة"، وانتصر الاحتلال على كليهما، ولم يبق لنا سوى الأمل، أمل استرداد سطوة العقل والحداثة والتنوير والإيمان الحقيقي بالديموقراطية والتربية على قيم الإنسانية المتحضرة، بالهيمنة على موجودات الطبيعة والسياسة والمجتمعات والدول والفكر والعلم، وكل ما أحاط بنا ويحيط من نتاجات العقل، التي وللأسف لم تدركها ذهنيات كثيرة ما فتئت تعيش تحت نير اعتقال ذاتي وموضوعي، إحدى سماته الأبرز استعار نيران الهيمنة والبطش والتغول والاستعلاء على الغير ومحاولة استعبادهم، والخلاص من كل مقاومة جادة وحقيقية، لا تستثمر ذاتها إلا في ما يفيد الناس وقضاياها، ولا ترصد ذاتها إلا لمشاريعها الوطنية، ولا تقدم خدماتها لمشاريع خارجية وظيفية وتوظيفية، إقليمية أو دولية، لا تدخل في نطاقها مصالح شعوبنا وتطلعاتها، ولا مصالح وتطلعات مشاريعنا الوطنية التي وللمصيبة تقف اليوم في عراء تصارعات الذات أو الذوات المنفصمة، وتعيش في ما بين "صراعات الورثة"، غربة قاتلة في برامج أشباهها وسياساتهم... وعلى موائد اللئام.
ماجد الشيخ
* كاتب فلسطيني