ما بعد أوسلو – ما كٌتب قبل عشرين عاماً

بقلم: مصطفى البرغوثي

بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، قررت أن أعيد اليوم نشر مقال كتب في آذار عام 1998 بعد توقيع اتفاق أوسلو بأربعة أعوام ونصف، كمقدمة لكراس نشر قبل عشرين عاماً تحت عنوان "ما بعد أوسلو".

وكم تمنيت لو أن توقعات المقال، لم تكن صحيحة، ولكنها اليوم، ولبالغ الأسف، وبعد عشرين عاماً أصبحت واقعاً أكيدا.

"مضمون المفاوضات بعد أربعة أعوام من أوسلو

إن السؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا : هل كانت هناك فعلا عملية سلام ومفاوضات سلام، بالمعنى المعروف لكلمة المفاوضات، بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني؟

ولنعد  قليلاً إلى الوراء لنستطلع البدايات التي انطلقت منها هذه العملية، فعلى الجانب العربي، ومن ثم الفلسطيني، بدأ مناخ الاتجاه نحو التفاوض، وبالتالي الحلول الوسط ، يتكون بعد حرب حزيران، إذ دفع احتلال الأراضي العربية باتجاه تفكير واقعي بشأن حل النزاع، وبدأ يتكون لدى الجانب الفلسطيني الاستعداد لقبول حل يقوم عل قيام دولتين لشعبين. وبالمقابل فان تلك الحرب وتضخم القوة العسكرية والاقتصادية اللاحق لإسرائيل قد شكلتا البداية لتكون "عقدة التفوق المتعالية" لدى إسرائيل، ولبدء عملية ستؤدي لاحقاً إلى وقوع حكومات إسرائيل المتعاقبة فيما يمكن تسميته "ضيق الأفق الإستراتيجي"، الذي سيصل في بعض الأحيان إلى حد العجز عن إدراك حدود ومدى القدرة على استخدام القوة العسكرية، كما حدث أكثر من مرة في لبنان.

وإذا كان اتفاق كامب ديفيد، ومن ثم حرب الخليج وانهيار المعسكر العربي الموحد، قد ساهم في إعداد المسرح العربي لما جرى لاحقا، فان الانتفاضة الشعبية التي تفجرت عام 1987 في فلسطين كانت العامل  الأساسي الذي أجبر إسرائيل على إعادة النظر سياستها، إذ جسدت الانتفاضة أربع نتائج لا يجوز تناسيها :-

أ -      إن الانجاز الرئيس للشعب الفلسطيني في وجه هزيمة حزيران، وعلى عكس ما جرى عام 1948، كان نجاحه في البقاء على أرضه، وبذلك فانه كسر العمود الفقري للمخطط التقليدي الصهيوني بتهويد فلسطين تدريجياً، وإجبار سكانها على الرحيل.

ب -    إن سنين الاحتلال قد علًمت الشعب الفلسطيني الكثير، وأثمرت بصورة منهجية عمليتين متوازيتين: الاعتماد على النفس، وتنظيم الذات من خلال آلاف المبادرات والهياكل التنظيمية الجماهيرية والسياسية والشعبية.

          وبذلك فان الوجود على الأرض تحول من مجرد وجود بشري إلى وجود حيوي مقاوم لشعب مناضل أخذ ينتزع يوما تلو الآخر التفهم والتعاطف، باعتباره شعبا يكافح من أجل قيم التحرر والكرامة التي لم يعد من الممكن في عصرنا إدارة الظهر لها. ولأول مرة بدت إسرائيل أمام العالم قوة قمعية تقهر شعباً آخر، على عكس صورة الدولة العصرية الديمقراطية، والضحية المحاصرة (ببحر من التخلف والإرهاب العربي) التي قدمت للعالم قبل وبعد عام 1967.

