بعد ربع قرن على الخطيئة الأوسلوية , لن ينفع الستر بغطاء المعاناة والحاجة والضعف وغياب السند والنصير , لا تبرير يوجد ولا بأي لغة في الكون , تقبل حروفها الترويج لجريمة الإعتراف بالكيان الصهيوني ومنحه شرعية على ما يقارب 80% من الأرض الفلسطينية , لقد شكلت إتفاقية أوسلو الطعنة المسمومة في ظهر القضية الوطنية الفلسطينية , وأسست للتراجع المفجع في مسار الحقوق الراسخة للشعب الفلسطيني , وتلاعب الساسة بالمصطلحات وإصطف المصفقين في طوابير المنفعة الشخصية أمام مائدة أوسلو , حاول قطيع الهزيمة أن يصور لنا إتفاقية الإعتراف والبيع على أنها نصراً كبيراً على طريق التحرير والدولة , آملا بإقناع الشعب الفلسطيني بالقبول بهذا الهراء الكارثي , هل يصبح الثائر الذي خرج بروحه وماله لقتال الإحتلال وسعياً لتحرير الأرض والمقدسات شريكاً في بسط الأمن للصهاينة , ومساهماً في توفير مقومات إستمرار إغتصاب فلسطين ؟! , أي عقلية شيطانية تلك التي سمحت بزرع ثقافة الخنوع والتسليم لسطوة الصهاينة وحلفائهم من قوى الإستعمار الغاشم ؟! .
أوسلو تزويراً للسياق التاريخي للصراع مع الإستعمار وأدواته على أرض فلسطين , أوسلو عملية الخداع والسحر على وقع أوهام "السلام " الأكذوبة , هل يؤمن السارق بالسلام ؟ , هل يعتقد القاتل الجزار بحق للضحية في العيش بحرية ؟ , وهو الذي حشد قطاع الطرق وسفاكي الدماء وجزاري الأبرياء , ليزرعوا في كل قرية وبلدة فلسطينية مجزرة دموية تفوق جرائم العصور الوسطي قبحاً ودموية , أوسلو الشر المطلق , الذي إستحضر عفاريت التطبيع ليتراقصوا فرحاً في حفل بيع فلسطين داخل حديقة البيت الأبيض ,أوسلو إنفراط العقد لمقاطعة الصهاينة في كثير من دول أفريقيا وأسيا وأمريكيا اللاتينية , أوسلو عقد الزواج الذي شرعن العلاقة المحرمة السرية بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني .
وفي سرد سريع للموبقات التي طفح بها إتفاق العار الأوسلوي, يتبين لنا حجم الفاجعة التي أصابت القضية الوطنية الفلسطينية في خضم صراعنا ومقاومتنا على طريق إنتزاع حقوقنا وتحرير أرضنا المحتلة .
ألم تفرط إتفاقية " أوسلو " بالحق الفلسطيني التاريخي ؟ , ألم تنال دولة الإحتلال إعترافاً فلسطينياً منحها إنطلاقاً أوسع في العلاقات الدولية ؟, ألم تكن إتفاقية " أوسلو" بمثابة إنهاء للصراع العربي الصهيوني , فلم يعد ينظر إلى الإحتلال وكيانه , على أنه قوة إحتلال غاشمة تغتصب أراضاً عربية تضم في جنباتها أقدس مقدسات الأمة , فلقد تنزه الهالك إسحاق رابين بعد إتفاقية "أوسلو" في صلالة العمانية , وزار الجامعات الخليجية وإلتقى طلابها في معركة ضد الوعي العربي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية .
سعت إتفاقية " أوسلو " ذو الطابع الأمني , إلى تحويل المناضلين إلى حراساً للمستوطنات وفرض عليهم الزمالة لجنود الإحتلال في الدوريات المشتركة , وإحقاقاً للحق فلقد رفض كثيراً من المناضلين في حركة فتح إتفاقية " أوسلو " , الذي كان شقها الأمني أكثر وضوحاً لخطورة هذا الإتفاق على الثقافة الوطنية الفلسطينية , القائمة على الثورية ورفض الإحتلال وتحرض دوماً على مقارعة الإحتلال وإسترداد الحقوق مهما بلغت التضحيات الفلسطينية , لقد كانت إتفاقية "أوسلو" أول حلقات الإنقسام الفلسطيني بعد أن إنفرد البعض في خيار التسوية والإعتراف بالإحتلال بعيداً عن الكل الفلسطيني والمعارضة الشعبية العارمة لهذه الإتفاقية .
بعد ربع قرن على إتفاقية " أوسلو" , الرابح الوحيد هو الإحتلال الصهيوني , فلقد إنتزع القضية الفلسطينية من منصة التداول العالمي , كقضية مظلومية وتحرر لشعب وقع عليه الإحتلال الغاشم , وكل ما سمح به الإحتلال للفلسطينيين من خلال هذه الإتفاقية إقامة سلطة حكم ذاتي , بحيث يوفر مساحة للفلسطينيين لإدارة أنفسهم في الجوانب الحياتية " التعليمية , الصحية , الإقتصادية نوع ما, وقوة شرطية لحفظ الأمن الداخلي ", وهو بذلك يرسم حدود طموح المفاوض الفلسطيني بمقياس دقيق لا يسمح بتطور الكيانية الفلسطينية , علماً بأن المدة القانونية لإتفاقية "أوسلو" أربعة سنوات , وبعد تنكر الإحتلال لقضايا الوضع النهائي , وفشل عملية التسوية خلال مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000 م , وإندلاع إنتفاضة الأقصى وإغتيال رئيس السلطة ياسر عرفات بالسم , ومؤخراً إنكشفت خديعة الوسيط الأمريكي الذي كان ولازال شريكا في العدوان على شعبنا , وهذا ما أكدته قرارات ترامب الأخيرة التي تستهدف القضية الفلسطينية , بالرغم من كل ذلك تصر السلطة على التمسك بإتفاق أوسلو وتستمر بإدارة مؤسساتها وفي طليعتها الأجهزة الأمنية بموجب بنود هذا الإتفاق الذي ينص على التعاون والتنسيق بين السلطة والكيان الصهيوني .
ما نحتاجه بعد ربع قرن من إتفاقية " أوسلو " ونتائجها الكارثية على القضية الفلسطينية , إلى مراجعة وطنية شاملة لهذا المسار العبثي الفاقد للإجماع الوطني , والإسراع بسحب الإعتراف بالكيان الصهيوني , ووقف العمل ببنود إتفاقية "أوسلو" المنتهية بحكم القانوني الدولي لا يوجد إتفاقيات مؤبدة , وتفعيل الحوار الوطني الشامل , من أجل إنهاء الإنقسام الفلسطيني الذي كان أحد إفرازات " أوسلو " , وصولاً لبرنامج وطني تحرري , والإستفادة من تفعيل كافة طاقات وإمكانيات شعبنا الفلسطيني في معركة التحرير والإستقلال .
بقلم : جبريل عوده*
كاتب وباحث فلسطيني
13-9-2018