ج -     وكشفت الانتفاضة استحالة استمرار الحكم العسكري الذي أنشأ منذ 1967 بأذرعه المختلفة، كإطار للسيطرة على السكان الفلسطينيين، وأصبحت هناك حاجة ملحة لإطار جديد للهيمنة أو لحل يتناول جوهر المشكلة. وبكلمات أخرى، فأن الانتفاضة نسفت، بما خلقته من حقائق، حالة "STATUS Q" القائمة، وبات الجهاز العسكري الإسرائيلي مضغوطا بإلحاح الحاجة إلى حل جديد للوضع المتفاقم. ولعل هذا هو التفسير الرئيسي، لمن يريد أن يبحث أكثر، للتحول الذي جرى في مواقف اسحق رابين خلال تلك الفترة.

د -  أما النتيجة الرابعة للانتفاضة فهي أن الشعب الفلسطيني أنقذ من خلالها منظمة التحرير من مصير العزلة والنفي اللذين كانا يرسمان لها منذ إخلائها من بيروت عام 1982. وفوق كل ذلك فانه أحبط ، بمنهجية تلفت النظر، محاولات خلق قيادة بديلة لمنظمة التحرير، وخاصة خلال مرحلة مدريد من مفاوضات السلام، على عكس الأوهام التي حاولت إسرائيل الترويج لها.

ولعل ما كتبه ممدوح نوفل، في كتابه "حول اتفاق أوسلو"، خير وصف للأجواء النفسية التي حاولت إسرائيل والولايات المتحدة خلقها خلال عملية المفاوضات واستخدامها كعامل مهم للضغط على مفاوض أوسلو، من اجل انتزاع تنازلات ما كان يمكن أن تقدم في واشنطن.

وبدون الخوض في تفاصيل أوسلو، الذي سيقرر التاريخ ما إذا كان قد طور فرصة السلام أم قتلها، فان من المهم ملاحظة أن توقيعه، ومن ثم تطبيقه، قد سحب معه نتائج عديدة، كان بعضها، بغض النظر عن النوايا، جزءا من الثمن الذي دفعها الجانب الفلسطيني مقابل إنشاء بؤرة السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا، ومن ثم في مناطق أخرى.

لعل أول هذه النتائج فقدان القاسم المشترك الذي قامت على أساسه الوحدة المتينة للشعب الفلسطيني، والتي لم يزعزعها حتى نشاط حركة حماس العاملة خارج إطار منظمة التحرير في تلك الفترة. لقد كان ذلك القاسم المشترك يستند إلى الهدف الوطني المشترك بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، ويتجسد من خلال منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي لشعبها، ولعل أكبر خطأ ارتكب في هذا المجال هو الدمج بين منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية الناشئة، والمحكومة من الألف إلى الياء باتفاق أوسلو.

ومن هذه الزاوية فان إسرائيل حققت هدفاً هاماً بإضعاف إطار الحركة الوطنية الفلسطينية وإلحاق ضعف استراتيجي، سنظهر نتائجه لاحقا، بقدرة الجانب الفلسطيني على التفاوض من موقع قوة.

ثانيا، نشوء فصل لأول مرة على أرض الواقع بين جزأين أساسيين مكونين للحركة الوطنية: قيادة منظمة التحرير التي غدت السلطة، والناس الذين يمثلون الجمهور مع كل تنظيماته الاجتماعية والشعبية. إن هذا الفصل، الذي يبدو طبيعيا في أي دولة عادية بوجود حكومة وشعب، يصبح غريباً في الإطار الفلسطيني لسبب بسيط، هو انه نشأ ويمر بعملية ترسخ، قبل أن تنجز الحركة الوطنية الفلسطينية مهامها بالتحرر من الاحتلال وتحقيق الاستقلال، وفي وقت أصبحت الحاجة فيه لمنظمة التحرير كإطار جامع أكبر من أي وقت مضى.

إنه يحدث معظم أجزاء الضفة الغربية والقطاع تحت الاحتلال، وبشكل تغدو معه معظم امتيازات السلطة، بما في ذلك حرية التنقل بين الضفة الغربية والقطاع، محكومة بالإرادة الإسرائيلية.

وعمقت هذه الظاهرة التداخل الحاد بين المهمات الوطنية والاجتماعية وما يجره معه من ارتباك يعانيه الجمهور، مصدره التضارب بين النزعة الطبيعية للمطالبة بحقوقهم وحصتهم من السلطة، وبين الإدراك بأننا جميعا محاصرون بسور من الاحتلال واستيطان لا يتوقف عن التوسع. وقد كان هذا الوضع مسئولا عن الشعور المضلل لدى الكثيرين بأن وقت جني المكاسب قد حل، وما خلقه من نزوع عارم نحو الذاتية والبحث عن المصالح الخاصة، في إطار انهيار قيم "الكفاح من أجل الهدف المشترك". ولعل أخطر نتائج الوضع أنه يؤذي إمكانية حشد الطاقة الجماهيرية لتحسين ميزان القوى في إطار المفاوضات، ويجعل القيادة الفلسطينية أسيرة لمقولة "عدم وجود بديل للمفاوضات الجارية"، مع أن أولويات علم التفاوض انك لا تخوض أية مفاوضات قبل معرفة وتكوين البديل لها، ذهنياً على الأقل، وإلا فان المرء يصبح أسيراً لإملاء الطرف الآخر، شاء أم أبى.

وثالثا، فان ما جرى أدى إلى نشوء فصل بين الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وعمق هذا الفصل التراجع المتسارع  لدور منظمة التحرير ومكانتها العربية والدولية، بانتقال مركز القرار الفلسطيني كليا إلى الداخل. ولغرابة الأشياء، فان لحظة عودة القيادة الفلسطينية إلى الداخل، والتي كان من المتوقع أن تترافق مع انصهار طاقات الشعب الفلسطيني لدعم بناء دولة المستقبل في الداخل، تحولت إلى لحظة انفصال جديد ومزدوج، أولا عن أبناء الجالية الفلسطينية في أوروبا والولايات المتحدة، الذين لم تقنعهم ترتيبات "السلام"، وهم الذين كانوا دائما بحكم موقعهم الأقل استعداداً لقبول الحلول الوسط، وثانيا عن أبناء الشعب الفلسطيني في لبنان وسوريا ودول عربية أخرى، الذين شعروا بأن منظمة التحرير غدت مشغولة عنهم عن قضاياهم بانغماسها في بناء السلطة الفلسطينية، ولم يخلُ الأمر بالطبع من شعور بالمرارة بأنهم قد استخدموا، وتركوا لتصبح قضيتهم جزءا من قضايا التفاوض النهائية، التي ستخضع لسنوات من المساومات. ومرة أخرى فان الفشل في الفصل ما بين عمل وميزانية وهياكل منظمة التحرير الفلسطينية وتلك الخاصة بالسلطة الفلسطينية أدى إلى تراجع مريع لإمكانيات تفعيل طاقات أبناء الشعب الفلسطيني في الخارج، واستخدامها بالتالي لتحسين توازن القوى في المفاوضات اللاحقة.

ولعل الهاجس المتواصل إزاء مركزة صنع القرار، والإفراط في مركزته، قد ساهم بقصد أو بدون قصد في إضعاف قدرة هذا القرار، كما حدث مراراً في التاريخ العربي.

أما الأثر الرابع الذي تركه الاتفاق، فكان انفتاح باب التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. ولم تكن الاتفاقية الأردنية الإسرائيلية مفاجأة لأحد. ثم انطلقت إسرائيل تحاول نسج آلاف الخيوط الدبلوماسية والاقتصادية مع العالم العربي. واستخدم اتفاق أوسلو في هذا الإطار، لاتهام الفلسطينيين بالمبادرة في الخروج على الإجماع العربي. وإذا كان نتنياهو قد بدد الكثير من فرص إسرائيل بسلوكه الأرعن، فان الجانب الفلسطيني بحاجة إلى جهد كبير كي يحسن الاستفادة من التناقضات القائمة بين إسرائيل ومصر وسوريا وغيرها من الدول العربية، خاصة وان الموقف الأمريكي يقف بالمرصاد لأي جهد عربي موحد في هذا الاتجاه.

وفي ظل هذا النتائج، لم يكن غريبا أن تتحول عملية المفاوضات من مفاوضات بين طرفين إلى عملية إملاء من طرف واحد.

لقد ذهب الفلسطينيون بعد أوسلو إلى طابا ليترجموا إعلان المبادئ إلى تفاصيل على الأرض، وفوجئوا أولا بحجم الاستعداد الإسرائيلي، وثانيا بحجم سوء استعدادهم أنفسهم، وثالثا، بحجم الفرق بين الأوهام المدعومة بالتمنيات وبين العناد الإسرائيلي المستند إلى القوة والتخطيط.

وهكذا ولد اتفاق القاهرة-أوسلو، ليشكل ترجمة مريعة ومحزنة لاتفاق مبتور أصلا، وبدأت المفاوضات تتحول من مكان للتباحث بين طرفين إلى إطار لإملاء من طرف واحد، ولعب دورا في ذلك كل من :-

1 )     ضعف الجانب الفلسطيني وتلهفه الملح إلى إنجازات يقف عليها ويقدمها لشعبه، إلى درجة غدت فيها المفاوضات الإطار الرئيس للفعل السياسي.

2 )     الاعتماد المتصاعد مالياً واقتصادياً وأمنياً على الجانب الإسرائيلي، الأمر الذي أخذ مجراه بدءا من اتفاق باريس الاقتصادي، وصار يتصاعد مع كل اتفاق جديد.

3 )     الغياب الكلي لوجود وسيط دولي يلعب دور الحكم بين الطرفين، أو يكون على الأقل الضامن لتنفيذ الاتفاقات المعقودة. وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت في تحييد عنصر الوساطة الدولية، وأخرجت أوروبا وروسيا كلياً من إطار التأثير الفاعل في المفاوضات، وبذلك تحولت رعاية المفاوضات إلى احتكار أمريكي، فإن اللوبي المناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة نجح في شل الدور الأمريكي المستقل كذلك. وكان احتكار دنيس روس لإدارة المفاوضات أحد تجليات هذه الظاهرة.

وبهذه العناصر والعوامل، فان مفاوضات ما بعد أوسلو تحولت إلى محفل تحاول فيه إسرائيل فرض تصورها الخاص لمختلف المسائل. وتأكد ذلك بصورة خاصة بعد شق نفق الأقصى، والاشتباكات التي تلت ذلك. وأتاحت الهبة الجماهيرية للسلطة الفلسطينية فرصة لا تعوض لإعادة ترتيب الأوراق، غير أن ذلك للأسف لم يستثمر. وعلى عكس المطالب الفلسطينية، فان اتفاق أوسلو فتح من جديد للمفاوضات بشأن الخليل، وجرى تغييره تحت الضغط الإسرائيلي ليتم تقسيم الخليل ويبقى 20.000 مواطن فلسطيني و 20% من مساحة المدينة تحت الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر، رضوخاً لحاجات 400 مستوطن يقيمون أصلا بصورة غير شرعية في المدينة.

وواصلت حكومة نتنياهو توجيه الضربات لاتفاق أوسلو عندما ألغت عمليات إعادة الانتشار الثانية والثالثة، وألغت الإفراج عن المعتقلين وفتح الممر الآمن بين غزة والضفة الغربية، الخ....

إن المأزق الذي تعيشه عملية المفاوضات حاليا، هو مأزق استراتيجي لا يمكن الخروج منه بمناورات تكتيكية أو بأنشطة ذات مضمون رمزي، كالمفاوضات حول المطار والميناء. كما أن عروض رئيس الوزراء الإسرائيلي حول إعادة الانتشار تبدو أقرب لمحاولات ذر الرماد في العيون، وللتملص من ردود الفعل الناجمة عن ممارسته لعملية قتل متعمد لاتفاق أوسلو، وهي عروض ترمي لكسب الوقت للنشاط الجاري على أرض الواقع بهدف تحديد معالم حل نهائي، تضم بموجبه إسرائيل معظم أراضي الضفة الغربية."

نهاية المقال الذي كُتب في آذار 1998.

وما أشبه اليوم بالبارحــة.

بقلم/ د. مصطفى البرغوثي